أسس نظام في المعاش

منذ 1962 وهو تاريخ الإستقلال العسكري للجزائر، والنظام يصنع وجوده على بعض الأسس التي يعطيها مفهومه الخاص، ويخيطها على مقاس أقدامه وجواربه، بدأ من شرعية ثورية وتاريخية مستغلة إلى رمزية ضحايا الإرهاب الآن… فيمكن إجمالها في ما يمكن أن يختزل كل أسباب البقاء التي هب الحكم بها يصنع وجوده وخلوده برغم مآسيه، فالأساس الأول يتعلق بأمن الشعب وذلك من خلال تغذية الإرهاب وبطرق مختلفة، فكان في البداية بواسطة المطاردة والإعتقال التعسفي والتعذيب والسجن والقتل خارج أطر القانون، وهو ما دفع الكثيرين إلى الهروب نحو الجبال وحمل السلاح، غير أنه بسبب الإنقلاب العسكري أصبح أمرهم يمس شرعية الحكم فتحتمت بعض الإجراءات القانونية التي من خلالها أريد رفع الغطاء الشرعي عنهم وخلق الهوة بينهم وبين الحزب المحل وقيادته السياسية، أما اليوم فموضوع "القاعدة" وعملياتها المشبوهة هي البعبع الذي جعل الشعب الجزائري لا يفكر إلا في أمنه وحياته… أما الأساس الثاني ويتمثل في تفقير الشعب وتجويعه حتى يبقى لا يفكر إلا في خبز صغاره وما يسد به رمقه، لأنه في حالة الأمن والشبع تكون النفس البشرية تبحث عن إهتمامات أخرى، وقد يكون من بينها طبعا الحكم وقضاياه، والتجويع يمارس على الشعب الجزائري ليل نهار، بالرغم من البحبوحة المالية والخزانة العمومية التي ملئت بالملايير إلا أن الوضع يزيد تدهورا، دفع الشباب إلى الإنتحار إما في عمليات تنسب للقاعدة أو مغامرات في قوارب موت يعلم أغلبهم أن الوصول للضفة الأخرى من سابع المستحيلات كما يقال… الأساس الثالث ويتعلق بعواطف الشعب التي تدغدغ بقضايا هامشية لا تفيده في مستقبله أبدا، كقضية "الصحراء الغربية" التي جعلتها بطانة الحكم كأبرز ما يناضل من أجله الجزائريون من باب حضورهم الدولي والعربي، ووجدت الطغمة الحاكمة ضالتها في هذا الموضوع المختلق والدعم غير المبرر لعصابة البوليزاريو، فمنها عدم الإستقرار في منطقة المغرب العربي وجعل الجزائريين يعيشون دائما تحت هاجس عدو أجنبي يهددهم بالإحتلال كما يراد من المملكة المغربية، وكأن قدر الجزائر بعد الإستعمار الفرنسي أن يعيشوا هاجس الخوف من إستعمار أو اعتداء أجنبي آخر، وأيضا إبعاد القضايا الأساسية التي وجب أن يدعم فيها الجزائريون اشقاءهم العرب كقضية فلسطين والعراق… الخ، فالنظام يعتاش من قضية الصحراء التي يراد منها إبراز النضال من أجل شعب يبحث عن تقرير مصيره، وطبعا من قيم الدولة الجزائرية مساندة قوى التحرر في كل العالم، وقضية الصحراء ليست كما يروج لها بل هي أطماع وحسابات صنعها النظام العسكري الجزائري عبر سنوات طويلة ولحسابات "شخصية" لا تنفع الشعب الجزائري ولا المغربي بشيء… ويوجد الأساس الرابع ويتعلق بالعقول وهو عن طريق منظومة تربوية فاسدة، وهذا ما نجده اليوم من خلال الإحتجاجات التي يقودها مرة الأساتذة وأخرى الطلاب وبعدها ربما الأولياء، فالمنظومة التربوية التي صنعها أناس تشبعوا بقيم وافدة عن مجتمعنا جعل ما يتعلمه الطفل في أسرته يناقض ما يتلقاه في مدرسته، لتطلع النتيجة إما فشله في تحقيق مستويات ناجحة بسبب تحيزه لما تعلمه في أسرته من قيم حضارية ودينية، وإما أنه ينسلخ تماما ويصير في ما بعد إطارا ينفذ أجندة أخرى مستوردة يسهر على رعايتها أذناب فرنسا وجرذان البيت الأبيض… أما الأساس الخامس والأخير الذي يمكن أن نعتبره من أسس نظام يعيش على المعاش، ويتعلق بأخلاق المجتمع حيث ينشر النظام بينه شتى أنواع الفساد الأخلاقي، فهو يشجع الدعارة والعهر والسكر العلني وينشر الرذيلة مرة بإسم الفن وأخرى بإسم حرية المرأة، ويكفي ما يسجل عن الواقع الأخلاقي للمجتمع الجزائري بما يجعلنا نتأسف كثيرا على ما آل إليه من تفسخ وإنهيار أخلاقي، الحديث فيه طويل جدا نتمنى أن نعود له بالتفصيل في محطة أخرى.

