كما قطعنا على أنفسنا، وكما وعدناكم بمتابعة اللقاءات الإعلامية، لتوضيح الكثير من الأمور التي تشغل بال الرأي العام الوطني وحتى الدولي, نفتح وإياكم هذا اللقاء مع ضيف جديد، نتمنى أن تقضوا معه وإيانا أوقاتا ممتعة لتوضيح كثير من النقاط المُبهمة.

ضيفنا هو الدكتور أنور نصر الدين هدام متخرج من الولايات المتحدة الأمريكية في الفيزياء النووية نائب في البرلمان لسنة1991 عن ولاية تلمسان الذي فازت بانتخاباته الجبهة الإسلامية للإنقاذ وتم الانقلاب عنها، وحُل الحزب فيما بعد.


درّس كأستاذ جامعي بالجزائر وهو اليوم رئيس حركة الحرية والعدالة الاجتماعية الجزائرية له الكثير من المداخلات واللقاءات في صحف دولية وعبر قنوات فضائية عالمية منها الجزيرة، العربية، وقنوات أجنبية أخرى.

ساهم في مؤتمر العقد الوطني بروما مع مجموعة من الشخصيات الوطنية كالأستاذ عبد الحميد مهري والزعيم التاريخي حسين آيت أحمد بالإضافة إلى الشيخ عبد الله جاب الله رئيس حركة الإصلاح الوطني الذي تم الانقلاب عليه مؤخرا، و الأستاذ علي يحيى عبد النور رئيس الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، والرئيس الجزائري السابق أحمد بن بلة، و الدكتور أحمد بن محمد، ورئيسة حزب العمال لويزة حنون.

سجن بأمريكا بسبب مواقفه السياسية، وبسبب رفضه للإملاءات، وبقي متمسكا إلى الآن، بلقب نائب في البرلمان، وربما يعتبر من القلائل الذين بقوا متمسكين بهذا المطلب، يعيش كلاجئ بالولايات المتحدة الأمريكية، منذ أن تم الإنقلاب على الشرعية التي داستها مجموعة من الجنرالات، الذين قتلوا سواء بالأوامر أو بالإيعاز أكثر من 250000 ألف قتيل جزائري، ولا يزال ذلك القرار الجائر الذي اتخذوه بمعية نزار وزير الدفاع آنذاك تتحمل تبعاته شرائح واسعة من الشعب.

لاقى الكثير من الضغوطات وتعتزم جهات مشبوهة في أمريكا ترحيله قسريا واستعمال ملفه كورقة من أجل الابتزاز كما أن أنور هدام بقي مدافعا عن مواقفه ومتمسكا بمبادئه ففرض علينا أن نتصل به ونسأله (فرض=الإحترام). كان جد متواضع عند الاتصال ونعم الخلوق عند اللقاء نفتح لكم هذه النافذة اليوم لتسألوه بأنفسكم ,ويجيبكم بدوره من دون وضع بطاقات التعريف أو أخذ الإذن من أصحاب القرار.


أخي الكريم أنور أيها السادة الأكارم أعضاء وزوار مرحبا بكم معنا جميعا في هذا اللقاء الحميمي، الذي يجمعنا . أنور نصر الدين هدام عرفناه من خلال تصريحاته ومواقفه عبر وسائل الإعلام المختلفة واليوم تشاء المقادير أن نلتقي به في هذا المكان وجها لوجه، نطرح عليه تساؤلات لتنوير الرأي العام نبتدئ إذن بهذا السؤال الروتيني. كلمة تودّون تسجيلها في هذا الصرح الإعلامي الفتي توجهونها للأعضاء خاصة وللزوار عامة وإلى الشعب الجزائري؟

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد الأمين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد، أولا أشكركم على إتاحتنا هذه الفرصة القيمة للتواصل مع أعضائكم المحترمين ومع زواركم من المهتمين بقضية شعبنا الجزائري التواق للحرية والعدل وإلى تقرير مصيره وحقه في اختياره من يراهم هو لا غيره أصلح لتسيير دولته التحسين من وضعيته المعيشية.

كما أرجو للقائمين على منتدى بلا حدود كل التوفيق في خدمة الصالح العام من خلال تعزيز رسالة الإعلام واستقلاليته.

أدعو الله أن يوفقنا من خلال الإجابات عن الأسئلة توضيح الغاية نضالنا وأهدافه والآفاق المستقبلية وبعث الأمل في النفوس من جديد.

وكانطلاقة للحوار وللتعريف بالأعمال التي قمنا بها في إطار البعثة البرلمانية للجبهة الإسلامية للإنقاذ وتوضيح مرتكزاتها، المرتكزات نفسها التي قمنا على أساسها بإنشاء فريق عمل "حركة الحرية والعدالة الاجتماعية"، أنشر هنا ولأول مرة الرسالة التي سلمها إياي الشهيد الشيخ محمد سعيد يوم أول من مارس 1992، عشية مغادرة البعثة الجزائر نحو الخارج، موضحا في الرسالة، المخطوطة بيده رحمه الله، أهداف البعثة البرلمانية التي حددتها القيادة الميدانية آنذاك للجبهة الإسلامية للإنفاذ.

أسأل الله أن يوفقنا جميعا لما فيه الخير ومرحبا بأسئلتكم ونصائحكم.

في البداية أود أن أتقدم لك نيابة عن الأنصار والمحبين لشخصكم على هذا التواضع الذي لمسناه من خلال الاتصال بكم بأطيب التحيات وأزكى التسليمات كما يجب أن أجدد لكم عمق مشاعري لك ولعائلتك المحترمة وأسال الله العلي القدير أن يحفظكم من كل سوء وأن يعيدكم إلى البلد الذي حرمتم منه سالما غانما. قلتم بأنكم لأول مرة تنشرون هذه الوثيقة التي تعتبر تاريخية مما جعلني أؤجل بعض أسئلتي وأركز على قدر وقيمة هذه الوثيقة وأجعلها منطلقا في حديثنا خاصة وأن هذه الوثيقة تعني لنا الكثير. ما الذي تحقق من هذه الوثيقة على أرض الواقع من خلال شخصكم والفريق الذي عمل معكم في الخارج وهل هناك خيانة لهذه الوثيقة من طرف البعض في ظل الانقسامات التي شهدناها؟

إن الوثيقة في الحقيقة بالنسبة إلينا عبارة عن "ميثاق شرف للبعثة البرلمانية"، بل يمكن اعتمادها كـ "ميثاق شرف للمدافع عن القضية الجزائرية عبر العالم" مهما كان انتماءه الحزبي. أولا، دعني أغتنم فرصة سؤالكم لأوضح ما يلي:

أ) منذ مدة وأنا أفكر في نشر هذه الوثيقة التاريخية، بدون أي تعديل أو تحريف، حتى يطلع عليها المهتمون المخلصون للقضية الجزائرية، وليٌستفاد منها لما فيه صالح شعبنا. وعندما تم الاتصال بنا من قبل المشرفين على موقع "بلا حدود" للإدلاء بهذا الحوار، شعرت بالاطمئنان للإقبال على نشرها لما أحسسته في هذا الموقع الإعلامي وفي المشرفين عليه والأعضاء من نزاهة وإخلاص لبلدهم واهتمامهم بمصير الشعب والاحترام المتبادل بينهم.

