يظل هنالك سؤال يثيره الكثير من الباحثين في شؤون السياسة الجزائرية، سؤال عن موقف الشارع الجزائري من الحركية الحزبية بكل تطوراتها وتفرعاتها وانشقاقاتها واشتقاقاتها خلال الثمانين سنة الأخيرة. ثمانون سنة بل أكثر مضت على إنشاء أول حزب سياسي جزائري كان هو “نجم شمال إفريقيا” الذي تأثر مؤسسوه من الطبقة البروليتارية الجزائرية العاملة في فرنسا بالأفكار اليسارية التي أخذت بالانتشار بعد الثورة البولشوفية، وكذلك تأثروا بنهج النضال السياسي المحض الذي اتخذه خالد حفيد الأمير عبد القادر الجزائري بديلا للمقاومة المسلحة التي ساهم تشتتها في إخمادها بعد ثمانين سنة من استمرارها (1830-1912).

واستقراء رأي الجزائري البسيط في الحركة السياسية التي تحزبت شيئا فشيئا بعد الحرب العالمية الأولى أمر صعب، بالنظر إلى أسباب موضوعية ساهم الاستعمار الفرنسي في وجودها، كانتشار الأمية الممنهجة وأحادية الرأي الإعلامي والأكاديمي وتغلب الطروحات الإيديولوجية الاستيطانية على روح البحث العلمي الموضوعي المجرد بما يجعل أرشيف تلك المرحلة على قلته بحاجة إلى تحقيق وتدقيق. لكن من الأرجح القول أن “نجم شمال إفريقيا” تراوح بين كونه بديلا غير مستساغ لمقاومة كان الجزائري البسيط يراها غير مجدية لإخراج (القاوري) وهي عبارة جزائرية مأخوذة من اللغة التركية تعني العلج، وبين تحوله مع الوقت وبعد الضربات التي تلقاها من الإدارة الفرنسية مع تغير العنوان والمنهج والقيادات إلى أكثر الحركات الحزبية شعبية في الجزائر حتى انطلاق الثورة الجزائرية. شعبية حققها “نجم شمال إفريقيا” الذي تغير اسمه إلى “حزب الشعب الجزائري” ثم إلى “حركة انتصار الحريات الديمقراطية” حققها بسبب نضاله الصريح من أجل الاستقلال على عكس الحركات اليسارية والإسلامية والعلمانية التي كان موقفها من مبدأ الاستقلال إما الرفض كما هو شأن أكثر العلمانيين الليبراليين أو العلمانيين اليساريين أو الإسلاميين التقليديين أو المواراة كما هو حال الإسلاميين الإصلاحيين ولا تخلو هذه الأحكام من استثناءات. كما أن قيادة مصالي الحاج للحزب منذ عام 1927 والمقاربة المتزنة التي اعتمدها منذ ذلك الحين بين الهوية الإسلامية العربية لسكان الجزائر الأصليين وبين مبادئ العدالة الاجتماعية رفعت عنه صفة الشيوعية التي قد تكون نفرت الجزائري البسيط منه.

وظل حزب الشعب بمسمياته السابقة واللاحقة يعكس الحد المفترض من مطالب الجزائري السياسية والثقافية والاجتماعية التي تعطي أي حزب شرعيته في التمثيل، وبقي رغم الضغوط الفرنسية التي وصلت إلى حله عدة مرات يعكس اهتمامات الشارع الجزائري إلى حد معقول بالرغم من تجاهله الإقصائي للاختلافات العرقية واللغوية بين الجزائريين ونظرته الشمولية إليها. لكن الخطأ الذي لا شك أن مصالي الحاج وقع فيه كان عدم استيعابه للتغيرات التي حدثت في الجزائر خلال الثلاثة عقود التي كان فيها زعيما لحزبه وعدم استعداده لنقل القيادة أو حتى تقاسمها مع شباب هذا الحزب، قيادة تسلمها وعمره أقل من الثلاثين وفقدها رغما عنه في منتصف الخمسين لأن قدرته على التفكير السليم تعطلت بمرض الزعامة وحب السيطرة الذي توارثه السياسيون الجزائريون بعده.

