لم أكن أنوي القيام بكلمة التأبين هذه، التي تبكي فراق سي العربي الذي رحل عنا، ولا الحديث عن مكانة هذا الرجل العظيم في المجتمع الجزائري، طالما أنّ الكلمة ليست للشعب، ولكن التشريفات والظروف التي رافقت إعلان وفاته، ونبش خالد نزار قبر بلوصيف قبل أن يجف ترابه، من خلال نشر بعض الوثائق على صحيفة الخبر الأسبوعي، دفعوا بي لأن أقوم بهذا الجهد المتواضع عرفانا مني بخشونة رأس هذا الرجل الذي بكاه التلفزيون على لسان فريدة، في رسالة مطولة من عبد القادر المالي.

في غياب الأدباء والكتاب الرُّحماء، الذين آثروا السكوت، لست أدري هل هي خشية منه حتى في قبره أم هي رهبة ممّن حوله؟ أحببت أن أذكركم ببعض صفات الرجل وأتمنى أن تثقوا في شهادتي مثلما ثقتم في التلفزة وهي تؤذي مسامعكم على غير المباشر بذكره، وكأنها تتحدث عن سي العربي بن مهيدي.

في شهر جانفي عام 2010، حيث الزمهرير الشديد يُغطي الأسْطُح والمباني، آثر سي العربي بن مهيدي، عفوا بلخير، رائد النهضة الجزائرية الحديثة الرحيل عنّا في صمت، غير مبال بملفات الفساد التي طفحت على صفحات الجرائد، واختار مُعلنو وفاته “جو كأس إفريقيا” ومهزلة الحكَم البينيني كوفي كوجيا الذي طَرد بعض اللاعبين مثلما طُرد أعضاءُ البرلمان والأطباء في المستشفيات بالعصي والهراوات، وكأنّ الأمر مُحبك ومُعد، ليتم دفن سي العربي في بن عكنون وليس مقبرة العالية التي نعود إليها في آخر المقال.

اختار سي العربي الذهاب في جانفي شهر الانقلاب على الإرادة الشعبية، عفوا يا سادة هي فقط مُجرد زلة لسان مُتكررة، كتكرار الحدث في شهر جانفي، واشتباه الإرادة واللاّإرادة، وكأنّ سي العربي يخشى على نفسه من ارتفاع درجة الحرارة، أو أراد أن يحتفظ بالبرودة لفصل الصيف القادم، لست أدري هل وضَعَهُ مُحبّوهُ في ثلاجة دائمة أم سيختارون له هوائيات مُقعرة عندما تصل درجة الحرارة في الصيف إلى ما فوق الخمسين، ويذوب شحمه ولحمه مثلما يذوب التجميل؟

كان على سي العربي الذي يتتعتع بالعربية مثلما يتتعتع يزيد زرهوني أن ينتظر دورة جنوب إفريقيا ونهائيات كأس العالم لا أن يرحل عنّا في هذه الأيام، خاصة وأن هناك الكثير من الملفات فوق الطاولة وأخرى تنتظر إعادة التحقيق من جديد، وكان عليه أن يذهب ليُسلم على مانديلا ويسأله عن المصالحة الدائمة، قبل أن يخرج ببطاقة حمراء ويغادرنا بهذه الطريقة وهذه الكيفية اللاّتصالحية.

حضر جنازة سي العربي كل المحبين والمخلصين ومنقذي المرادية من الإرادة الشعبية عرفانا له، فهم الذين قدّم لهم سي العربي خدماته الجليلة أيام أن كان من أصحاب القرار، فهو الأب الحنون الزاهد في الحكم، وهو الذي يقيم الليل ويُحيى النهار بالدسائس عفوا بالقرآن، وهو المجاهد الذي كانت تخشاه السلطات الفرنسية الاستعمارية عندما كان صف ضابط عندها يُمدّها بالمعلومات، فهو الأسد الذي تعرفه جرجرة مثلما تعرف عميروش وتحبه جبال الأوراس مثلما تحب سي العربي بن مهيدي.