ب) كما أنني نشرتها حتى أٌمكن أخي الشيخ الشهيد محمد سعيد الرد بنفسه، ولو بعد رحيله إلى ربه جل وعلى، من خلالها على الحملة الشرسة التي تقوم بها بعض دوائر المخابرات ضد الشيخ وضد المدرسة الفكرية التي كان ينتمي إليها رحمه الله. حملة قذرة تصاعدت منذ أوائل التسعينيات وتصفيته وعدد كبير من أصحابه في آخر سنة 1995 على يد مرتزقة المخابرات الذين تمكنوا من تسلل صفوف المجاهدين الأوفياء للشعب. حملة شيطانية مستمرة إلى اليوم لكن على مستوى المحافل الدولية وتأليب المؤسسات الدولية من قبل نفس الزمرة المخابراتية ضد إحدى المؤسسات الحيوية للمجتمع المدني الجزائري وأقصد هنا مدرسة البناء الحضاري الإسلامية. حيث نجد الممثل الدائم للجزائر لدى الأمم المتحدة يقوم منذ سنوات ترويج الأكاذيب ضد هذه المدرسة العريقة واتهامها بالقيام بأعمال إجرامية وانتساب إليها أناس هم بعيدون كل البعد عنها وعن مرجعيتها الفكرية (كعيّنة، يمكن الإطلاع في موقع الأمم المتحدة على رسائل السفير عبد الله باعلي إلى رئيس "لجنة الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب"ن بتاريخ 16 أبريل 2003 و19 أبريل 2004.

ج) فها هو الشيخ رحمه الله يرد على تلك الاتهامات الباطلة من خلال هذه الرسالة والتي، للتذكير، هي رسالة داخلية وبالتالي لم يكن الغرض منها الدعاية بل النصيحة والتوجيه. هل كان رحمه الله يحرض على الإرهاب ضد الشعب أم كان يوصي بحماية حق الشعب في الاختيار؟ هل كان يدعو إلى الحسم العسكري أم إلى الحل السلمي للأزمة مع الحفاظ على الشرعية الدستورية وعلى حق الشعب في الدفاع عن خياره الحر؟ هل كان يستنجد بالأجنبي ضد بلده كما هو حال "أصحاب القرار"؟ ألم يؤكد في الرسالة أن الغاية من البعثة البرلمانية ـ وهنا ينطبق الأمر على كل غيور على وطنه وشعبه ينشط من أجل الجزائر في بلاد المهجر ـ" بل غاية الأمر التعريف بقضيتنا دون إملاء الموقف (أي على الممثلين من قبل الأجنبي)". حتى بالنسبة لأقطاب النظام، تم التأكيد في الرسالة على تجنب الحديث المفصل عنهم والتركيز بدل ذلك على الجانب السياسي للقضية.

أرجو من الجميع التمعن في الرسالة لعلها تساهم في فهم عمق وطبيعة المعضلة الجزائرية. أما بالنسبة لما تم تحقيقه من الوثيقة، فأعتقد أن جميع الأوفياء لخط الجبهة الأصيل والأوفياء للشعب وقضيته ـ سواء أكانوا ضمن البعثة البرلمانية أم في غيرها من المؤسسات التي كانت تنشط في الخارج، كلهم بذلوا قصارى جهدهم من أجل الالتزام بالوثيقة، فيه نقائص بالطبع . لم نفلح في إنشاء مؤسسات إعلامية قوية للتعريف بالقضية فبقينا رهينة للإعلام الموجود، اللهم إلا في فترة المكتب التنفيذي المنبثق عن مؤتمر الثبات سنة 2002 برئاسة الأخ مراد دهينة حفظه الله، كما أننا لم نفلح في التعريف بالقضية على مستوى العالم العربي والإسلامي، كما هناك تقصير كبير في التكفل باللاجئين، وذلك مع إنشاء بعض الجمعيات في أوروبا وأمريكا، لكنها لم تكن كافية سامحنا الله. إنها مجالات حساسة يجب التركيز عليها.

قضيتم فترة كبيرة في المنفى كيف تم قرار خروجكم هل هو خروج شخصي أم هو ما ورد في الوثيقة؟

نحن خرجنا بتكليف بمهمة من قبل القيادة الميدانية آنذاك للجبهة الإسلامية للإنقاذ ومن أجل تحقيق ما جاء في الوثيقة. في الحقيقة أرادت الجبهة من خلال بعث بعثة للخارج التواصل مع المجتمع الدولي مما يدل على حكمة القيادة الميدانية الوفية للخط الأصيل وللشعب. وهكذا، ودائما تبعا لتعليمات الوثيقة، لقد انحصر نشاطنا في البعثة على الجانب الإعلامي والدبلوماسي والعلاقات الدولية. فطرقنا كل الأبواب، ووفقنا الله بإيصال الكلمة إلى معظم صانعي القرار في الغرب من إعلاميين وسياسيين وخبراء. لكن مع الأسف الشديد، لأسباب داخلية ـ التشويش الداخلي على نشاط البعثة ــ وأخرى خارجية ــ مصادفة القضية الجزائرية بتقلبات دولية دقيقة مثل انهيار المعسكر الشيوعي وما ترتب عن ذلك من ترتيبات لنظام دولي جديد أحادي القطب ــ ترتيبات أستبعد عنها عالمنا الإسلامي رغم مصادر الطاقة الهائلة التي حبانا الله بها ــ فتم خلال تلك الفترة الحرجة دوليا إبقاء الوضع القائم في عالمنا رغم الظلم السائد وتأجيل إلى حين النظر في مسالة التغيير. و بعدها جاءت أحداث سبتمبر وما ترتب عنها من حماقات من قبل الإدارة الأمريكية الحالية المتطرفة فاستغلت النظم الباغية، كالنظام الجزائري، الحرب المعلنة على ما يسمى الإرهاب فانخرطت فيها من أجل ضمان الاستمرارية في الحكم وقمع المعارضة. أضف إلى هذا كله ضعفنا في الأداء بالمهمة نسأل الله المغفرة.