وليس المقام مقام تحليل لأسباب انهيار الحركة الحزبية في الجزائر بعد اندلاع ثورة 1954 ولكن تكفي الإشارة إلى أن جبهة التحرير الوطني لم تكن لتنجح عام 1956 في دفع الحركات الحزبية وغيرها إلى حل نفسها طوعيا والعمل تحت مظلتها لولا جو اليأس العام من الحركية الحزبية الذي طغى على عموم الشارع الجزائري والذي عززته مكابرة مصالي الحاج ورفضه تسليم القيادة للذر (الأطفال) كما نقلت عنه عدة مصادر. بالإضافة إلى تلاعب الإدارة الفرنسية بنتائج الانتخابات ونجاحها المقصود أو غير المقصود في تصوير الحزبيين على أنهم جماعة من الانتهازيين صيادي المكاسب باسم الشعب، أو الضعفاء العاجزين الذين لا يحسنون إلا الخطابة.

وتعززت تلك القناعة لدى الشعب الجزائري حتى بعد الاستقلال خصوصا أن جبهة التحرير تحولت من حركة مقاومة موحدة للجزائريين إلى حزب ذي توجه إيديولوجي شمولي ثم إلى مجلس شيوخ مكبر يتقاسم النفوذ فيه كبار الضباط والسياسيين والبيروقراطيين مع المثقفين المتسلقين ورجال الأعمال، لتتوارى وراء ذلك النفوذ مصلحة الجزائري البسيط شيئا فشيئا حتى التبخر. أما الحركات الحزبية السرية فلم تنجح في كسر جدار العزلة الذي فرضته عليها السلطة السياسية-العسكرية وانقسمت إلى ثلاثة أقسام كلها منزوعة الفتيل، قسم تعرض للنفي إلى الخارج ويشمل خصوصا شركاء الثورة أو النظام السياسي السابقين، وقسم تعرض للسجن أو الإقامة الجبرية الطويلة الأمد وقسم آخر اخترق أجهزة الحكومة والحزب الواحد أو ذاب فيها وخير مثال على هذه الحالة الأخيرة الحزب الشيوعي الجزائري الذي تغير اسمه عدة مرات إلى حزب الطليعة الاشتراكية ثم حركة التحدي ثم الحركة الديمقراطية الاجتماعية والذي  وصلت علاقته بالنظام إلى حد لم يمكن في فترة ما معرفة من منهما يخترق الآخر.

ورغم العدد الكبير للتنظيمات التي كانت تظهر وتذوي سريعا فإن أقواها كانت الحركة الإسلامية ممثلة في التيارات السلفية والإخوانية خصوصا، والحركة اليسارية ممثلة في التيارات الستالينية والتروتسكية والحركة البربرية الأمازيغية التي انقسمت بدورها إلى يمين والى يسار علمانيين.

ولعل تحليلا عميقا لفترة السرية التي عاشتها الحركات الحزبية في الجزائر بين عامي 1962 و1988 يكشف سر ضعفها الدائم واستفادة النظام السياسي من ذلك الضعف، فالحقيقة القائمة هي أن النظام السياسي الجزائري ظل ويظل إلى الآن أكثر أطراف المعادلة السياسية فهما للمعارضة على قصور في هذا الفهم، وأن الحركات الحزبية الجزائرية لا تعلم عن بعضها البعض إلا أقل بكثير مما يعلم جهاز المخابرات عنها جميعا باعتبار هذا الجهاز أقوى أقطاب النظام والمنسق بين هذه الأقطاب منذ مدة طويلة. وقد استفادت أجهزة النظام وعصبه من خبرة الاستعمار الفرنسي مع الحركات الحزبية في الجزائر فاستنسخت خبرته معها وطعمتها بما حصلت عليه من خبرات خلال سنوات التعاون الأمني المكثف مع الأنظمة الاشتراكية خصوصا منها النظامان السوفياتي واليوغسلافي وكذلك مع أجهزة مماثلة في الغرب الرأسمالي خاصة في فرنسا وأمريكا، وهي خبرات صبغت شكل تعامل السلطة مع المعارضتين السلمية والمسلحة معا.

