من الحرب على الاستدمار الخارجي إلى الانتفاضة على الاستبداد الداخلي

لا شك أنّ النزاع الجزائري الحالي تولّد عن الإنقلاب العسكري على خيار الشعب يوم 11 يناير 1992. غير أنّ المحللين السياسيين المراقبين للمشهد الجزائري يتفقون على كون الأزمة التي تعصف بهذا البلد تمتد جذورها إلى فجر الاستقلال، بل إلى حقبة الاستدمار الفرنسي الغاشم الذي قام خلال أكثر من قرن وربع القرن بتدمير بنى الجزائر السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبضرب مقومات الشعب وإتلاف مقدراته تاركا إياه في حالة من الفقر المادي والفكري المدقع. وخير شاهد على ذلك درجة البؤس التي كان يتخبط فيها الشعب ونسبة الأمية المتفشية في أوساطه غداة الاستقلال.

بعد سلسلة غير منقطعة من الثورات توّجت مقاومة الشعب وأثمرت تضحياته الجسيمة بالنصر على المحتل واسترجاع استقلاله الترابي بعد حرب تحريرية كلفته أكثر من مليون شهيد.غير أنه عقب الجلاء الشكلي للمحتل فإنّ الشعب الجزائري لم ينعم قط بالاستقلال التام ولذلك تحدث البعض مثل الرئيس الجزائري الأسبق فرحات عباس عن "الاستقلال المصادَر". فعلا فقد فرضت مبكرا – إبان حرب التحرير – هيمنة العسكري على السياسي قهرا واغتيالا، وكرست هذه الهيمنة عن طريق الانقلاب العسكري المستمر ابتداء من الإطاحة في 1962 بالحكومة المؤقتة التي كان يترأسها السيد بن يوسف بن خدة من طرف جيش الحدود الذي فرض بقوة الدبابة أحمد بن بلة رئيسا إلى غاية انقلاب 1992 على شرعية الانتخاب ومرورا بانقلاب 1965 والعديد من محاولات الانقلاب الفاشلة. إذا فمنذ نشأة الدولة الجزائرية الحديثة التي يطلق عليها اسم "الجمهورية الجزائرية الديمقراطية والشعبية" تمّ التأسيس لنظام حكم عسكري – وإن كانت له دوما واجهة مدنية متمثلة في حزب سياسي أو رئاسة جمهورية – مستبد وغير جمهوري لا يؤمن بالشرعية الشعبية كمبدأ رئيس للحكم بل يعتمد في تسيير المجتمع على جهاز مخابراتي يُحكم قبضته على شتى مجالات الحياة السياسية والجمعوية والاقتصادية والإعلامية.

وتزايد تذمر الشعب مع حدة القمع وتفشي الفساد وعموم الظلم والاحتقار إلى أن انفجرت في شهر اكتوبر 1988 مظاهرات شعبية غطت شوارع معظم مدن الجزائر الكبرى تنادي بوضع حد لـ"الحقرة"، وتم قمع تلك المظاهرات بالمصفحات فانتهت بمجزرة راح ضحيتها المئات من الشباب الثائر. وقد أسس شهداء اكتوبر 1988 في الجزائر لعهد جديد من الانفتاح السياسي والحريات الفردية والجماعية شهد بروز العشرات من الأحزاب السياسية وصدور عدد هائل من الصحف والمنشورات. غير أن هذه الفترة لم تدم طويلا و سرعان ما اقفلت "الاستراحة الديمقراطية"، كما سماها البعض، بعد ثلاث سنوات، بواسطة انقلاب يناير 1992 الذي أوقف أول مسار انتخابي برلماني حر ونزيه في تاريخ الجزائر. وقد قام هذا الانقلاب الذي وصفه السيد بوتفليقة بأنه "أول أعمال العنف" بفتح أبواب الجحيم على الشعب الجزائري المسالم والقذف به في دوامة إرهاب الدولة والعنف المضاد.

وكان الثمن البشري الذي دفعه الشعب الجزائري من جراء حماقة الانقلابيين ومغامرتهم اللامسؤولة باهضا: أكثر من 200 ألف قتيل وأكثر من 10 آلاف مختطف وعشرات الآلاف من المعتقلين عشوائيا خارج إطار القانون وضحايا التعذيب المقنّن ومئات الآلاف من المرحّلين والمهجّرين. وبلغت حدة العنف ذروتها سنتي 1997 و 1998 في عهد اللواء ليامين زروال حين شهدت الجزائر حملات المجازر الرهيبة التي طالت المدنيين في المناطق النائية أين تمّ القضاء على عائلات، بل على قرى بأكملها وبطرق همجية. وأظهرت فيما بعد الدراسات الأكاديمية والشهادات العديدة لضباط سامين في الجيش وسلك المخابرات تورّط ما يسمى بـ"قوى الأمن" في معظم هذه المذابح الجماعية التي تمّ التخطيط لها على أعلى مستوى في هرم القوات الخاصة للجيش الجزائري في إطار استئصال القاعدة الشعبية للجبهة الإسلامية للإنقاذ كعقاب لها على سوء تصويتها في انتخابات 1991.