الحصيلة هي أنه لم يُصغ لنداء الشعب من أجل التغيير السلمي فتركت الجزائر وهي تغرق في حمام من الدماء والدموع. لكن لا زال أملنا في الله ثم في الجهود المتواصلة من قبل الأوفياء لقضية الشعب، بما فيهم إخوانكم من حركة الحرية والعدالة الاجتماعية الفتية، أن يستدرك المجتمع الدولي تجاهله نداء شعوب العالم الإسلامي من أجل الحرية والعدالة والتخلص من الأنظمة المستبدة .

دفع محمد السعيد وحشاني وغيرهم من رجال الجبهة أرواحهم سواء عن طريق الاغتيال أو السجن والتعذيب أو النفي، الخ. في حين أن هناك من الحركات الإسلامية من وصل إلى الوزارات فهل هو خطأ الجبهة في التعثر أم هي قاعدة مصائب قوم عند قوم فوائد عند الآخرين؟

لا هذا ولا ذاك. صحيح أن للجبهة مشاكل كثيرة وأنه مثلها مثل جل الأحزاب في الجزائر تم اختراقها منذ نشأتها من قبل المخابرات، ــ بالمناسبة نحن التحقنا بالجبهة وعملنا فيها رغم معرفتنا بهذا الاختراق وأعتقد أنه وفقنا الله إلى إفشال الكثير من مكائدهم والوصول إلى تمكين الشعب من التعبير عن خياره الحر بمرأى ومسمع العالم وإفشال هكذا المشروع التغريبي للمستلبين حضاريا المسيطرين على مفاصل الحكم ــ وصحيح أننا لم نتمكن من تفادي المواجهة المسلحة التي فرضها علي شعبنا الإنقلابيون، لكنني واثق من أن خط الجبهة الأصيل لم يخطئ في معارضته الانقلاب على الشرعية الشعبية والدستورية. ولولا وقوفنا ضد الانقلاب وضد المشروع التغريبي لكانت تلك الأقلية الأيديولوجية المحاربة للإسلام حققت في ظرف بضعة أيام ما لم يحققه الاستدمار الفرنسي طيلة قرن ونصف من الزمن من طمس لمكونات الشخصية الجزائرية المسلمة بعربها وأمازيغها.

كما أنني لا أظن على الإطلاق أن من انحاز إلى الظلم والطغيان ـ مهما كان انتماؤه ومهما كانت مبرراته ـ قد حصّل على أي فائدة حقيقية. نعم هنالك من يدعي أن المُشار إليهم في السؤال أنهم أذكياء وأصحاب "حكمة" لأنهم اختاروا المشاركة السلمية في السلطة بدل مواجهتها. أولا نحن لم تختار المواجهة بل فُرضت عليها. كما أن الجبهة انتخبها الشعب لاستلام السلطة وتم قطع الطريق عنها ومصادرة حق الشعب في الاختيار. فأيّ مشاركة يتحدثون عنها وهم يشاركون مجرمين تسببوا في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في حق الشعب الجزائري؟ و هل أصبحوا حقيقة من "أصحاب القرار"؟ قد تصح فيهم الآية الكريمة “وسكنتم في مساكن الذين ظلموا منكم".

ورد في المقدمة أنكم لازلتم متشبثين بلقب نائب في البرلمان هل يعني ذلك أنكم لازلتم تؤمنون بإعادة الدور الثاني من الانتخابات أم مرد ذلك يعني المطالبة بعدم طمس الذاكرة؟

التشبث بلقب "نائب منتخب لدى البرلمان الجزائري" مردّه الوفاء للشعب الجزائري عامة وللناخبين والناخبات من مدينة تلمسان الذين وضعوا ثقتهم فينا ذات يوم 26 ديسمبر 1991 من خلال المشاركة بكل وعي وحضارية وسلم في انتخابات محلية وبرلمانية وقي إطار تعددية، برهن الشعب الجزائري عن وعيه واستعداده الكامل للانتقال بكل وعي ومسؤولية من النظام الأحادي العسكري إلى النظام التعددي المدني. إنّ التشبث بهذا اللقب وفاء لشعب برهن أنه أكثر وعي وحضارية ومسؤولية من زمرة يحلو لها نعتها بـ "أصحاب القرار" وهي في الحقيقة تخضع للقرار الأجنبي. نعم المسالة تتعلق بعدم طمس الحقيقة: حقيقة الهوة العميقة بين وعي شعب عريق وزمرة غبية متسلطة بالحديد والنار على مفاصل الحكم.

شاركتم في العقد الوطني مع الشخصيات التي تم ذكرها في المقدمة وقد وصلنا أنكم أيضا ساهمتم في مسعى بوتفليقة هل ترون بأن عقد بوتفليقة هو عقد روما أم للضرورة أحكام؟

للتصحيح، أنا لم أساهم في مسعى الرئيس بوتفليقة. كل ما في الأمر هو أنني أبديت استعدادي لتلبية طلبه لي للعودة إلى أرض الوطن والمساهمة في مشروع المصالحة. وتم تبليغي الدعوة، مباشرة من قِبل السيد بلخادم بصفته آنذاك ناطقا باسم الرئيس، قبل ظهور ميثاق السلم والمصالحة. لكن الجنرال "توفيق" (محمد مدين) المتربع على رأس جهاز المخابرات أو DRS منذ سبتمبر 1990 رفض ذلك، بعد أن انكشف الأمر للرأي العام.