وقد يصح إطلاق صفة الحزب السياسي غير المعلن وغير واضح الإيديولوجية على جهاز المخابرات الجزائري المسيّس، خصوصا منذ مساهمة قيادته مساهمة رئيسية ومباشرة في وصول العقيد الشاذلي بن جديد للحكم سنة 1979. هذا الجهاز الذي كان مطواعا في يد سياسيين ذوي كاريزما قوية مثل أحمد بن بلة والعقيد هواري بومدين تحول مع الوقت إلى صانع للسياسيين في الحكم والمعارضة معا ثم إلى صانع رؤساء الجمهورية بالتنسيق مع قيادات الوحدات العسكرية أحيانا وبتجاهلها أحيانا أخرى. والفرق بين هذا الحزب السياسي غير المعلن والأحزاب السياسية التقليدية ليس في صالحها، فهو يراها ولا تراه ويخترقها ولا تخترقه ويحسن استخدام قيم المصلحة العليا أكثر مما تحسنه، كما أنه أكثر قدرة على امتصاص الاختلافات الإيديولوجية بين ضباطه منها بين مناضليها.

ورغم نجاح الشاذلي بن جديد في إبعاد قيادات المخابرات التي ساهمت في المجيء به وأولها العقيد عبد الله خالف المدعو قاصدي مرباح وإحلال رجال كانوا يتصنعون الوفاء له محلهم، فإن ذلك لم يكن يعني كسره لنفوذ الجهاز الواحد رغم تفتيته إلى عدة أجهزة. لأن السلطات القانونية وغير القانونية المطلقة لذلك الجهاز بالإضافة لامتلاكه سلطة رقابية لا محدودة وتمتعه بانغلاق تكتمي غير مبرر على ذاته جعل يده العليا دائما على السياسيين وحتى على بقية العسكر. وبدل أن يخضع جهاز المخابرات للمعايير القانونية والدستورية التي تضعه تحت إمرة ممثلي الشعب تحول مع الوقت إلى مصباح علاء الدين الذي لا يفترض أن يملكه شرير ألف ليلة وليلة، لذلك راجت النظريات التآمرية الصحيحة نسبيا التي تتحدث عن الاختراق الأمني الصارخ لأحزاب المعارضة أو عن صناعة تلك الأحزاب أو عن اصطناع احتجاجات شعبية لضرب عصبة من عصب النظام أو تقوية أخرى أو حتى عن إعداد قيادات مدنية ظاهرا ثم إيصالها لمواقع سياسية قيادية داخل النظام وداخل المعارضة المدنية والمسلحة.

وعليه فإن أغلب القراءات المفسرة لاحتجاجات أكتوبر 1988 والتي عقبها مباشرة إقرار التعددية السياسية والحزبية في الجزائر لم تستطع استبعاد وجود علاقة بين أجهزة المخابرات بالاحتجاجات سواء منها تلك التابعة للجيش أو تلك التابعة للشرطة. وقد لمست حساسية الوضع بنفسي من خلال الاتهامات المتبادلة التي سجلتها شخصيا بين العميد لكحل عياط مدير المخابرات خلال تلك الأحداث والهادي لخذيري وزير الداخلية والمقدم مولود حمروش مدير مكتب الشاذلي بن جديد، اتهامات تراوحت بين تعطيل استيراد السلع الغذائية الضرورية لإيجاد حالة من الندرة التموينية والفوضى وبين تحريض مسئولين في الشرطة للمنحرفين على التخريب. وبين كل هذه الاتهامات تظل حقيقة انعزال الحزب الواحد عن واقع المواطن سواء تعلق الأمر بمستوى المعيشة أو بالأبعاد المتعلقة بالهوية أو المواطنة تظل حقيقة قائمة، انعزال تسببت فيه تراكمات سياسية عديدة منذ الاستقلال تراوحت بين إقصاء السياسيين بعضهم لبعض وتولي العسكر لمهام السياسة، ثم انتخابهم من السياسيين ثم من بين أنفسهم أضعف العناصر الممكن التحكم فيها والسيطرة على حركتها لتولي القيادة. وهكذا أولد الضعف ضعفا واستشرى معه اليأس الذي سيطر على الشارع الجزائري ثم تحول إلى حالة من القحط العام الذي أحاول تفسيره لاحقا.

