لا يزال نظام الحكم في الجزائر لغزا كبيرا لا يملك مفاتيح خزانته إلا قلة قليلة من صانعيه وصنائعه وهم بحكم سنة الله ينفرطون حبات العقد واحدا واحدا حاملين معهم أسرارهم التي هي أيضا أسرار هذا النظام الذي تمكن من تجاوز كل المحن والأزمات، ولم تكن يهم رجاله شيء غير أن يبقوا محافظين على القلعة التي شيدوها قائمة ولو اقتضى الأمر السير على جثث الناس الأبرياء أو إحراق نصف البلد ورهن أجياله.

المهم بالنسبة لهؤلاء الذين صنعوا تاريخ الجزائر الحديث هو أن يستمروا في الحكم وما عدا ذلك يبقى من قبيل التفاصيل. هم الذين يقررون كيف تستقل الجزائر ومن يتولى أمرها، وهم الذين يرفعون من شاؤوا إلى واجهة الحكم وهم الذين يرسمون الطريقة التي يزيحون بها أي واحد، مهما كانت درجته وقوته، ويختارون هم بأنفسهم الذي يليه ويحضّرون للذي يأتي بعده وهكذا… هم أنفسهم الذين يرون أن النظام الاشتراكي هو الأصلح للبلد ويضعون له قواعد لا تشبه كثيرا القواعد التي صنعها مؤسسو الاشتراكية، وهم الذين يقررون بعد ذلك متى تنتهي صلاحية الاشتراكية وأن الوقت حان ليحول البلد إلى نظام رأسمالي جزائري طبعا، أي حسب ما يوافق هواهم ومصلحتهم.

مناسبة هذا الكلام هو ما نقله الأخ الزميل علي رحالية في مقال تأبيني لواحد من ركائز النظام في الجزائر خلال سنوات الاستعمار الفرنسي الأخيرة وبعد الاستقلال، ويتعلق الأمر بالشريف بلقاسم (المدعو سي جمال) الذي توفي الشهر الماضي عن عمر ناهز الثمانين عاما. الزميل رحالية معروف عنه تعلقه الشديد بالبحث في خبايا تاريخ الجزائر المعاصر، والمعلومات التي يختزنها موثقة وأصيلة ولا أحد يمكنه أن يشكك في نزاهته العلمية والأدبية. وقد نقل في مقاله المنشور في صحيفة ‘الخبر الأسبوعي’ ملخصا مركزا عن جلسات حميمية جمعته بالراحل سي جمال، ورد فيه كلام لا بد لكل من يريد فهم الخطة التي يسير عليها نظام الحكم في الجزائر أن يطلع عليه. ومثلما أن نافل الشهادة موثوق فإن الشاهد رجل لا أحد يمكنه أن ينكر أنه كان ضمن النواة القوية والصلبة لنظام الحكم في الجزائر وقد كان ضمن الفئة القليلة التي حركت خيوط المؤامرات التي ضربت شرعية النظام في الجزائر بعد الاستقلال مباشرة وأدارت الأزمات التي تولدت عنها خطوة خطوة.

يحكي الشريف بلقاسم مثلا عن ملابسات الإطاحة بالرئيس أحمد بن بلة (أول رئيس في تاريخ الجزائر المستقلة، وقد حكم من 29 ايلول (سبتمبر) 1962 إلى 19 حزيران (يونيو) 1965) ثم تعيين العقيد هواري بومدين الذي كان رئيسا للأركان خليفة له، فيقول (لسنا نحن الذين قررنا الانقلاب على بن بلة بل هو الذي قرر الانقلاب علينا بمجرد انتخابه رئيسا للجمهورية.. كان يريد أن يصنع من نفسه ناصر (جمال عبد الناصر) أو كاسترو أو ماوتسي تونغ آخر.. ولكنه نسي بأن الجزائر ليست مصر ولا كوبا ولا الصين)، ويروي أيضا كيف قام بن بلة بمحاولة كسر وتحطيم جماعة بومدين مستعملا كل الوسائل من الرشوة السياسية إلى الأساليب البوليسية. ويتابع متحدثا عن الأيام الحاسمة التي سبقت الإطاحة بالرئيس بن بلة قائلاً: ‘طبعاً اجتمعنا بعد عودة بومدين (من سفر إلى القاهرة) ثم وسّعنا الاجتماعات لكل خصوم بن بلة، وما أكثرهم وقتها. كل شيء كان متحكما فيه. رجال بن بلة كانوا تحت أعيننا. بن بلة نفسه ليس مشكلة إطلاقا. كان بإمكاننا أخذه من سرير نومه وبالبيجاما لأن رجالنا هم من كانوا يحرسونه. المشكل الحقيقي كان عدم قدرتنا على معرفة رد فعل الشعب. هذا هو السؤال الذي لم نجد له إجابة إلا بعد ليلة التاسع عشر من حزيران (يونيو)’ أي أنهم نفذوا الانقلاب ولم يهتموا كثيرا بأمر الشعب أو رد فعله!