والسؤال يبقى مطروحا: يا ترى ما الذي كان يحضره لي الجنرال توفيق من مكائد لو عدت إلى أرض الوطن دون الإعلان عن ذلك، حيث لا أصدق أنه لم يكن على علم بما كان يدور من حديث في هذا الموضوع؟ وللمعلومة لا زال بعض أفراد "الأجهزة" يعارضون إلى اليوم حقي في العودة حتى بعد قيامي بالإجراءات الإدارية للاستفادة من الميثاق، مع تحفظاتي الكثيرة عنه. طبعا تحركاتي هذه لم تكن فردية ولا ارتجالية، وإنما نقوم بها بناء على خطة جماعية مدروسة لا زلنا نسعى لتنفيذها ولا يسعني هنا الخوض في التفاصيل. كل ما يسعني أن أقوله الآن هو أن المرتكزات التي نرتكز عليها في تحركاتنا بالنسبة لموضوع العودة والمطالبة بحقنا في حرية التحرك سواء في الخارج أم في الداخل هي نفسها التي ارتكزنا عليها في مساعينا التي أدت إلى عقد لقاءات روما، اللقاءات التي دام التحضير لها سنة بأكملها أسأل الله أن يتقبل جهود كل من ساهم في تلك التحضيرات من أعضاء البعثة البرلمانية ومستشاريها.

سأترك لمن بعدي الفرصة إذا أراد أن يعود إلى الوثيقة وأقفز بعيدا بطرح أسئلة تشغلني مع أنني أعرف أجوبتها لكن تنويرا للرأي العام سأطرحها عليك بصيغ أخرى ربما لم تطرح من قبل أو ربما ستكون أجوبة خلافا لما اعتدنا عليه. تبعد الجزائر جغرافيا بعد السماء عن الأرض عن أمريكا فما هو الشيء الذي جعل أمريكا تحرص على الجزائر وتوليها اهتماما كبيرا هل هو استغاثة النظام من السقوط كما حدث في عهد العثمانيين أم مجيء الأمريكان إلى الجزائر هو رد الصاع بصاعين وفقا لما ورد في بعض الرسائل التاريخية من أن حاكم أمريكا كان يدفع أموالا مقابل السماح له بعبور المياه الإقليمية؟

هذا التواجد العسكري الأمريكي في الجزائر من خلال إنشاء تلك القواعد عسكرية في الصحراء الجزائرية والتي يزعمون أنها "تدريبية" والتي لا يزال النظام الجزائري ينكر وجودها، سبقه اهتمام اقتصادي مكثف، خاصة في مجال المحروقات. كما أن الوجود الأمريكي في الجزائر انتقل خلال السنوات القليلة الماضية إلى ميدان أخطر وهو الميدان الأمني كما صرح به مؤخرا مدير الـ FBI أمام الكونغرس الأمريكي، والذي تناقلته الصحافة الوطنية، حيث قال أنّ مصالحه بصدد "التحضير" لفتح مكتب في الجزائر في سياق حسب زعمه "لمواجهة التهديدات الإرهابية" في منطقتنا. وبالمناسبة، وفق المتعارف عليه حول المصطلحات المتعامل بها في هذه الأوساط، عبارة بصدد " التحضير" معناها لقد تم الشروع في تنفيذ المشروع منذ مدة طويلة.

إنّ الاهتمام الأمريكي المتزايد في الجزائر ليس بريء، خاصة أنه تزامن مع ظهور المصطنع "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي". ينبغي أن يكون محل قلق واهتمام من جميع المهتمين بالشأن الوطني ومصالح الشعب الإستراتيجية ومستقبل البلد واستقلاليته، حيث قد يتطور هذا الوجود الأمريكي في الجزائر والمنطقة إلى تهديد أمننا الوطني في صورة ما إذا تمادى وبهذا الشكل. هو تجاوز واضح للحدود على حساب دولة ذات سيادة دفع شعبها الكثير من أجل استقلاله.

الكل يدرك أنّ الاهتمام العسكري وخاصة الجانب الأمني منه هو من صلاحيات كل دولة ذات سيادة تحترم شعبها وأجياله المستقبلية، يا ترى كيف تم تسويق هذه المسألة للطبقة السياسية "الرسمية"، حكومة وأحزابا؟ هل يعقل أن ينحصر نشط الـ FBI داخل السفارة الأمريكية؟ هل يٌصدق أن يخضع مكتبFBI في الجزائر إلى القضاء الجزائري؟

ومما يزيد المسألة خطورة هو ترحيب وزير الداخلية العقيد زرهوني بهذا الأمر بكل وقاحة وذل وانبطاح مخزي والمبررات الواهية التي قدمها. نفس الوزير الذي لا يزال يرفض حتى الحديث عن ضرورة فتح تحقيقات حول الجرائم الذي ترتكب في حق الشعب بدعوى رفض التدخل الأجنبي في شؤون بلدنا! ها هو اليوم ومن معه من "أصحاب القرار" يخاطرون بمصالح شعبنا ويراهنون بمستقبل أجياله في يد الأجنبي من أجل البقاء في الحكم والحفاظ على مكتسباتهم.

فما الذي يحدث يا ترى في بلدنا الغالي الجزائر؟

بالتأكيد أن معرفة التاريخ أمر مهم جدا، فالحاضر هو نتاج الماضي والمستقبل هو بناء الحاضر.

التاريخ يعلمنا أنّ الأمريكان يتحركون دوما وفق مصالحهم. وبالتالي من السهل استساغة الاهتمام المتزايد الأمريكي هذا بمنطقتنا ذات الأهمية الإستراتيجية على أكثر من صعيد، خاصة في ظل الإدارة الأمريكية الحالية ذات التوجهات الإمبراطورية. أمريكا لم تعد بعيدة المسافة عن الجزائر، فالمسافات الجغرافية تقاربت بشكل كبير في عصر الإعلام الآلي والاتصالات والأقمار الصناعية، ومنطق "الجيوسياسية" وحساباتها قد تغير بشكل كبير في عصرنا. لكن قد يتحير المرء من موقف النظام ومن يدور في فلكه من المسألة إذا تم تجاهل تاريخ بلدنا وخاصة تاريخ التيار التغريبي المسيطر على مفاصل الحكم فيه. إذا حاولنا تلخيص قراءتنا لتاريخ بلدنا ومنطقتنا المغاريبية، – والملاحظات نفسها يمكن تعميمها على مختلف المجتمعات العربية والمسلمة و"العالمثالثية" – فإنّ هذه القراءة تبين لنا وجود خطين داخل مجتمعنا لا يكادان يتقاطعان وهما: الخط الحضاري، نسبة إلى التواصل الحضاري والامتداد الفكري والثقافي والسياسي للعالم الإسلامي، والخط التغريبي، نسبة إلى الاعتقاد أن خلاص بلدنا في انصهارها في الثقافة الغربية. وهكذا وجدنا هذا التيار يحمي مصالح الغرب على حساب مصالح شعبنا. يمكنني تفصيل هذه القراءة عند الحاجة.

