لا شك أن شعور ‘الوطنية’ فطري، يبدأ بعلاقة المرء بمكان مولده ونشأته، ثم تتمدد أواصره أفقيا مع عناصر محيطه وعموديا، ويتغير بعد ذلك تبعا لعوامل عدة، أساسها التربوي والتعليمي، لكن على العموم لا يمكن المزايدة حوله، ما لم تكن الأعمال مضرة فعلا بمصالح الوطن عن سابق إسرار، في مثل هذه الحال فقط، يمكن التساؤل والاستفهام.

آثرت اليوم طرح هذا الموضوع الذي قد يكون أخطر ما يمكن تناوله، لسببين الأول طمعا في خروج النخبة الجزائرية من حالة الغيبوبة العميقة، التي دخلتها مع فعاليات كأس العالم، والثاني أني أمهلتها أسابيع، بعد أن فجر أستاذ جزائري عبر قناة ‘الجزيرة’، قنبلة التجارب النووية في صحراء الجزائر، عسى أن يتناول أحدهم هذا الموضوع بما يستحق، ولكن إلى غاية اليوم لم يجرؤ مفكر وطني جزائري على ذلك.

حصة ‘بلا حدود’ للإعلامي المتألق أحمد منصور، استضافت يوم 26/05/ 2010 السيد عباس عروة أستاذ الفيزياء الطبية بجامعة لوزان بسويسرا، عرض خلالها عدة أمور غاية في الخطورة، يكفي واحد منها إثارة إعصار في البلد المعني بها، قد يجعل عاليها سافلها، ولكن في جزائر المعجزات صمت القبور، كأنما الرجل تكلم عن أحداث في القطب الجنوبي. كثيرة هي النقاط التي استوقفتني غير أنني أقف عند اثنتين:

أولا- تضمنت الملحقات السرية لاتفاقيات ‘افيان’ حق فرنسا في مواصلة تجاربها النووية في الصحراء الجزائرية، إلى غاية 1967، أي إلى خمس سنوات بعد الاستقلال.
ثانيا – وهو الأهم والأخطر، أن فرنسا واصلت تجاربها النووية إلى غاية 78/1979 دون ذكر اتفاقيات معلومة، سرية كانت أو معلنة؛ يزيد من خطر هذه المعلومة الموثقة، أن هذه التجارب المدمرة طبعا، كانت على امتدادها الزمني بمساهمة خبراء من الكيان الإسرائيلي.

لا تسمح المساحة لتناول تفاصيل جرائم الاحتلال بهذا الشأن، لعل من أبشعها تلكم التي أشار إليها حول صلب أسرى مجاهدين أحياء على أعمدة تبعد 2 كلم عن نقــــطة تفجير القنبلة النووية، لدراسة نتــــائج التأثيــــر عليـــهم، هذه الجريمة بلغت علم السلطة الجزائرية قبل اتفاقيات افيان.

إن صحت هذه المعلومات، التي فجرتها صحيفة ‘ لوموند’ الفرنسية، أواسط تسعينيات القرن الماضي، ثم أكدتها مصادر أمنية غربية، ليقدمها الأستاذ الجزائري على الهواء موثقة، يمكن إذن القول بأن مصيبة الجزائر مركبة من مجموعة مصائب، لن أذهب أبدا في تجريم الاحتلال، وتحميله مسؤولية نتائج هذه الأعمال التي ترقى إلى وصفها بجرائم ضد الإنسانية، بل أذكر هنا بمقال صدر للكاتب اثر زوبعة أثارها نواب حزب جبهة التحرير لاستصدار قانون يجرم الاحتلال الفرنسي، وضعت له عنوانا ‘الأزمات الدبلوماسية الجزائرية وأعراس البغال’ (في 23/02/2010′ القدس العربي’) أكدت فيه، أنه يستحيل على السلطة الحاكمة في الجزائر أن تصدر تشريعا كهذا، لأنها وبكل بساطة الوجه الآخر للمحتل من حيث السياسات، وهي ذات الإشارة التي ضمنها تصريح وزير الخارجية الفرنسي ‘كوشنير’ ردا على تلكم القنبلة الصوتية، التي أرسلتها أبواق الحكم للتعمية على فضيحة شركة ‘ سوناطراك’ أيامها، راحت على إثرها قرابة 20 مليار دولار إلى جيوب المقربين.