وقبل ذلك كان مجيء الرئيس بن بلة هو الآخر على ظهر دبابة يحملها نفس الأشخاص الذين تمكنوا من الجزائر وجعلوها عجينة لينة بين أيديهم، وحول تنصيب بن بلة رئيسا إثر انقلاب نُفّذ ضد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (هي الأخرى لم تكن شرعية خالصة)، يقول سي جمال (الذي قمنا به ضد الحكومة المؤقتة هو تقريبا ما قام به سي الطيب (محمد بوضياف) والعربي بن مهيدي ورابح بيطاط ومصطفى بن بولعيد وغيرهم ضد مصالي الحاج.. أما نحن فقد ثرنا في وجه سطوة كريم بلقاسم وعبد الحفيظ بوصوف ولخضر بن طوبال.. سي الطيب وبن مهيدي تخلصا من مصالي واحد، أما نحن فحيّدنا ثلاثة مصاليات). ويعلق الصحافي أن الشريف بلقاسم قال تلك الجملة (وهو يضحك كعادته.. طبعا لم يكن سي جمال يخفي أو يستحيي من الحديث عن طموحه وطموح رفاقه السياسي لتولي مناصب في الدولة الجزائرية المستقلة، وقد ساعدتهم حالة التشرذم العام على الاستيلاء على معظم السلطة، لأنهم كانوا الأكثر شبابا والأكثر قوة والأكثر تنظيما.. وعندما أضفت قائلا:.. والأكثر خبثا.. انفجر ضاحكا من جديد وهو يقول: صحيح.. صحيح.. يمكنك إضافة ذلك!). طبعا لم تكن الجماعة تتحرج من الحديث عن الانقلابات ولا من تنفيذها، فهم الذين يعرفون ماذا يليق بالشعب وبالبلد ويسارعون إلى تنفيذه ثم يطلعون الرأي العام بما اتخذوه من قرارات حكيمة تقتضيها مصلحة ومستقبل الجزائر.

ولعل أكبر شهادة هي ما سنقرأه على لسان الشريف بلقاسم (المخ الفعلي لجماعة وجدة)، كما وصفه الكاتب. وهو هنا يعطي صورة واضحة عن نظام الحكم في الجزائر وكيف كان يفكر الذين أحكموا قبضتهم عليه، ولاحظوا جيدا كيف يستعمل الرجل كلمة نريد وأردنا. يقول الراحل سي جمال (لقد أردنا تأسيس دولة، ولتأسيس الدولة التي كنا نريد وبالطريقة التي نريد، كان لا بد من خلق نظام بواسطته نستطيع إنجاز ما نريد. أي نظام في خدمة الدولة، لكن الذي حدث أننا أسسنا دولة في خدمة نظام). اعتراف صريح يطابق المصطلح الذي يتداوله جزائريون وعرب آخرون أيضا على سبيل النكتة السوداء عندما يقولون إن لكل دولة جيشا يخدمها، إلا في الجزائر (وهي ليست وحدها) فإن فيها دولة تخدم الجيش!

طبعا نحن نستعمل هنا كلمة (نظام) اعتباطا ولتقريب الفهم فقط، أما عند الجماعة فإن النظام هو كما يصفه هذا الشاهد الراحل بقوله (ما هو هذا النظام؟ الصحافيون والكتاب والأكاديميون يضحكوننا عندما نقرأ تحليلاتهم وحديثهم عن آليات النظام وبنية النظام ومش عارف واشن.. نحن عائلة كبيرة.. وداخل هذه العائلة لكل فرد أو مجموعة طموحاتها الخاصة.. وكأي عائلة كبيرة هناك بالتأكيد خلافات وصراعات موجودة، لكن هناك خطوطا حمراء لا يمكن تجاوزها.. ومهما كانت خلافاتنا فإننا نحضر أفراح وجنائز بعضنا، وكثير من المشاكل نحلها حول طاولة عشاء). الأمر فعلا يتعلق بعائلة كبيرة أقسم أفرادها على أن يبقوا متحالفين ضد شعبهم وفي خدمة مصالحهم، وأن لا ترقى خلافاتهم مهما كبرت إلى حد الاقتتال، لذلك لا يستغرب الجزائري وهو يرى نفس الوجوه والأسماء تتداول عليه منذ 47 سنة، يختفي الواحد سنوات وهو متأكد أن دوره سيأتي ليعود إلى الواجهة ويكمل المشوار.

