عملية التفعيل الحقيقي لمنظمة أوبك الغاز، كان من الطبيعي أن تمر بمحطة إجبارية هي الجزائر، التي يحتضن باطنها احتياطيا كبيرا من هذه المادة الطاقوية، وهي منتج رئيسي لها لا يقل أهمية عن روسيا وفنزويلا. وبالنظر إلى هؤلاء الثلاثة الكبار في هذا المضمار، تبدو الجزائر في رواق ممتاز لتكون الضابط الذي يضمن العملية الصحيحة لميلاد هذا التكتل الغازي، فبالنظر إلى الداعين له وأصحاب فكرته، نجد أن الأوروبيين الحلفاء في مجملهم لأمريكا والأكثر استهلاكا للغاز الطبيعي وأمريكا بدرجة ثانية، قد لا يرحّبون إن لم نقل سيعملون على عرقلة هذا التكتل ما داموا لا يستطيعون إجهاضه بالمرة ولا يستطيعون احتواءه وتحويله إلى أداة لخدمة أطماع أمريكا أكثر من خدمة مصالح الدول الأعضاء وشعوبها على غرار أوبك البترول، فهذه الأخيرة لا تتحرّك ولا تسكن إلا وفق ما تشتهيه الإرادة وما تمليه الإدارة الأمريكيتين، وهذا الاحتكار والاحتواء عزّزه أكثر انهيار العراق أحد المنتجين الكبار للنفط من جهة، وتنازل بقية المنتجين الكبار من جيران العراق لسيادة قراراتهم وصلاحياتهم لصالح واشنطن، في مقابل حماية النظام السياسي الحاكم في كل بلد منتج.

ومن الطبيعي جدا أن يصبح القرار الاقتصادي والسياسي العالمي بيد من له حق التصرّف في الثروة لا بيد من يمتلك الثروة، وهو ما يترجم قاعدة "الملك يملك ولا يحكم"، فكل ملوك وأمراء الخليج يملكون الثروة النفطية ولا يحكمونها ولا يتحكّمون في أسعارها أو برامج ما تصرف فيه عائداتها التي غالبا ما لا تكون لا في صالح الشعوب الفقيرة والمساعي الإنسانية الدولية ولا حتى في صالح الشعوب التي تعيش على أرض يحتضن باطنها هذه الثروة النفسية.

وزيارة بوتفليقة لموسكو، تأتي في سياق وضع الترتيبات الأخيرة لمبادرة أوبك الغاز الذي قبل طرحه للنقاش في ملتقى البلدان المنتجة في أفريل القادم بإيطاليا، تحسّبا للإعلان عنه رسميا في جوان القادم في موسكو، حيث سيوقّع على ميثاق ميلاد منظمة أوبك الغاز، وعليه فإن زيارة بوتفليقة لموسكو ليست فقط من أجل إعادة النظر في عقود التسليح المبرمة بين الجزائر وروسيا في مارس 2006 أثناء زيارة بوتين لبلادنا، بل هذا الملف ربما لا يكون يكتسي حتى نصف ما لملف أوبك الغاز من أهمية، ثم إن السعي الروسي الحثيث لإقناع الجزائر بضرورة العمل على دعم إنجاح مشروع أوبك الغاز بات في مرحلة الأمر الواقع، لأن روسيا وفنزويلا لهما في هذا المشروع ما يعزّز مكانتهما في سياق الصراع الاستراتيجي أو الحرب الباردة الثانية غير المعلنة بين هذين البلدين من جهة، وبين واشنطن من جهة أخرى، ففيما تقارع فنزويلا أمريكا في جنوب العالم الجديد على خلفية مناهضة الإمبريالية والرأسمالية الاستعمارية المتوحّشة في مواجهة المد النيو ـ اشتراكي، تقارع روسيا غريمتها التقليدية واشنطن في أقصى شرق المعمورة وفي شرق أوربا، عن طريق تتبّع عثراتها في أفغانستان وإيران والعراق وعن طريق توظيف النقم الشعبي الذي يسكن وجدان ملايين البشر من سياسات بوش الرعناء، وعليه فإن ثقل الجزائر الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي هو مثار تنافس من قبل هؤلاء وأولئك، وبناء عليه يتحدّد نجاح المشروع من عدمه خاصة بالنظر لما تتميّز به الجزائر من علاقات مع الأوربيين الأكثر استهلاكا للغاز الطبيعي، فموسكو إذا تبحث عن مجدها الضائع وتحاول استرجاع مكانتها التي فقدتها بانهيار الاتحاد السوفيتي من خلال دعم القوى الممانعة للسياسات الأمريكية ككوريا الشمالية وإيران والوقوف سياسيا ودبلوماسيا إلى جانبهم، وتقف حائلا أمام مشروع الدّرع الصاروخي الأمريكي عسكريا، ولم يتبق لها غير الفضاء الاقتصادي الذي يضطرّها إلى إيجاد ساحة صدام وتنافس بعيدة عن الصناعة والتكنولوجيا وبعيدة أيضا عن قطاع البترول الذي هو ف! ي جيب واشنطن منذ نيف من الزمن، وذلك الفضاء لا ولن يكون غير قطاع تجارة الغاز الطبيعي الذي من خلاله تتمكن روسيا من الضغط على القرار السياسي في أوروبا الغربية في الحالات العسيرة، بحيث إن الأوروبيين خاصة فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا سيفكرون عشرات المرات قبل ركوب موجة النزوات الأمريكية مستقبلا، وهذا ما سيتيح لموسكو العودة إلى مكانتها الضائعة من أوسع الأبواب، ونفس الشيء تقريبا بالنسبة لكراكاس وحلفائها اللاتينيين هكذا يمكن أن نقول إن أصحاب فكرة مشروع أوبك الغاز ركزوا على الدول المنتجة التي لها أوسع هامش من السيادة على قرارها السياسي وأسقطوا كل حساب للدول الكشكولية التي تستمد أنظمتها علة التواجد وموانع الانهيار وشرعية الحكم من البيت الأبيض الأمريكي، سيما وأن رقع الترحيب بالمبادرة تتسارع بشكل ملحوظ وتلقى كل الاحتضان والتأييد من قبل كل من إيران وقطر القريبتان من مناطق النفوذ النفطي والسياسي والعسكري الأمريكي، بعدما كانت مجرّد فكرة بسيطة تدور في خلد زعماء فنزويلا ونيجيريا.

عبد الله الرافعي
19 فبراير 2008

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version