ورغم مساهمة القوى اليسارية والإسلامية في تحريض الشباب المتظاهر في أحداث أكتوبر وتوجيههم، لا تجرؤ هذه القوى على إظهار علاقة لها ببوادر تلك الحركة الاحتجاجية ربما لأنها تعلم أنها لم تكن عفوية، أما الشارع فهو يدرك بحسه الفطري الجمعي بأن الديمقراطية التي تمخضت عنها تلك الأحداث لم تكن نتيجة مباشرة لنضال تلك الأحزاب بل للتغيرات العالمية المصاحبة لنهاية الحرب الباردة. وفي الجزائر تطغى عقلية تفضل الحلول غير الوسطية تجذرت منذ انتصار العنف الثوري خلال فترة حرب التحرير وعمق من جذورها تعامل النظام مع الحركات السياسية المدنية باستخفاف وتعامله مع الاحتجاجات العنيفة بجدية تنتهي بقمعها أو بالتفاوض معها، عقلية لم تفلح الأحزاب في تغييرها نتيجة لهزالها أو لعجزها عن إنتاج مشروع مجتمع قادر على فرض نفسه في الواقع.

و لهذا كانت أجهزة الأمن التي ظلت ولا تزال تراقب الحركة الحزبية بشكل مباشر أسرع تأقلما مع الوضع الذي أنتجته أحداث أكتوبر وما تبعها من إصلاحات ديمقراطية متعاقبة،  أسرع من أحزاب أصابتها تلك الإصلاحات بالدهشة التي قادتها للارتجال بل وللغرور القاتل. ولم يكن تأقلم المخابرات مع الوضع الجديد صعبا باعتبار أن عمليتي منح التراخيص الصحفية أو اعتمادات الأحزاب السياسية لم تكن بعيدة عن دائرة القرار لديها، فبعد صدور قانون فيفري / فبراير 1989 للجمعيات ذات الطابع السياسي كان اعتماد الأحزاب يتم تحت إشراف لجنة  متعددة الأطراف يرأسها مندوب المخابرات ليصادق وزير الداخلية على الاعتماد لاحقا، أما تراخيص الصحف التي كان يصدرها مجلس أكثر استقلالية من وزارة الإعلام يدعى “المجلس الأعلى للإعلام” فسرعان ما عادت لتصبح جزءا من مهام الوزارة الوصية التي كانت قد ألغيت من حقائب الحكومة ثم أعيدت بضغط من الأجهزة الأمنية.

ورغم السلطة المبالغة الممنوحة للمخابرات ورغم موقعها الفوقي الذي تبوأته بالتدريج من كل شيء حتى من القانون فإن ذلك كان سيكون أهون وقعا لو أنها التزمت حيادا حقيقيا، ولكن من أين يأتي الحياد إذا كانت السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.

وعلى ذلك خضعت عملية السماح بالعمل الحزبي الحر وإصلاح النظام السياسي للتجاذبات الحادثة بين توجهات واقعية ضغطت من أجل اعتماد الأحزاب ذات الامتدادات العريقة في الشارع الجزائري عموما أو في المناطق ذات الأكثرية الأمازيغية وأخرى لم يكن يهمها من الأحزاب إلا الشكل والعدد الضامن لامتصاص الهزات الجانبية لزلزال المعسكر الاشتراكي دون خسائر  كبيرة. وعندما تغلب الجانب الرافض للانفتاح بعد انقلاب 1992 الذي أطاح بالرئيس بن جديد كان اعتماد الأحزاب غير المضمونة أمنيا “حماقة” كان لا بد من التراجع عنها بسحب ذلك الاعتماد كما حدث مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أو بالتحايل عليه كما حدث مع أحزاب أخرى أجبرتها قوانين لاحقة على تغيير تسمياتها أو برامجها بما في ذلك الأحزاب التي كانت قريبة من السلطة.