ترفض السلطات التدخل الأجنبي إعلاميا في عدد من تصريحات وزراء الخارجية والداخلية عندما يطالبون بفتح تحقيق مستقل حول المجازر في حين أن الشريط يؤكد وجود هذا الأجنبي على الأرض فمن المقصود من الأجنبي هل هو الجزائري مثلي ومثلك؟

نعم، يحق للمرء أن يتساءل هل أضحى الجزائري أجنبي في بلده. هناك صفقات كثيرة وخطيرة أبرمها النظام القائم في الجزائر مع قوى أجنبية تم تصنيفها ضمن "أسرار الدولة" وإخفاؤها هكذا على الشعب، في وقت يعرف الأجنبي تفاصيلها، وهذا الأمر يحدث منذ فجر الاستقلال.

علينا أن لا ننسى التجارب النووية التي كانت تجريها فرنسا في الصحراء الجزائرية إلى غاية 1966 والتي تم الكشف عنها مؤخرا من قبل الفرنسيين نفسهم. فالمسألة في منتهى الخطورة. المهم يجب التأكيد هنا أن أيّ محاولة للتمديد من عمر النظام القائم في الجزائر مآلها الفشل وستعقد الأمور كثيرا لا في الجزائر فحسب ولكن في المنطقة بكلها. إن عامل الاستقرار والسلم الدولي إنما يكمن في الشعوب ودعم حقهم في تقرير مصيرهم.

عُينت خليدة تومي على رأس وزارة الإعلام ثم الثقافة رفقة أبوجرة سلطاني زعيم حماس وبلخادم وأويحيى يجتمعون على طاولة واحدة وأصبح الإستئصاليون دعاة للمصالحة، في حين أقصي وزير الخارجية أحمد طالب الإبراهيمي من العمل السياسي وغيره من الوطنيين من أمثال حمروش ومهري وآيت أحمد وعبد الله جاب الله، الخ. فهل أخطأ أحمد طالب ومن معه وأصابت خليدة تومي وأويحيى وسعيد سعدي؟

وهل "الحركة" كانوا على صواب في وقوفهم إلى جانب المستدمر الفرنسي (ولم يكن مستعمرا بل مخربا مفسدا) ضد شعبهم؟ وهل أخطأ جميع المواطنين الرافضين للاحتلال منذ الشيخ محي الدين وابنه الأمير عبد القادر إلى المجاهدين أبان الحرب التحريرية؟ أخي لقد اختلت المقاييس واختلطت المفاهيم.

أنا أرفض الحديث عن أشخاص محددين، لكن على الجميع أن يراجع نفسه ويحاسب نفسه قبل أن يُحاسب، أولا في هذه الدنيا ولنا في Pinochetوأعوانه عبرة لمن يعتبر. يقول المثل الشعبي "يا قاتل الروح ـ وأنا أضيف هنا: أو مُشاركه ـ وين تروح") ، ثم يوم القيامة يوم الوقوف بين يدي الله.

الذي يُحزنني هو تصرف بعض المنتسبين للحركة الإسلامية. يبدو أن لديهم خلط في المفاهيم الشرعية: مثلا هناك سوء فهم كبير للقاعدة الشرعية: " الضرورات تبيح المحظورات" فحمّلوا عبارة "الضرورات" ما لا تطيق، كما أنهم أخلطوا بين الضرورات المحددة شرعا وبين ما يسمونها "الضرورات الحركية"، فسقطوا، لعله عن غير قصد، في المشاركة في الجريمة. أنا لا أعرف نواياهم، لكن "الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل". من المفروض أن تكون الغاية من أعمال أبناء الصحوة الإسلامية، مهما كانت انتماءاتهم الحزبية، السعي لتحقيق على أرض الواقع مقاصد الشريعة وهي حفظ وصون الحقوق التالية: حق الحياة وحرية الدين وحرية التفكير وحق الملكية الخاصة وحفظ العرض والنسل. هنالك أدلة قطعية الدلالة أنّ النظام الانقلابي في الجزائر، إما مباشرة أو من خلال أعوانه الذين اخترقوا المجموعات المسلحة، قتل ومنع الناس من حرية التدين ـ ففرض عليهم بالحديد والنار مفهومه الخاص للدين ـ ونهب أملاكهم وانتهك الأعراض وأفسد النسل.

يا أخي علينا جميعا، سواء المشاركين في النظام أم المعارضين، أن لا ننسى أنه سوف نُسأل أمام الله عن ما فعلنا من أجل منع تلك الجرائم والحفاظ على تلك الحقوق التي منحها الله عز وجل للإنسان كإنسان حتى قبل أن يكون مسلما.

علينا جميعا ونحن نسعى لتحقيق مشاريعنا المجتمعية أن نسأل أنفسنا: أليس الجزائري إنسانا بغضّ النظر عن انتماءاته الحزبية أو الفكرية أو العرقية أو الدينية.

علينا جميعا أن نتذكر أنّ قتال المقاتل أمر مشروع وفق جميع الشرائع البشرية والسماوية، ولو أننا نفضل فض النزاعات بالطرق السلمية، لكن قتل النفس البريئة ومحاربة التدين وحرية التفكير ونهب الأموال وانتهاك الأعراض وإفساد النسل كل ذلك محرّم عندنا في الإسلام مهما كانت الذرائع. فمن لم يتمكن من المشاركين في النظام من تحقيق ما كانوا يريدونه من خير لصالح شعبنا عليه بالاستقالة والإقلاع فورا عما هم عليه من فساد.

كثرت التكريمات في الآونة الأخيرة لجمع من الفنانين (أصحاب الدربوكة) ولو سألت شابا جزائريا عن الشاب خالد ومامي والزهوانية وخيرة، إلخ. لأعطاك معلومات ربما هم لا يعرفونها، أين هم وعدد أولادهم سفرياتهم مأكلهم، إلخ. في حين لو سألت شابا جزائريا عن أحد المفكرين لاتهمك بالتخلف والانحطاط إلى ماذا يعود ذلك؟

بالتأكيد أنّ القطاع الثقافي مهمل عندنا في البلد، لكن أعتقد أن ما جاء في السؤال فيه شيء من المبالغة. قد يكون البعض على هذه الوضعية لكن لا يجوز التعميم، فالأغلبية من شبابنا واعية.

