منتصف تسعينيات القرن الماضي، ذهبت في زيارة مجاملة لصديق، كنت أيامها شابا محبطا مما آلت إليه أوضاع الجزائر، فتنة طاحنة تأكل أبناءها دون أدنى سبب وجيه، خدمة مجانية لأعدائها هكذا بكل بساطة، المهم دخلت مكتب الرجل لأجد ضيفا لم ألتقه من قبل، عرفه بشخصي ثم عرفني به: حضرة الجنرال طواهري قائد القوات العسكرية بالجنوب، وما كدت أجلس حتى فاجأني الجنرال بالقول: ها قد جاء من يحكم بيننا، وشخصيا سأرضى بحكمه؛ لقد كنت في نقاش حاد مع حضرة العقيد، حول سلامة سياسة المؤسسة العسكرية، وتدخلها المفرط وغير الموفق في الشؤون السياسية للبلد، وها هي نتائجه تظهر للعيان وخيمة أقلها وهو الأعظم ضررا تلطيخ هذه المؤسسة بدماء الشعب، سيسجل هذا وصمة عار علينا للأبد، ولا بد من وضع حد لهذه السياسة الرعناء، التي لا ريب ستؤدي بالبلد إلى الهاوية، ولا يجب بأي حال من الأحوال السكوت عن هذا، فمجموعة الجنرالات التي اتخذت قرار الانقلاب المشؤوم (1992)، والتي دعت محمد بوضياف (الرئيس المغتال فيما بعد) لا تزيد عنا رتبة ولا وطنية وعلينا فعل شيء لوقف طاحونة الفتنة العمياء، وها هو يخالفني الرأي فماذا تقول أيها ‘السيد’؟

وحتى أكون أمينا في توثيق هذا الموقف، كانت تقاسيم وجه الرجل تعبر بقوة عن صدقه، وقناعته بما يقول، أو على الأقل هذا ما بدا لي، مع ذلك كانت الثقة قد انعدمت في معظم رموز المؤسسة العسكرية حينها ـ وأخشى إلى اليوم ـ والفتنة قد دارت رحاها ولم يعبأ برأي الحكماء فضلا عن أمثالي قبل دوران عجلتها، كان قد سبق السيف العذل، وعلى هذا الأساس لم أجد جوابا إلا القول: يا سيادة الجنرال أنت يمكنك الحكم على أوضاع البلد من الموقع الذي تتبوؤه، وأما العبد لله فمجرد فلاح لا يملك من المعلومات ما يؤهله للفصل في موضوع خطير كهذا. انفعل الرجل حتى كاد يقوم من أريكته رافعا صوته في وجه العقيد مزلزلا جدران المكتب: أنظر ماذا صنعنا بأيدينا، أنظر إلى جواب هذا الشاب أكاد أقسم بالله أنه أدرى مني ومنك بالحكم الصواب، ولكن بهذه السياسة العمياء بات لا يثق في جنرال من جنرالات الجيش، أليست مصيبة ألا يثق في ابني؟ هذا الجيل الذي نعده للمستقبل وحمل أمانة الجزائر بشهدائها وتضحياتها ضربنا بيننا وبينه بجدار من حديد، انه يعلم أني صادق ولكنه لم يعد يثق بي، ألست ترى بأم عينك النتيجة! هذا الطراز من الرجال لن يستجيب لنا إن دعوناه للنهوض بالمسؤولية، لأننا أعدمنا ثقته فينا، ماذا يعني ذلك؟

يعني بالضرورة أن من قاموا بالانقلاب سيستأسدون على الشعب بالمرتزقة والحثالة من الناس، ليعيثوا في هذا الوطن فسادا، وراح الرجل في موجة غضب تكاد تكون هستيرية، وصاحبي يخفف من وطأة الحوار وحدته؛ مضت بضعة شهور على هذا الموقف الذي لم أذكره لأحد، وذات صباح أطالع في الصحافة الوطنية نعي الجنرال، لقد استشهد رفقة رائدين على ما أتذكر اثر سقوط مروحية كانت تقلهم. تذكرت الاسم فذهبت لأحد رجالات الجزائر ممن يعرفون عن قرب قيادات المؤسسة العسكرية وسألته بعد أن قصصت عليه تفاصيل الموقف، عن الرجل فكان الجواب صادما بالنسبة لي: نعم إن الجنرال كان صادقا، وإني اعتبره شهيدا من شهداء الجزائر، وأما حادثة المروحية فعليها أكثر من علامة استفهام.

