المصالحة الوطنية كانت ولا تزال الرهان الأكبر بل هي الترمومتر الحقيقي الذي تقاس به حركيات الفعل السياسي. ما جعل بوتفليقة يتخذها حصان طروادة ويركبها وعلى ظهرها بلغ سدة الحكم مرتين ولا شك أنها شفيعته في خماسية أخرى في قصر المرادية رغم أنف دستور زروال لعام 1996 القاضي بتحديد رئاسة الجمهورية في فترتين لا ثالثة لهما. والمصالحة الوطنية ليست مشروعا لبوتفليقة ولا لغيره من الساسة والأحزاب، لأنها مطلب شعبي نودي به منذ اشتعال أتون الحرب الأهلية المدمرة غداة توقيف المسار الديمقراطي وإلغاء نتائج الدور الأول من تشريعيات ديسمبر 1991 ودورها الثاني. فهي إذا (المصالحة) كآلية سلمية لاسترجاع السلم ممكن أن نقول أن أول من كان ضحية في سبيل تحقيقها هو الشاذلي بن جديد، الرئيس الأسبق الذي كلفته المطالبة بالمصالحة وحمل الخصوم على النزول عند رغبة الصندوق الانتخابي منصبه كرئيس للبلاد. وعليه فالواضح أن فشل خلفه محمد بوضياف في الاهتداء إلى طريق يوصل من أسماهم بوتفليقة لاحقا في باتنة عقب محاولة اغتياله بـ"هؤلاء وألئك" إلى كلمة سواء حفاظا على البلاد وحقنا لدماء العباد، هو الذي أذكى نار الفتنة.

وبعد ذلك جاء دخول الشخصيات الفاعلة في معسكر الاستئصال ليؤرخ عمليا للبداية الحقيقية للعنف والعنف المضاد، وتفرقت دماء الجزائريين بين قبائل شتى من العصب والعصابات المتناحرة على السلطة والريع كانت فاتورتها باهظة ماديا (عشرات الملايير من الدولارات) وسياسيا ودبلوماسيا (خروج الجزائر من كل المحافل الدولية وتراجع أدوارها الإقليمية) وبشريا (زهاء 200 ألف قتيل وما لا يعد ولا يحصى من الجرحى والمفقودين والمشردين).

لقد كان مشروع "الكل أمني" الذي أطلقه الاستئصاليون في مقابل "جهاد الطاغوت" الذي باشرته أول الأمر "الميا" (الحركة الإسلامية المسلحة) و"الجيا" (الجماعة الإسلامية المسلحة) بمثابة ديناصورين متصارعين على رؤوس وأجساد العزل من أبناء الشعب الذين لا ناقة لهم ولا جمل. ذنبهم الأول أنهم جزائريون، وذنبهم الثاني أنهم اختاروا الجزائر حزبا عوض الانضواء تحت لواء أي من الأحزاب التي كان كل منها "بما لديهم فرحون"، وذنبهم الثالث أنهم وثقوا يوما ما في ما قيل لهم أنها ديمقراطية تكفل حق التحزب والتعبير ونحوها، وذنبهم الرابع أنهم خُدعوا بعزف فرقة لسيمفونية "سياسويو دينية" مطلعها ولازمتها "قال الله، قال الرسول"، وليس لدى الجزائري ما يرجحه أو يفضله أو يساويه بـ "قال الله، قال الرسول".