بعد ثورة المآزر ننتظر ثورة الفقراء

إن صمت الفقراء لن يدوم ولن تعبث به الأسس الفاسدة والمزورة والباطلة، ولن تطول تلك الحلول الآنية التي تحاول التطاول على ظروفهم تحت شعارات لا تسمن ولا تغني من جوع، فالشعب الجزائري الذي يعيش في بلد حباها الله بالنفط ويدر عليها بالملايير، لا زال يعيش تحت درجة خطيرة من الفقر، وشعب بإمكانه أن يعيش كبقية الشعوب الغنية لا يزال كل يوم يزداد فيه عدد المتسولين والمساكين الذين لا يملكون قوت يومهم، وسيشعل لهيب ثورة الفقراء حتما أن يرى عائدات النفط تملأ جيوب طغمة مرتشية وفاسدة وعاهرة، فلو زار هذا الشعب المسكين عواصم الدول العظمى من لندن إلى باريس، واشنطن، مدريد، جنيف… الخ، ويرى حكام الجزائر وأبناؤهم وبناتهم مع عشاقهن وعشيقات الوزراء والشخصيات النافذة وهم يبذرون المال العام ويعبثون بثروات الأمة، ما صمتوا لحظة ولثاروا ثورة المستضعفين الذين لا يهابون الدبابات ولا الرصاص الحي، فإما الموت بشرف أو الحياة الكريمة في ظل خير بلد هو من حق الجميع بلا إستثناء، فأصحاب المحافظ الممزقة والمآزر البيضاء قد هبوا لنصرة حقهم في الدراسة والنجاح الذي حرموا منه من طرف حكومة ومسؤولين أغلب أبناؤهم يدرسون في لندن، ويتمتعون بمنح الدراسة في الخارج لا لشيء سوى أنهم سنوا قانونا يعطي للمسؤولين السامين حق إستفادة بناتهم وأبنائهم من الدراسة في كبرى جامعات العالم وعلى حساب الخزينة العمومية، أما أبناء الفقراء والمساكين الذين يتصفحون كتبهم على ضوء الشمع، فتجد ألبستهم الرثة قد زادتها بقع الأعراف بشاعة، فلا حق لهم حتى في الدراسة المحترمة بجامعاتهم ولو كانوا متفوقين… فأولياؤهم تجدهم يتدافعون على أبواب المدارس بداية العام علهم يظفرون بحسنة 2000 دج، وكم من فقير لا يتحصل عليها لا لشيء سوى أنها توزع بمحسوبية؟ وبنفسي أعرف فقيرا من شرق البلاد يقضي كل صباحه في بيع ما يعرف بالشيفون لأجل أن يوفر غداء صغاره، ويحدث معه في المساء الأمر نفسه لأجل جلب خبز يابس للعشاء، لم يتحصل على هذه المنحة وفي المدرسة نفسها إبن عضو في المجلس الشعبي البلدي ينالها حتى يشتري بها بطاقات تعبئة لهاتفه النقال… أبعد هذا ويأتي من يتحدث عن جزائر العزة والكرامة، أي عزة وأي كرامة أن يجوع صغار الفقراء وأبناء الوزراء والأثرياء الذين كل أموالهم أخذوها كقروض غير مضمونة التسديد من البنوك، يتلاعبون بالمال في صالونات القمار والعهر بباريس أو لندن… امن الكرامة أن يعيش الجزائري من القمامات، وآخرون يتسوقون يوميا بين عواصم العالم الكبرى وعلى حساب الدولة، وهو ما لم يحدث في عهد الإستعمار الفرنسي؟… أمن العزة أن الصحراء التي تنتشر بها شركات البترول لا يجد أبناؤها فرصا للعمل، وتجلب الأيدي العاملة من الشمال للعمل أياما والراحة أياما أخرى وتكون عودتهم لديارهم على حساب الخزينة، لا لسبب سوى انهم من اصحاب الأكتاف العريضة؟… أمن الكرامة أن بواب في شركة بترول يتقاضى راتبا هو ضعف راتب دكتور في الفيزياء يدرس بالجامعة قضى أغلب عمره بين بطون الكتب وظلام المخابر؟…