ومن بين حوالي سبعين حزبا سياسيا تم اعتماده في الجزائر (58 منها اعتمدت بين 1989 و 1992) لم يكن عدد الأحزاب التمثيلية فعلا يتجاوز أصابع اليدين يتعامل الإعلام الرسمي والخاص باستخفاف مع معظمها، وكانت قيادات الأحزاب الهزيلة التي كان يكفي لإنشاء هيئتها التأسيسية خمسة عشر شخصا تتراوح بين موظفين سابقين أغراهم الدعم المقدم للأحزاب وضباط متقاعدين حقيقة أو ظاهرا ومناضلين تاريخيين لم ينجحوا في إسماع صوتهم للشارع لعدة أسباب. وظهرت في الجزائر أشكال عجيبة من الأحزاب مثل حزب الابن وأبيه والحزب الذي تتداول على رئاسته الزوجة وزوجها، وبقدر ما أكدت كثرة هذه الأحزاب المجهرية المنبوذة وجود قناعة لدى الشارع بعدم جدوى العمل الحزبي بقدر ما رسخ أداؤها تلك القناعة التاريخية لديه، خاصة مع ضرب السلطة الموضح سابقا للتجارب الحزبية الصادقة التي كان يمكن أن تصنع تجربة تعددية حقيقية. ولعل النفور التاريخي للجزائري من الأحزاب باستثناء القليل منها يفسر إصرار الإسلاميين على استخدام عبارات “جبهة” أو “حركة” في تسمياتها بدل كلمة “حزب”، كما أنه قد يفسر نسبة المقاطعة العالية التي عرفتها الانتخابات الجزائرية حتى في اقتراعي 1990 و1991 الديمقراطييين.

ومع كل ما قيل سابقا عن علاقة المخابرات بالأحزاب يتعين الانتباه إلى أن الثقة المفرطة في النفس التي كانت ولا زالت تتحلى بها الأجهزة الأمنية، واعتقادها المبالغ فيه بأنها تعلم كل شيء عن المعارضة الجزائرية بحكم تقارير المتابعة التي كانت تعد بشكل يومي من قبل المخبرين والمشرفين عليهم في السجون والنقابات والجامعات والمساجد وسفارات الجزائر في الخارج وغيرها كل ذلك خدع تلك الأجهزة مرتين، فهي لم تكن تتوقع النصر الساحق لجبهة الإنقاذ في انتخابات 1990 المحلية (أقل من سنة من اعتماد هذا الحزب) كما أنها توقعت نصرا هزيلا لها في الانتخابات التشريعية نهاية 1991.

وعلى عكس ذلك حصلت جبهة الإنقاذ على أكثر من نصف مقاعد الانتخابات البلدية والولائية عام 1990 متقدمة جبهة التحرير والمستقلين المحسوبين على السلطة أما الأحزاب ال35 الأخرى المشاركة فحصلت مجتمعة على نسبة أقل من 7%، أما في الانتخابات البرلمانية لعام 1991 فلم يحصل 46 حزبا من بين 49 شاركت فيها على أي مقعد من المقاعد التي حصدتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ وتركت حفنة منها لجبهة التحرير الوطني وجبهة القوى الاشتراكية التي سبق لها أن قاطعت الانتخابات المحلية. وبالرجوع إلى نتائج الانتخابات البلدية والولائية والبرلمانية بين عامي 1990 و2007 نجد أن تلك القاعدة بقيت ثابتة حتى ولو أن الأسماء والظروف تغيرت، فعدد الأحزاب التي كانت تتخطى نسبة ال5% في كل هذه الانتخابات كان يراوح العشرين بل أقل. وتعكس نتائج هذه الانتخابات رغم التزوير الذي دأبت السلطة على انتهاجه منذ عودة الانتخابات التعددية شكلا في النصف الأخير للتسعينيات، تعكس هزالة التمثيل الحزبي عموما.