بالتأكيد يعمل "أصحاب القرار" على تلهية الشباب من خلال تسهيل الحصول على المخدرات. ومن خلال دعم أنشطة يقولون أنها هي الثقافة. حتى على حساب التراث الثقافي الغني الأصيل لشعبنا. أنظر إلى وضعية الأغنية "الشعبي"، و"المالوف" والطرب "الأندلسي" والتراث الأمازيغي. فالثقافة بالنسبة للنظام هي الأغنية الفاحشة على النغم المستورد والسهرات الخليعة.

فأين الأنشطة الثقافية الأخرى مثل المطالعة والرسم والرحلات الدراسية نحو المواقع التاريخية ذات الأهمية الأثرية والمسابقات العلمية والاختراعات؟

يموت الشباب إما في الجبال أو في الأدغال (المخدرات) أو عن طريق الانتحار في أعماق البحار أو برمي أنفسهم على الجسور بسبب أوضاع معيشية اجتماعية خانقة في حين تُصرف الأموال على حفلات وسهرات قيل لنا أنها فنية وترفيهية بل وثقافية في عهد خالد وخليدة كما في موضوعي هنا هل الحفلات تنسي الشباب في مشاكله ومعاناته اليومية أم هو تنفيس لابد منه حتى لا يحدث الانفجار؟

نعم الشباب واع، لكن بالفعل وضعه محزن. ظاهرة "الحراقة" ظاهرة محزنة للغاية تتطلب اهتماما كبيرا، والبلد غارق في المشاكل لكن الحل بالتأكيد ليس في مغادرة البلد وتركه للفئة الحاكمة.

أعتقد أنه رغم المخطط الشيطاني لطمس مقومات الشخصية الجزائرية لدى شبابنا، إلا أنّ أغلبية الشباب واعون تماما بما يحدث في البلد، فلم ولن تنسيهم تلك الحفلات ما يعانيه شعبهم من ظلم وغياب للعدالة السياسية والاقتصادية والثقافية.

لماذا هذا التأخر في نشر الوثيقة التي خطها الشيخ محمد السعيد؟

لم تكن أصلا الرسالة موجهة للرأي العام حتى يتم الحديث عن التأخير في نشرها، فهي رسالة داخلية هدفها تحديد مهام البعثة البرلمانية والمنحصرة في الميادين الإعلامي والدبلوماسي والعلاقات الدولية. ولكن منذ أن تكاثفت وتصاعدت تلك الحملة الشرسة التي تقوم بها بعض دوائر المخابرات ضد الشيخ رحمه الله وضد المدرسة الفكرية التي كان ينتمي إليها رحمه الله، حملة فعلا قذرة حيث تم في السنوات الأخيرة محاولة إضافة مدرستنا إلى قائمة المنضمات المتهمة بالإرهاب، وأنا أفكر في نشر هذه الوثيقة التاريخية، بدون أي تعديل أو تحريف حتى أٌمكن أخي الشيخ الشهيد محمد سعيد الرد بنفسه، ولو بعد رحيله إلى ربه جل وعلى، على تلك الاتهامات الباطلة، كما أنه من الممكن أن تفيد الباحثين والمهتمين المخلصين بالقضية الجزائرية في بحوثهم ودراساتهم. مرة أخرى أرجو من الجميع التمعن في الرسالة لعلها تساهم في فهم عمق وطبيعة المعضلة الجزائرية.

تعتبر الوثيقة ميثاق شرف للبعثة البرلمانية في الخارج وهي تعكس رؤية الشيخ محمد السعيد ومن خلالها نراه يتحدث بحنكة سياسية وليس كرجل سيحمل السلاح، فما هي الأسباب الحقيقية التي دفعته إلى الالتحاق بالجماعات المسلحة وإن كان البعض يراوح بين ضغوطات من النظام وآخرون يرونها من هذه الجماعات نفسها لهدف تصفيته؟ وهل لكم معلومات موثقة عن حقيقة ما جرى للشيخ؟

أولا، وللأمانة، إنّ ما جاء في الوثيقة يعبّر عن القيادة الميدانية للجبهة الإسلامية للإنقاذ آنذاك وفي تلك المرحلة الحرجة بالذات والمتمثلة في تلك الفترة، بالإضافة إلى الشيخ محمد سعيد والذي بصفته كمسؤول اللجنة السياسية آنذاك كان له بالتأكيد دور مهم رحمه الله، أهم من كان من ضمن القيادة الشهداء عبد الرزاق رجام (مسؤول الإعلام ومنسق المكتب التنفيذي) وقاسم تاجوري (مسؤول التنظيم) والشيخ يخلف شراطي (مسؤول الدعوة والإرشاد)، وكذا الأخ نصر الدين تركمان حفظه الله، أما الأخ حشاني رحمه الله فكان معتقلا آنذاك كما كان حال الدكتور عباسي المدني والأخ علي بن حاج حفظهما الله. إذا، كان الشيخ محمد سعيد يعبر عن الخط الأصيل للجبهة الإسلامية لإنقاذ. فما كان للبعثة البرلمانية أن تأخذ الأوامر من شخص بمفرده مهما كانت العلاقة القوية التي تربطنا به.

ثانيا، ومن باب التذكير، عوّدنا الشيخ رحمه الله الصدق في القول والعمل. فالوثيقة تبيّن أنّ التوصيات السرية كانت مطابقة تماما مع تصريحاته العلنية. بالفعل، وكمثال، التوجه السياسي الذي جاء في الوثيقة هو نفسه الذي صرّح به الشيخ يوم 13 ديسمبر 1991 والذي نقلته "البي بي سي" (BBC Monitoring SWB 16 Dec 1991) يوم 16 ديسمبر 1991، ومما قاله رحمه الله: "إنّ الجبهة الإسلامية للإنقاذ تريد التغيير، تغيير شامل لكن بالتدرج، عبر صناديق الاقتراع وعبر الخيار الحر للشعب بعيدا عن أيّ وصاية أو تهميش".