وجاء عهد السيد بوتفليقة الذي عينه العسكر رئيسا للجمهورية فتفاءل الشعب الجزائري خيرا بالرجل، رغم فداحة التزوير الذي شهدته عملية انتخابه، وذلك لكونه لم يشارك في مؤامرة 1992 على خيار الشعب ولم تتلطخ يداه بدماء الأبرياء في حرب التسعينيات القذرة، ورأى فيه المواطنون فرصة للخروج بالجزائر من أزمتها المزمنة. ولكن بعد أشهر من التفاؤل تبددت آمال الجزائريين حين تأكدوا أن لا نية للسيد بوتفليقة لبدأ حوار جاد وبنّاء لا يقصي أحدا، يفضي إلى حل سياسي عادل ويقود إلى مصالحة حقيقية. وترسخت خيبة الأمل حين صرّح السيد بوتفليقة في سنة 1999 أنه جاء لمسح الغبار عن واجهة النظام و عندما وعد أنه يتعين على كل من يريد المساس بالجنرالات الانقلابيين أن يمر أولا على جثته.

وبدل الشروع الفوري في عملية صادقة لفض النزاع وتحقيق المصالحة، كما كانت تقتضيه الضرورة، فضّل السيد بوتفليقة مقاربات أمنية لا تتعرّض للبعد السياسي للنزاع مغلفة بتسميات جذابة مثل "الوئام المدني" و "المصالحة الوطنية"، وهي وصفات بوليسية تمّ تصميمها وصياغة نصوصها من طرف الجناح الاستئصالي للمخابرات الذي كلّف السيد بوتفليقة بتسويقها للشعب الجزائري. يمكن فعلا القول بأنّ "ميثاق المصالحة الوطنية" الذي عرضه النظام الجزائري مؤخرا للاستفتاء الشعبي هو محاولة لتزوير الحقائق وتكريس الإفلات من العقاب وطمس الذاكرة الجماعية، فهو يبرّئ أعوان الدولة المتورطين في جرائم ضد الإنسانية ويمنحهم المجد وثناء الأمة بينما يكرّس تجريم المواطنين الذين عارضوا انقلاب 1992 وقاوموا مقترفيه. فضلا على أنّ الميثاق يسعى لفرض نظام سياسي شمولي مبني على إقصاء الآخر.

إنّ أيّ مشروع للمصالحة في الجزائر لن يكون له أيّ حظ في النجاح إن لم يأخذ في الاعتبار مقتضيات الحقيقة والعدالة والتسامح والذاكرة. ولا يمكن الخوض أبدافي مسألة المصالحة التي تتعلق بمعالجة آثار الأزمة قبل أن يتمّ فض النزاع أصلا، فالنزاع الجزائري لا يزال قائما، وإن كانت مظاهر العنف المرئي قد خفّت خلال السنوات الأخيرة فإنّ أسباب العنف الهيكلي لا تزال قائمة إلى الآن. ثم إنّ بنية النظام الجزائري لم تتغيّر قط، فلا يزال إلى الآن عسكري الباطن، مدني الظاهر. وقد تعاقب العديد من الحكومات والمئات من الوزراء على واجهة الحكم منذ انقلاب 1992 لكن كبار مسؤولي جهاز المخابرات احتفظوا بمناصبهم ونفوذهم. إنّ السيد بوتفليقة لا حول له ولا قوة أمام زمرة الجنرالات الذين نصّبوه على كرسي الرئاسة وهو يعي ذلك جيدا، إنه ابن النظام العسكري الذي ترعرع في صفوف جهاز المالغ (التسمية الأولى لجهاز المخابرات أثناء حرب التحرير) وفي هيئة أركان العقيد هواري بومدين وهو الذي شارك في الانقلاب على أول حكومة للجزائر المستقلة في 1962 ثمّ في الإطاحة بالرئيس بن بلة في 1965.

إنّ عسكرة المجتمع الجزائري تُعد العائق الرئيسي لإنشاء دولة الحق والعدل وسيادة القانون في الجزائر، فقد أدّت إلى استعباد الدولة وتدجين الطبقة السياسية بمختلف أطيافها وتهميش المجتمع المدني وتثبيط العزائم وتعطيل القوى الحية وتجميد فعاليات الأمة وشل نشاطها وجرّها إلى متاهات جانبية والزج بها في نزاعات زائفة بين يساريين وإسلاميين وبين فرنكفونيين وعروبيين وبين أمازيغ وعرب، الهدف منها هو ضرب لحمة الشعب وتشتيته ليسهل التحكم فيه (من منطلق فرّق تسد). ولا قيمة لهذه التصنيفات المغرضة فالمعيار الوحيد الذي يجب اعتباره هو معيار أخلاقي يفصل بين من يدعم النظام العسكري الجائر ومن يدعم الشعب الذي يتوق ويسعى للانعتاق، أيّا كان المعتقد الأيديولوجي أو التوجه السياسي أو اللغة أو العرق.

إنّ الشعب الجزائري لا محالة يسير في طريق التحرر وبناء "الدولة الديمقراطية الاجتماعية في ظل المبادئ الإسلامية" كما نصّ عليها بيان الفاتح من نوفمبر 1954 الذي أعلن عن اندلاع الثورة التحريرية المباركة. وإنّ تضحيات الشعب ودماء مئات الآلاف من الشهداء لن تذهب سدى. وستكون انتفاضة الشعب الجزائري ضد الطغيان تجربة رائدة في العالم العربي تحتذي بها الشعوب الشقيقة التي تعاني من الاستبداد السياسي، كما كانت بالأمس ثورة الجزائر على الاستدمار الفرنسي قدوة للشعوب المستضعفة تحت نير الامبريالية العالمية ومحفزا لها لاسترجاع حريتها المسلوبة.

صدر هذا المقال مجلة المراقب العربي العدد السابع ديسمبر 2005

الموقع: المراقب العربي

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version