سي العربي من عائلة مجاهدة فهو ابن قايد، كان رمزا للثورة الجزائرية ومن مفجريها، سلّم له أبوه المشعل قبل أن يسقط شهيدا في معركة الجزائر كما سقط علي لابوانت وحسيبة وكلّ الشرفاء، قام بالكثير من العمليات الجهادية والاستشهادية، و كبّد فرنسا خسائر فادحة، ولازال الفرنسيون يذكرونه بخير مثلما يذكرون سليمان بن مقدم والد الاسم المستعار أنيس رحماني حتى اليوم، في كتبهم وفي مؤتمراتهم، وفي سير الرجال عندهم، مثلما تؤكد ميدالية الصليب التي حاز عليها.

مؤلفات سي العربي وعلمه طافت كل أرجاء الجزائر بل تعدّت المحيط، فقد ترك نظريات لا تُمحى من ذاكرة الجزائريين، حيث أصبحت تُدرس في الجامعات وفي طور الابتدائي والمتوسط والثانويات، وتُكتب حتى في خُطَب الجُمعات فهي صدقة جارية مثل المطحنة وغيرها من المشاريع نحسبها كذلك والله حسيبه.

رحل عنا سي العربي بعد أيام فقط من رحيل بلوصيف، هذا الأخير الذي اقترحه على الشاذلي ليحافظ على توازن الجهوية بين الشرق والغرب قبل أن تميل الكفة وينقلب السحر على الساحر، وترك سي العربي الآلاف من الأيتام وضحايا المأساة وغاب عنا، ولسنا ندري هل سيتكفل عنه من رافقوه إلى مثواه بالإجابة عندما يُسأل عن كل شاردة وواردة، أم سيتولى بنفسه الإجابة لعلمه وورعه، أم سيختار نزار مدافعا له فهو الجننار الأكبر، أم سيستشهد باسماعيل العماري الذي قال على لسان سمراوي من أنه مستعد لقتل ثلاثة ملايين جزائري؟

رحل سي العربي مش بن مهيدي بل بلخير ولم يترك ديْنا بل ترك شعبا، كلّ من تذكر أيامه، بكى دما وقال: رحمك الله يا رائد الثورة الجزائرية ياسي العربي بن مهيدي، فأنت رمز العروبة والإسلام والجزائرية الحقة، أنت رمز الشهادة والجهاد، أنت رمز التضحية والوفاء… استشهدت من أجل أن تحيا الجزائر عزيزة مُكرّمة، وأن يعيش أبناؤها وفق بيان أول نوفمبر، وجاء الجبناء والخونة من بعدك فسرقوا تضحياتك وأذاقوا الشعب المرارة وأهلكوا الحرث والنسل.

في الأخير وإلى غاية التحاق أحد أصدقائه به، أطرح السؤال:

هل أوصى سي العربي بأن يُدفن في بن عكنون على مقربة من مكان التعذيب أم هي صدفة فقط أم خوفا من اجتثاث جثته، ولماذا لم يضعه مُحبوه في العالية مثلما هي التقاليد المعمول بها، أم خشي هؤلاء أن يحتج بوضياف ومن معه ممّن قتلوا على الهواء؟

نور الدين خبابة
6 فبراير 2010

تعليق واحد

  1. غير معروف بتاريخ

    “ألا وقول الزور ! ألا وقول ا
    “”لا يـحـسـبَـنٌ الـذيـن يـفـرحـون بـمـا أتَـوْا وـيـحـبـون أن يُـحـمـدوا بـمـا لـم يـفـعـلـوا فـلا تـحـسـبـنٌـهـمْ بـمـفـازة مـن الـعـذاب ولـهـم عـذـاب عـظـيـم”” آل عمران – 188

Exit mobile version