أسجل هذه الشهادة اليوم، وأنا على يقين بأنها ستثير غضب البعض، ولكن لا بد مما ليس منه بد للتذكير بأمرين اثنين، الأول: للتأكيد مرة أخرى لأولكم الذين يصدرون أحكاما مطلقة على فساد جميع رموز المؤسسة العسكرية والأمنية، والواقع خلاف ذلك، فمن بينهم رجال وطنيون يملكون نظرة ثاقبة ترتكز على المصالح العامة للشعب، ولا يألون جهدا على بقاء دور هذه المؤسسات في حفظها والذود عن حياضه، ولو اقتضى الأمر التضحية بحياتهم التزاما بمبادئهم وأخلاقهم الرفيعة، ولا يحق لنا منطقا وعدلا سحب سفاهة البعض وحماقته على الجميع، بل لعل من أبسط حقوق هذا النوع من الرجال علينا، التذكير بمواقفهم وتوثيق شهامتهم وتضحياتهم، مع التنويه بأن أمثالهم موجودون إلى اليوم، وأحوج ما يكونون إلى الاعتراف لهم بهذا الوجود ومد اليد لهم.

الثاني والذي لا يقل خطرا عن الأول، تذكير القائمين على هذه المؤسسات تحديدا، بما أشار إليه الجنرال وهو اعتماد المرتزقة والطفيليين لطحن هذا الشعب أمر لا يصب بحال في مصلحة بناء الدولة، وهو ما كنت أشرت إليه سابقا عبر هذه الصحيفة في مقالات عدة موجهة بجرأة لجهاز المخابرات الجزائرية وكافة المؤسسات الأمنية، داعيا إياها للاضطلاع بمهامها الوطنية، والترفع عن التبعية للأشخاص حتى وإن كانت القيادة متى تعارضت أوامرها مع المصالح العليا. أكتفي هنا بالتذكير أن بين أعضاء مجلس الشيوخ أو ما يسمى مجلس الأمة، رجالاً صدرت بحقهم أحكام في قضايا جنائية قبل توليهم هذه المناصب الحساسة، ومنهم من ثبت لدى القضاء تورطه في شبكات تهريب السيارات المسروقة من أوروبا، وغيرها من الفضائح التي طالت حتى الاعتداءات الجنسية على القصر، ورفض مجلس الأمة رفع الحصانة عنهم لتسقط هذه القضايا بالتقادم قانونا، وأقول بكل صراحة هنا أن من يتحمل المسؤولية بالدرجة الأولى هم النخبة تحديدا من المؤسسات الأمنية، ولن أذكر بالمناسبة دور هيئة جمعية علماء المسلمين والمجلس الإسلامي الأعلى، فحالهم أشبه بأهل الكهف نوما لا صلاحا، ولا بنخبة المفكرين والكتاب والصحافيين، الذين مع الأسف اختاروا حال من إن حملت عليه يلهث وإن تركته يلهث.

فساد هؤلاء ليست اتهامات جزافية من عندياتي، لعل آخر تصريح في هذا الشأن صدر من تحت قبة البرلمان ذاته، حيث أشارت أمينة حزب يحظى بمجموعة نواب، في خطاب وجهته للصحافة المحلية والدولية منذ مدة وجيزة، تقر فيه أنه لو رفعت الحصانة البرلمانية على أعضاء المجلس الشعبي الوطني، لأدخل ثلثه (أي 120 نائبا في البرلمان) السجن في قضايا جنائية تراوحت بين القتل العمد ونهب المال العام وفساد الذمم؛ لن تبنى الجزائر الدولة بهؤلاء الذين شهد عليهم من أهلهم قطعا، وسقف البناء لن ينهار عليهم لوحدهم فحسب… ويقينا لمن يؤمن بيوم الحساب أن الجميع سيدفع بين يدي الله ثمنا غاليا بمن فيهم الشياطين الخرس ولن ينفع يومئذ ندم ولا حسرة..

إسماعيل القاسمي الحسني
فلاح جزائري
ismailelkacimi@gmail.com
26 أوت 2010

 
المصدر: جريدة القدس العربي

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version