فثورة المآزر هي تشجيع لثورات أخرى يجب أن تحدث لإسقاط هؤلاء اللصوص والمفسدين الذين ينهبون ثروات الأمة، ويحرمون بلادهم بسبب الرشوة من فرص كبرى للإستثمار، التي من الممكن أن تعطي فرصا للعمل بدل البطالة التي تدفع الجيل الذي من المفروض يصنع همة ومستقبل البلد إلى الحرقة وتفجير أنفسهم في عمليات تودي أيضا بفقراء ساقهم الجوع للعمل في أسلاك الأمن… لقد توعد الصغار بالخروج للشوارع ووفوا وعودهم فأين أنتم أيها الجائعون الذين تمن السلطة عليكم بأن أعادت الأمن وقضت على الإرهاب بمصالحة تحفظ لهم ماء الوجه ؟

لقد ملئت الخزينة بالملايير ولكن الأسعار إرتفعت لأن السعر المرجعي في قانون المالية هو 19 دولار للبرميل، والحقيقة أنه بلغ ما يقارب 100 دولار، وهذا الذي جعلها لم تقدم لكم سوى تدهور حياتكم وإنتشار الفقر والأوبئة المزمنة، لأن بقية المال تركته الحكومة إلى اليوم الذي سوف تبذره من أجل عهدة ثالثة في مشاريع نهب للمنتخبين المحليين، أعرف أنها لن تعود بشيء على فقراء الجزائر، لسبب وحيد أن المسؤولين المنتخبين من طرف أقلية من المقاولين ورجال الأعمال سوف ينهبون تلك الميزانيات التي تستغل في مناسبات إنتخابية… السلطة تكذب على الجميع وعبر أبواقها من تلفزيون وصحف مأجورة تقبض على ترويج الكذب صفقات كبرى للإشهار، فالواقع يعكس تماما ما يريد عبدالعزيز بلخادم وبوقرة سلطاني واحمد اويحيى الترويج له، لأن نضالهم لأجل بقاء بوتفليقة في الحكم هو نضال من أجل أنفسهم، لأنه لو تم إختيار رئيسا حقيقيا منتخبا بعيدا عن مخابر سرية فلن يظل لا بوقرة سلطاني ولا عبدالعزيز بلخادم ولا أحمد أويحيى في السلطة أبدا وسيجدون أنفسهم حتما في زنازين العزلة بسجن الحراش أو سركاجي، هذا إن رأف بهم الرئيس الشرعي المنتخب… حقيقة أنه في غياب الكبار الذين أثقل كاهلهم وهد حالهم العمل الشاق المؤبد لأجل لقمة العيش في زمن الجوع والمهانة، جاء الصغار بمآزرهم ليلقنوا العالم درسا أن الجزائري لا يدوم صمته أبدا وفي أي لحظة قد ينتفض لأجل طرد عصابة تتاجر بماله ورزقه وتسرق أحلام طفولته، وصدق من شبه مظاهرات جانفي 2008 بأنها تشبه إنتفاضة أكتوبر 1988، ونحن نراها الفتيل لإنتفاضة حقيقية تعود بالخير على الأجيال القادمة، ولا تستغل من طرف إنتهازيين متطرفين مازادوا البلد إلا وبالا… فقد إنتفض أصحاب البذلات السوداء بباكستان وبالجزائر وغيرها يحتالون على مساكين ويقتاتون من دم أبرياء أدخلوا السجون ظلما ومؤامرة، وإنتفض أصحاب الأقمصة البرتقالية في ميانمار ورجال الدين في الجزائر وباقي الدول العربية يتفنون في فتاوى الحيض والنفاس وإرضاع الكبير وتبرير شذوذ السلاطين والملوك والرؤساء شرعيا وعقديا… فثورة المآزر البيضاء هي بلا شك دليل على أن ما يؤخذ عنوة لا يسترد إلا بإنتفاضة عارمة تدفع بالنظام إلى السقوط وكشف سوأته للعالم، وإن كانت في الأصل هي مجرد بداية… ودعهم حينها يزعمون أن الشعب صار إرهابيا.

أنور مالك
22 يناير 2008

1 2 3

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version