وينتقل الكاتب إلى محيط هذه العائلة الحاكمة الكريمة فيقول (لا بد لها من موظفين وخدم، وهؤلاء الموظفون والخدم هم معظم هؤلاء الذين يشاهدهم الشعب على شاشة التلفزيون وعلى صفحات الجرائد. والفرق بين العضو في عائلة النظام وبين الموظف والخادم لا يكمن بالضرورة في المنصب، بل في قوة التأثير. لذلك يقول سي جمال لا داعي أن تندهش إذا رأيت أو سمعت سفيرا يشتم وزير الخارجية. بل ورئيس الحكومة شخصيا. في داخل هذا النظام وهذه العائلة مهما كبرت وارتقيت، هناك دائما من يستطيع أن يهاتفك قائلا: واش راك تخلط؟ أو أغلق فمك!). والحديث عن الحاشية والخدم يطول وتفاصيله مرعبة، لكن يمكن للمرء إذا أراد أن يتعرف عليها أكثر أن ينظر حوله، إلى الأحزاب التي تتشابه علينا ولا نكاد نهتدي إلى ما يميز الواحد عن الآخر، أحزاب بأسماء مختلفة لكنها تركز كلها على خدمة سيدها وولي نعمتها، بل وتتنافس على ذلك. هناك أيضا الجمعيات المدنية والتنظيمات النقابية وحتى بعض الذين يطلق عليهم تجاوزا المفكرين والمثقفين والأساتذة والمحللين والكتبة. هناك أيضا الوزراء الخالدون في مناصبهم أو الذاهبون والعائدون إليها بصفة دورية.

هذا ليس كلامي أنا ولا حتى كلام الزميل علي رحالية، بل هي شهادة شاهد من أهلها، رجل لا أحد باستطاعته أن ينكر أنه كان من أقوى رجال الحكم في الجزائر، قدم لنا صورة واضحة وفاضحة للخطوط العريضة التي يسير عليها تنظيم نذر على نفسه أن يعض على الحكم بالنواجذ وأن لا يترك أية فرصة لأي شخص أو تنظيم خارج الدائرة المغلقة (ولو كان الشعب صاحب السيادة كما يحلو لهؤلاء الرجال تكراره) أن يتنفس أو يقترح طريقا آخر غير الذي يختاره أسياد البلد، ولا يهم أن يكون طريقا خاطئا أو يقود البلد إلى الجحيم. الجماعة لهم كل الوقت ليجربوا ويختاروا ما يشاؤون وعند أي اصطدام بجدار يفكرون في انتهاج طريق آخر، لكن لا أحد غيرهم يقود القاطرة، وليطمئن الجميع فهي بين أيد آمنة ومؤتمنة.

ويختم الكاتب تأبينيته بهذه الجملة (لقد رحل سي جمال وهو يردد بأسف وحسرة.. تلك الجملة التي سمعتها منه أكثر من مرة.. لقد فشلنا!). وهو نفس الاعتراف الذي قد نسمعه من آخرين في الشلة. يعترفون بفشلهم في تأسيس دولة محترمة وقائمة على أسس ومنهج حكم يكون في مستوى طموحات وآمال الشعب. يقولون فشلنا، وهو في الحقيقة شيء معروف ولا يحتاج إلى اعتراف، لكننا أبدا لن نسمعهم يقولون لقد أخطأنا. إنهم لا يعترفون بالخطأ مهما كبر ولو كان كعين الشمس، لأنهم يدركون جيداً أن الاعتراف بالخطأ تتبعه محاسبة ونشوز من الحكم، وهذا ما لن يفعله أسياد البلد أبداً ولو استدعى الأمر تدمير كل البلد وتحطيم كل أفراد الشعب.

خضير بوقايلة
29 جويلية 2009

المصدر: القدس العربي
http://www.alquds.co.uk

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version