كما أنه هو الخطاب نفسه الذي حمله المبعوثون من طرف القيادة الميدانية آنذاك للجبهة إلى أصحاب القرار. ومن باب التدقيق يمكنني أن أجزم أنه هذا حال المبعوثين الذين زكاهم الشيخ محمد سعيد رحمه الله حيث ليس لي وسيلة للتأكد من مبعوثين آخرين لم يكلفوا من قبل القيادة الميدانية المذكورة أعلاه تحدثوا في فترات مختلفة مع أصحاب القرار. إذا، البعثات المتتالية التابعة للخط الأصيل كانت دوما تؤكد على أنّ الأزمة أزمة سياسية ولا بد من حل سياسي، لكن كان رد الاستئصاليين بالرفض دوما بل بالمكر ضد المبعوثين.

هذا حال الرئيس الأول للبعثة البرلمانية، أخي الدكتور الشريف بن لحرش ـ رئيس قسم أمراض الأعضاء بمستشفى قسنطينة والنائب المنتخب عنها ـ الذي أصبح من المفقودين منذ أواسط 1992، حين عودته إلى أرض الوطن لموافاة قيادتنا بتقرير مفصل عن أول جولة للبعثة البرلمانية وعن الحالة الحقيقية لمؤسسات الجبهة في الخارج آنذاك والمخالفة تماما لما قيل لنا عشية مغادرة البلد. حينها ونظرا لشبكة علاقاته القوية في الشرق الجزائري ـ مسقط رأس العديد من قيادات الجيش والمخابرات ـ، كُلف الدكتور رحمه الله من قبل القيادة الميدانية بمهمة تفاوض مع بعض العسكر من أجل حل سياسي للأزمة. ولكن العسكر رفضوا الحل بل تم اختطاف الدكتور الشريف من قسمه وإلى اليوم لم يظهر عن أثره شيء. تقبل الله منه وتقبله من الشهداء والصالحين ورزق أهله وأصحابه الصبر والثبات. هذه عينة واحدة من عدة محاولات قبل اضطرار الشيخ ومن معه إلى حمل السلاح دفاعا عن النفس وعن حق الشعب ومؤسساته المنتخبة، حيث أنّ الشيخ محمد سعيد ومن معه من الأوفياء على الخط الأصيل، وحرصا منهم على سلامة شعبنا ومستقبل بلدنا، لم يجدوا بابا للسلام إلا وطرقوه.

هناك حادثة أخرى: كلفت القيادة الميدانية مجموعة أخرى بقيادة الدكتور مولاي سعيد، رئيس قسم الرياضيات بجامعة العلوم والتكنولوجية بباب الزوار بالعاصمة، وهو نائب منتخب عن مدينة البويرة. نفس الرد جاء من قبل أصحاب القرار حيث رفضوا العرض السلمي وتم اختطاف الأخ الدكتور من الشارع ومرّ بأبشع التعذيب وعندما اتصالنا هذه المرة بمنظمات دولية لحقوق الإنسان بعد اطلاعنا على اعتقاله، على عكس حالت الدكتور بن لحرش الذي لم نسمع عنه شيئا ، تم سجن الدكتور مولاي لبضع سنين ثم تم الإفراج عنه حفظه الله وتقبل منه صالح الأعمال. ولكم كذلك حالة الشيخ شراطي وقاسم تاجوري حيث تم اعتقالهما ثم الغدر بهما داخل سجن سركاجي والنظام يعلم أنهما من القيادة التي كانت دوما تسعى للحل السلمي رحمهما الله وتقبلهما من الشهداء والصالحين.

وهناك قصة الشهيد عبد القادر حشاني ومساعي الشيخ عباسي المدني والأخ علي بن حاج حفظهما الله، ومساعي البعثة البرلمانية في روما سنتي 1994 و 1995 وفي جنوب إفريقيا 1996، بعدما سدت الأبواب في أرض الوطن.

وللمعلومة، فإنّ مساعي البعثة بالمناسبة كانت بتنسيق مع القيادة الميدانية قبل اضطرار أفرادها للالتحاق بالعمل المسلح وتجميد عضويتهم في الجبهة الإسلامية بنفسهم حتى يُحافظوا رحمهم الله على الطابع السياسي للجبهة.

إذا، الخط الأصيل وبإيعاز وحرص من الشيخ محمد سعيد كان مع الحل السياسي ومع تفضيل الحل السلمي على المواجهة العسكرية. لكن الاستئصاليين هم الذين كانوا ولا زالوا يرفضون أي حل تفاوضي وهكذا وللتاريخ فإنّ الانقلابيين ومن يدور في فلكهم هم الذين حوّلوا منافسة سياسية سلمية إلى مواجهة عسكرية دموية كلفت ولا زالت تكلف البلاد الكثير. هذا ما يمكنني الإدلاء به في هذا المقام وأما فيما يخص حيثيات استشهاد الشيخ فلا أستطيع العودة إلى التفاصيل المؤلمة، تقبله الله ومن معه في الصديقين والشهداء والصالحين.

يحمل الكثيرون مسؤولية فشل العمل المسلح في الجزائر إلى ما يسمى بجماعة الجزأرة التي ذهبت في تنظيم مسلح محسوب عليها إلى تصفية المثقفين والصحفيين، فما رأيكم؟