هذه هي الأزمة الجزائرية وتلك هي عوارضها. أما أسبابها فكانت مجموعة صراعات بين مجموعة من العصب والعصابات، ولذلك كانت المصالحة هي الترياق الشافي الكفيل بإخراج البلاد من عنق الزجاجة. ولكن ما فات الخيرين أن "ما قبل الوقت ليس بالوقت ولا بعد الوقت هو الوقت" كما يقول الفرنسيون. أما الذين لا همّ لهم إلا الاستغناء والبزنسة على حساب الدماء والدموع، فكانت مهمتهم لا تحيد قيد أنملة عن الحفاظ على نار الفتنة متقدة. وعليه فإن ما يهمنا هنا هم الأوائل لأن الأواخر لم يكن بينهم من يريد مصالحة ولا أمنا. لأن ذلك يعني بالنسبة لهم تقاعدا عمليا وجفافا لمنابع ثروتهم. فالأوائل الخيرون الذين راموا للنار إخمادا، نادوا بالمصالحة ولو بأسماء أخرى غير أن غياب الآلية وعوز الحول والحيلة ربما أخرها. فنحن لا نستطيع أن نسمي إجراءات قانون الرحمة الزروالي، ولا المفاوضات بين الجيش الوطني الشعبي وبين ما كان يسمى الجيش الإسلامي للإنقاذ وما تلا ذلك في سياقه إلا جنينا قيد التكوين للمصالحة، قبل أن يولد في صورته المكتملة تحت مسمى الوئام المدني "البوتفليقي" الذي غير اسمه بعد الفطام ليتسمى بالمصالحة الوطنية.

والسؤال المطروح راهنا وهو التحدي الداخلي الأكبر للجزائر هو: "هل أتت المصالحة أكلها أم هي مجرد عملاق بأرجل من طين؟".

صحيح أن هناك تحسن نسبي لا ينكر فيما يتعلق بالحالة الأمنية ولكن من لم يدخلوا في السلم كافة كتنظيم الخوارج الأزارقة الذي كان يسمى من قبل الجماعة السلفية للدعوة والقتال (الجسدق) قبل أن يتحول إلى مسمى "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" أضحى الآن يجترح جنايات نوعية ويقترف جرائم مناسباتية استعراضية لتسجيل حضوره الدائم ويغنم من خلالها غنائم إعلامية أكثر منها استراتيجيه أو لوجستيكية أو تكتيكية، موظفا مسمى "القاعدة" في إعلاء شأنه وموظفا القاعدة بزخمها وسمعتها الدموية كفزاعة لإخافة الناس. وبالتالي فالظاهر أن علاقة قاعدة بن لادن بقاعدة المغرب الإسلامي لا تعدو أن تكون استغلال الثانية (قاعدة المغرب الإسلامي) لصيت الأولى (قاعدة بن لادن) الإعلامي وأخذ الفتوى المعلبة الجاهزة منها والمباركة لجرائمها، مما يجعل استخدام القاعدة استخداما في شكل مزيج روحي تجاري إعلامي تكتيكي.

راهنا وبزوال "الجيا" و "الميا" ودخول جيش الإنقاذ "الأئياس" في المصالحة في أعقاب الاتفاق الشهير في نهاية 1997 مع الجيش الوطني الشعبي وتخليه عن السلاح بشكل نهائي، ترنو الكثير من وحدات الجماعة السلفية للدعوة والقتال للدخول في السلم والاستفادة من مقتضيات ميثاق السلم والمصالحة الذي ربما من مزاياه أنه، وبخلاف كل القوانين، حافظ على الحيز الزمني للتوبة مفتوحا. بمعنى أنه لا يزال يرحب بالتائب متى جنح للسلم، كما أن الدعوات المتتالية لأمير التنظيم المذكور أبو حمزة حسان حطاب بترك الجبال والسلاح والعودة إلى أحضان المجتمع بدأت تعطي أكلها بفعل تقديم الكثير من المسلحين لأسلحتهم وتسليم أنفسهم بغية الاستفادة من تدابير المصالحة. ولم يبق الآن عمليا إلا قلة لم تعد إلى الصواب ولم تدخل في السلم كافة. هي التي يترأسها "درودكال" والتي تنزوي في نطاق جغرافي محصور بين ولايات تيزي وزو والبويرة وبومرداس. مما يجعلها في حكم المحاصرة (بفتح الصاد) تكتيكيا.

عبد الله الرافعي
16 مارس 2009

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version