المهم، إذا تجاوزنا الملحقات السرية لاتفاقيات ايفيان، والتي بمقتضاها تتوقف فرنسا عن تجاربها النووية عام 67، كيف يمكن تفسير مواصلة هذه الجريمة إلى غاية 78/79؟ وبما أن النظام الجزائري لا يرد على هذه التساؤلات الخطيرة الموجهة إليه مباشرة،عبر وسائل إعلام دولية مرموقة، وضع نفسه آليا محل الاشتباه إن لم يكن محل الاتهام بالخيانة العظمى في حق الوطن والشعب، ليس فقط فيما يتعلق بالتجارب النووية بحد ذاتها، ولكن للظروف والملابسات كذلك؛ فعام 67 للتذكير هو عام العدوان الإسرائــــيلي الذي انــــتهى بتدمير الجيش المصري، واحــــتلال القـــــدس الشريف والأقصى المبارك وسيناء والجولان وجنوب لبــنان، كيف بعد هذا الحدث العظيم والجلل، يقوم خبراء هذا العدو بالمتابعة الميدانية للتجارب النووية الفرنسية في صحراء الجزائر؟

كان الشعب الجزائري المسكين، يعتقد ولازال بأن الرئيس الأسبق الهواري بومدين، هو العدو العنيد لفرنسا حتى بعد الاستقلال، لكن هذه المعلومات التي لم تفندها وزارة الخارجية ولا غيرها من مؤسسات النظام، أو تكذبها على الأقل، تؤكد أن هذه الجريمة النووية تواصلت على امتداد حكمه وإلى غاية نهايته، والملاحظ هنا أن الرئيس الحالي للجزائر عبد العزيز بوتفليقة، كان وزيرا للخارجية حينها، وبحد زعمه الرجل الثاني في النظام، بمعنى أن الموضوع لا يخص حقبة معينة بل يمتد للنظام القائم الآن، ذلك أن هذه التجارب الجريمة لم تتوقف إلا باستلام الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد السلطة، وبعد الانقلاب عليه عام 92، من قبل سلطة الظل الحاكمة إلى اليوم، عادت الدراسات لنتائج التفجيرات كعهدها الأول، وأخطر ما فيها أنها دفعت (سلطة الظل) الرئيس المغتال محمد بوضياف، لفتح المعتقلات لحشر آلاف الجزائريين، في نفس مواقع التفجيرات النووية، وادي الناموس- رقان- عين امقل، حتى يعاين على ما يبدو الخبراء، مدى تأثير الإشعاعات على البشر بعد مضي 20 و30 عاما من لحظة تفجيرها، وإن صح هذا، لعمري انه يتجاوز الخيانة العظمى إلى ما لا أجد له وصفا. ذات السلطة جاءت بالرئيس الحالي باعترافه، وهو من ادعى بنفسه أنه كان الرجل الثاني في المرحلة الأولى من جريمة التجارب النووية 67/79، والكل هنا مسؤول على توضيح الأمر للشعب حول هذه القضية الخطيرة.

وإن كانت السلطة قد اختارت أن تبقى اليد الطولى للمحتل، ولا تلتفت ولا ترى أن من واجبها دفع هذه الاتهامات، بحكم أنها تراها عملا مشروعا من حيث موقعها في طحن هذا الشعب، ونهب ثرواته، وإفساد أخلاقه، وتبديد أمواله، وإباحة أرضه وعرضه لعدوه وغيرها من الاستبداد والظلم، فالمركب الثاني للخيانة العظمى تتولاه نخبه الفكرية والدينية، بعد مراجعتي لهذا الملف وما تناولته وسائل الإعلام الدولية، لم أقف على رجل دين أو فكر، في حدود مطالعتي الضيقة والمتواضعة لجميع الصحف الجزائرية، رفع صوته مستوضحا الأمر، والحال تقتضي وضع السلطة أمام المساءلة القانونية والشعبية، وتستدعي استنفارا جديا لكشف حقائق هذه الجرائم والخيانة التي تمت في حق الجزائر أرضا ومواطنين، ومتابعة عملاء الاحتلال وأزلامه الذين تواطؤا معه على جريمة ضد الإنسانية في حقنا؛ مع الأسف الشــــــديد لم أسمع صوتا حرا واحدا، كما قلت سابقا كأنما الذي حدث ليس في الجزائر بل في القطب الجنوبي؛ ألا يعد موقف كهذا من النخب خيانة عظمى في حق الوطن؟ هل من الوطنية السماح لفرنسا باستغلال صحرائنا لتجاربها النووية أساسا؟ ثم دون اتفاقيات؟ وهل من الوطنية حين يفجر هذا الموضوع الخطير عل مستوى مؤسسات إعلامية مشهود لها بالكفاءة العالية والمهنية، وتعد الأكثر مشاهدة ومتابعة، تعرض عن ذكره صفحا النخب؟ بكل صدق لن أجهد نفسي في انتقاد السلطة فقد وهن عظم العقل منها واشتعلت أخلاقها عيبا، وإن كان من عتب فعلى من حملهم الله أمانة العلم والفكر، اللهم انك تعلم أن هذا أقصى جهدي وأبرأ إليك مما فعلوا ومما يصنعون ومن كل ساكت عن الحق.

إسماعيل القاسمي الحسني
فلاح جزائري
ismailelkacimi@gmail.com
20 جوان 2010

المصدر: جريدة القدس العربي

تعليق واحد

  1. deikh fi bled el fei بتاريخ

    RE: هل تعرضت الجزائر لخيانة عظمى مركبة؟
    إن من يركب diesse palace ويدخن السيجارويسخر من الفلاح أ/ام كامبرات التلفزيون ويتزوج ٌقاورية لا ننتظر منه الكثير

Exit mobile version