أولا أنا لا اعترف بتنظيم أطلق عليه النحناح رحمه الله لقب "الجزأرة". كل ما أعرف هو مدرسة البناء الحضاري الإسلامية التي تربيت فيها وانتمي إليها منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما. فهي مدرسة فكرية اجتماعية مقاصدية تؤمن بشمولية الإسلام لكل مناحي الحياة، وفق معادلة الثوابت والمتغيرات أو المبادئ والاجتهادات. يشكل لديها العامل العقدي الإسلامي معامل تحريك وتفعيل للجهد البشري، لأنه محكوم برؤية إيمانية تجعل العمل جزء من العبودية المطلقة لله تعالى واستنان بسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. فالإسلام محرك اجتماعي لقيم الخير والصلاح والتقوى. مدرسة البناء الحضاري تقدم اجتهادا إسلاميا يحقق التوازن ويبعد أشكال التوجس والخوف، وفي نفس الوقت يحقق طموح المجتمع الجزائري المسلم في أن يخطو خطوات كاملة نحو التقدم والمدنية والتطور. وتسعى المدرسة للإصلاح، إصلاح السلوكيات وإصلاح منظومة القيم وإصلاح التعاملات بين الناس وفق هدي الوحي الكريم. كما أنها تنبذ كل أشكال التعصب المقيت للكيانات والمؤسسات لأنها، مع ضرورة وجودها في غياب دولة الحق والعدل، إلا أنها مجرد وسائل إدارية لتحقيق فعالية العمل ونجاعة التنظيم، وهذه الكيانات ليست بديلا عن مفهوم الأمة الإسلامية ومفهوم المواطنة. المدرسة تؤمن بأهمية التعاون والتآزر في العمل العام وتعزيز القواسم المشتركة لأنه ليس بمقدور مجموعة واحدة تحقيق كل شروط التغيير وتغطية كل مجالات الحياة. كما تؤمن بأهمية التعددية واختلاف التنوع الذي يثري الخبرة البشرية ويقدم مقاربات متنوعة للمسألة الواحدة. وتؤمن كذلك بالتلاقح الفكري وبأهمية الاستفادة من تجارب الجميع مهما كانت مرجعيتهم: "الحكمة ضالة المؤمن وهو أحق بها" ما دامت تحقق وتخدم "مقاصد الشريعة". مدرسة البناء الحضاري تتبني فهما خاصا للواقع واجتهادا بشريا قد يخالفها آخرون، فهو اجتهاد لا يؤمن بعصمة الرجال ولا عصمة الأفكار المحكومة بمعادلة الزمان والمكان. فهو اجتهاد بشري قابل للخطأ والصواب.

قمت بهذه المقدمة حتى يُفهم جوابي على سؤالكم والذي هو كالآتي: رغم قناعتنا الراسخة أنه لا يمكن لإخوة تربوا في حضن مثل مدرسة البناء الحضاري العريقة أن يقوموا بتلك الجرائم البشعة في حق الأبرياء، الجرائم التي ينبغي دوما التنديد بها دون أيّ تردد ـ كموقف مبدئي ومن باب احترام ومواساة عائلات الضحايا ـ إلا أننا كنا السباقون، ولا زلنا إلى اليوم في المطالبة بلجنة مستقلة لكشف الحقيقة حول جميع تلك الجرائم التي ترتكب في حق شعبنا مهما كانت المبررات ومهما كانت الجهة من ورائها. إننا نرى أن كشف الحقيقة خطوة أساسية ورئيسية نحو طي صفحة الماضي طيا عادلا.

ما هي أسباب رجحان الكفة لصالح العسكر والسقوط الحر للتنظيمات المسلحة والتي حولت نزاعها إلى داخلي اوهن شوكتها بعدما كان النظام على موعد الانهيار؟

لعله لدينا قراءة مختلفة للأوضاع. أولا نحن ليس من مشروعنا اللجوء إلى القوة أو إحداث التغيير بالقوة فنحن قدمنا كل الوسائل السلمية الشرعية ـ أي دون خذلان الشعب ودون الانبطاح أمام الطغاة جلادي الشعب ـ فالنظام الانقلابي هو الذي حوّل كما أسلفت منافسة سياسية سلمية إلى مواجهة عسكرية دموية. ثانيا، صحيح أن القتال كره لنا كبشر لكن هو مكتوب علينا، ومنه كان لازما علينا عدم تولي الدبر أمام إلحاح الانقلابيين وتحويلهم ميدان المواجهة من السياسة إلى السلاح. ثالثا، وعلى الأقل بالنسبة للخط الأصيل للجبهة الإسلامية لم يكن دعمنا السياسي للعمل المسلح من أجل الوصول إلى السلطة ولكن كان من أجل العودة إلى خيار الشعب ومنع الأقلية الأيديولوجية المستلبة حضاريا والمستولية على عقول الاستئصاليين وعلى مفاصل الحكم أن تحقق مشروعها التغريبي الذي رفضه الشعب من خلال تلك الانتخابات التاريخية. رابعا، وبعد كل هذه الفترة التي هم متشبثون فيها بالسلطة، الانقلابيين في الحقيقة فشلوا في تحقيق مشروعهم، ومنه تلك الجرائم البشعة التي ارتكبوها في حق الشعب انتقاما منه على خياره الحر. خامسا، الانقلابيون فشلوا في مشروعهم رغم الدخل الهائل من البترول بسبب الفساد المتفشي في البلاد وأمام عجزهم على تحقيق سياسات تنموية حقيقية. سادسا، النظام سوف ينهار في اللحظة التي يتخلى عنه المجتمع الدولي. سابعا، وأمام الدمار والخراب الذي تسبب فيه أصحاب 11 جانفي، كنا من المؤيدين لوقف المواجهة المسلحة، ولهذا الموقف أسباب داخلية كذالك وهي كونDRS أو المخابرات تمكنوا من اختراق المسلحين تنفيذا لمخطط الجنرال نزار المشهور والقيام بعدها بأعمال إجرامية بشعة وبتصفية قيادات أمثال الشيخ محمد سعيد والشيخ سليمان أبو سعدون والشيخ عبد الحميد بوشى وغيرهم تقبلهم الله جميعا من الشهداء والصالحين. ما كان ذلك كله يحدث لولا ضعف المسلحين من الناحية العقائدية والتربية والوعي والنضج فتم التلاعب بهم ودفع بعضهم إلى القيام بأبشع أعمال إرهابية عرفها التاريخ. لذلك وبناء على هذه التجربة المرة التي مر بها بلدنا، أصبحتُ من الذين يأخذون بالقول الفقهي أنّ الجهاد من أحكام السلطان، أي لا بد من إيجاد جهة مُمَكّنة قادرة على الحفاظ على وحدة الصف وعدم اختراقه من قبل القتلة مجرمي الحرب، والابتعاد عن قتل وسفك دماء الأبرياء، هذا من الناحية المبدئية، وأما بالنسبة لبلدنا الجريح الجزائر اليوم وبعد ما عناه شعبنا على يد المجرمين، إننا نرى ضرورة السعي الجاد لضمد الجراح وطي صفحة المواجهة طيا عادلا.

المصدر: http://bilahoudoud.net/showthread.php?t=1642

تعليقان

  1. غير معروف بتاريخ

    justice
    salam, on doit d’abord nous corriger, retourner au bon dieu.ce jour là, aucune puissance ne peut résister devant nous . çà viendra ce jour là inchalah.

  2. غير معروف بتاريخ

    merci nacer
    c’est un Homme tres modeste que je salue

Exit mobile version