فالناخب الجزائري كان يريد أحزابا قوية لديها القدرة على تغيير الأوضاع لا تماثيل شمع تزين الديكور الديمقراطي الجديد، والسلطة كانت تعلم أن الشعب بانتخابه جبهة الإنقاذ يعاقب النظام على فشله باعتراف إعلامها الرسمي لكنها لم تتحمس لإحداث الإصلاحات الضرورية بقدر ما طورت أدواتها التقليدية لمراقبة المعارضة واختراقها وتكسيرها وتطويعها وتشويهها.

ودخلت المخابرات مع الأحزاب في الجزائر معركة تكسير عظم من جانب واحد أجج نارها انقلاب 1992، فتم حل الجبهة الإسلامية للإنقاذ وممارسة التضييق على جبهة التحرير حتى تغيير قيادتها التي رفضت النهج الانقلابي الجديد وكذلك على جبهة القوى الاشتراكية التي فشلت المخابرات نسبيا في ضربها للكاريزما التي يتمتع بها رئيسها.

وقد كنت من الصحفيين الذين عاينوا مباشرة تدخل ضباط جهاز المخابرات في تغيير قيادة جبهة التحرير وتعيين قيادة جديدة موالية في 1996 ثم فبركة مؤتمر الحزب سنة 1998، وكان من الظواهر التي شاهدتها العدد الكبير من ضباط ومنتسبي الأسلاك العسكرية وشبه العسكرية الذين كانوا يحملون شارات المناضلين خلال المؤتمر، وقد ذكر لي بعض المنظمين أن عدد المسدسات وأسلحة الكلاشنكوف التي تركت في بهو قاعة المؤتمر كان أكبر من أن تستوعبه صناديق الأمانات المخصصة لهذا العدد.

هذا هو الحال مع الأحزاب ذات الشعبية الكبيرة أما الأحزاب الصغيرة فقد فضلت قلة منها لها خلفيات نضالية حقيقية الاحتجاج الجهري أو الصامت أو الانسحاب من الساحة، وتواطأت أحزاب أخرى مع السلطة مقدمة لها خدمات كبيرة كإقناع دوائر القرار الغربية بأن الانقلاب كان أمرا لا بد منه لدرأ الخطر الأصولي، والانضواء في برلمانين معينين غير شرعيين هما المجلس الاستشاري والمجلس الوطني الانتقالي لسد فراغ التشريع الحاصل عن حل البرلمان وإلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية ولتجنب المقاطعة الدولية.  كما أن هنالك كثيرا من الأحزاب التي حدثت فيها انقلابات داخلية بتشجيع مباشر غير معلن من جهاز المخابرات لأن خطابها كان عدائيا أكثر مما يطلبه ويسمح به الديكور الديمقراطي.

ولم يكن الشارع مثله مثل صناع القرار يعطي أهمية لتلك الأحزاب المجهرية التي كان يطلق عليها نعت السنافر تشبيها لها بكائنات الرسوم المتحركة الشهيرة، لذلك كان من أسباب  اختلاف الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مع قيادة الجيش التي عرضت عليه تعيينه رئيسا سنة 1994 ضرورة تزكيته من تلك الأحزاب. أما الجنرال زروال فبعد أن ساهم مع الانقلابيين في تمييع العملية الحزبية بسلسلة جلسات الحوار التي كان يعقدها مع شظايا الأحزاب تلك بدعوى التشاور لحل الأزمة السياسية والأمنية، بعد ذلك قام بالتخلص من عدد كبير منها بإصدار قانون جديد للأحزاب فرض على إسلامية التوجه منها (حليفة أو معارضة) تغيير أسمائها وبرامجها، كما ألزم عموم الأحزاب بحد أدنى من عدد المناضلين لا بد لكل حزب من استيفائه بما قلص عددها بأكثر من النصف.

ولم تجد السلطة الجزائرية من سبيل أفضل للسيطرة على الحياة الحزبية التي ترى أنها شر لا بد منه إلا ربط شرايينها بمنع اعتماد أية أحزاب جديدة وهو ما يعد خرقا صارخا للدستور، مع اعتماد التزوير أداة سياسية لتجيير الانتخابات بما يناسب أصحاب القرار، وهي نفس الأساليب التي اعتمدتها الإدارة الفرنسية قبل الثورة مباشرة والتي بخرت لدى الجزائري أوهام الحل السلمي للقضية الجزائرية. كما ساير ذلك إنشاء أحزاب موالية جديدة أهمها “التحالف الوطني الجمهوري” ونسخته الأكثر تطورا “التجمع الوطني الديمقراطي”، هذا الأخير الذي أنشاه مدير المخابرات السابق ومستشار الرئيس زروال الجنرال محمد بتشين ليستولي على الحزب مدير المخابرات الحالي محمد مدين ويستخدمه شوكة في حلق الرئيس بوتفليقة في مسائل بعضها تتعلق بمعالجة الأزمة الأمنية كفكرة العفو الشامل التي تحمس لها بوتفليقة ويرفضها الجيش وأخرى تتعلق بصراع الاستخلاف المرشح للتصاعد خلال السنوات القادمة.

وبالمحصلة وقعت التجربة الحزبية في الجزائر ضحية لعدة ظروف اجتمعت عليها فأضعفتها وأضعفت من خلالها فرص الديمقراطية في الجزائر، إذ لا ديمقراطية بدون أحزاب. ظروف تاريخية منفرة ربطت تاريخ الأحزاب الجزائرية بالعجز عن استيعاب طموحات الجماهير وفرضت على تلك التي تجاوزت تلك العقدة صداما طاحنا مع المتغلب الفرنسي أو المحلي.

ومن بين حوالي السبعين حزبا التي ظهرت واختفت خلال مجموع السنوات العشرين الماضية من التجربة التعددية لا نجد حزبا واحدا استطاع إنتاج برنامج بإمكانه استيعاب الاختلافات الفكرية والثقافية والطبقية للجزائريين، أما التنازلات التي قدمتها بعض تلك الأحزاب فإما أنها كانت غير مؤثرة لشكليتها أو لهزالة الطرف المتنازل وإما أنها لم تكن لإرضاء حاجات الشارع الجزائري بقدر ما جاءت للحصول على ثقة السلطة أو السفارات.

واليوم يتكهن البعض بأن الرئيس بوتفليقة سوف يكسر الحظر غير الدستوري الذي فرضه على اعتماد أحزاب جديدة منذ عشر سنوات كسرا مؤقتا من أجل السماح لأخيه سعيد، من أجل السماح لهذا الأخير بامتلاك غطاء سياسي جيد لخلافته. ولو كان هذا الأمر صحيحا لكان يعني أن الأمور لن تتغير لأن من يفكر بهذه الطريقة لن يسمح بوجود حزب سياسي قوي يهدد مشروع خلافة شقيق بوتفليقة لشقيقه.

ومن غير حياة حزبية صادقة وتمثيلية ترفع فيها السلطة وأجهزتها الأمنية يدها عن التنظيمات السياسية التي يفترض فيها أن تمثل الإرادة الشعبية، مع حفظ حق الأجهزة غير المتحزبة في السهر على أمن البلاد، من غير ذلك تبقى الجزائر رهينة مأزق الديكور الديمقراطي الذي يضع النظام السياسي رهينة بدورها للضغوط الغربية التي تزداد قوة كلما ازدادت شعبية النظام ضعفا.

وما دامت السلطة الحالية تلعب على تناقضات الأحزاب موهمة الجميع بأنها أفضل ضامن لتعايش مشترك بين الجزائريين بمختلف اتجاهاتهم، وما دامت الأحزاب الجزائرية أو تلك المرشحة للنشوء مجرد أرقام في سبورة ترسمها المخابرات، أرقام لا هوية لها ولا صبغة إيديولوجية أو سياسية إلا تلك الصبغة التي تفرضها مخابر المتنفذ وظروف المصلحة فإن الركود والعقم سوف يستمران حتى ينتشر اليأس العام أو تنفجر الأوضاع فتصبح الحركات المسلحة بديلا للأحزاب السياسية كما حدث عام 1954.

محمد تامالت
مداخلة ألقيت في 23 أكتوبر 2009 بالملتقى العربي البريطاني في لندن

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version