محمد مصطفى حابس: جنيف / سويسرا
تميزت رسالة الإسلام عن غيرها من الرسالات السماوية أن ضمت في صفوفها مختلف الأقوام والأجناس وجعلت منها أمة واحدة، تدين بالوحدانية وتسعى لتحرير الانسان من الشرك والعبودية والضلال وتقوده الى طريق النجاة والطمأنينة والتقدم، كما جاء ذلك واضحا و جليا في قوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) – الحجرات : 13.
إن مبدأ العدل والمساواة الذي سارت عليه الدولة الإسلامية منذ نشأتها من عهد الرسالة الخاتمة ومرور بالخلافة الراشدة، أتاح المجال لأبناء هذه الأمة التي اعتنقت الإسلام وآمنت برسالته السمحاء، أن يلعب كل منهم دوره في الحياة حسب قابليته وإمكانياته، فلا غرابة أن برز المئات بل الآلاف من العلماء والمفكرين عبر القرون وكان شيخ علماء الجزائر وإمامها العلامة عبد الجميد بن باديس (1889 – 1940) و صحبه ( رحمهم الله جميعا)، من هؤلاء الأعلام الأفذاذ الذين ساهموا في إرساء وبناء قواعد الحياة الفكرية والاجتماعية والروحية للمجتمع الجزائري وعملوا على نمو وازدهار مظاهرها الحضارية المختلفة رغم ليل الاستعمار الداكن الظالم المظلم، والتي تنعم بها الجزائر اليوم – رغم الداء و الأعداء – من خلال بعث خير جمعية أخرجت للناس رفقة كوكبة من العلماء الخلص، تداولت وتشرفت بتسييرها والاشراف عليها شخصيات وكفاءات، فيهم وعليهم – ككل بني البشر- ، ليسوا ملائكة ابرار شطار ولا شياطين فجار أشرار .. لأنهم تعلموا – في السياسة الشرعية – موضوع التداول السلمي على السلطة و احترام النظام وأسس التنظيم المجتمعي وخصائص الدولة وأنواعها وحكم إقامة الدولة في الإسلام وغير ذلك، فانتخب الامام ابن باديس رئيسا عليهم غيابيا، لأن حمل الأمانة ثقيل !! كما جاء في قول الله عز وجل: ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ .. ) الأحزاب / 72

شكر للسلف و تهنئة للخلف
وبمناسبة هذا التداول على السلطة السلف بانتخاب قيادة جديدة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مستهل العام الجديد جانفي 2024، أود في البداية أن أهنئ الدكتور عبد المجيد بيرم منسّق الهيئة الاستشارية العليا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين على انتخابه رئيسا جديدا للجمعية، والفريق الجديد معه، متمنيا لهم موفور الصحة والعافية والسداد والتوفيق خدمة للعباد والبلاد، في مواصلتهم لمشوار الدعوة و الخير للأجيال، وسدد الله خطاهم وأعانهم على حفظ الأمانة، و تبليغ الرسالة، وبعد :
والشكر موصول لسلفه، وألف شكر للشيخ الجليل أستاذنا الدكتور عبد الرزاق قسوم على مجهوداته وتضحياته منذ عقود، في مسيرته الدعوية في صفوف وعلى رأس الجمعية الحافلة بالجد والتجديد والاجتهاد قدر المستطاع، والعطاء المستمر المتنوع مع فريقه ونحن نتابع كتاباته وتنقلاته من ديار الغرب، رغم أعاصير التحديات المادية الكبيرة للمكتب الرئيسي للجمعية بالعاصمة ومكاتب شُعبها عموما في التراب الوطني، وزحمة الأشغال وتعدد الانشغالات والمهام والأنشطة محليا ودوليا، على رجل مثله في سن متقدم من عمره، متعه الله بالصحة و العافية.. فالذي تجاوز عتبة الـ 90 عاما، وأن الله تعالى حفظ له قوته البدنية والذهنية والفكرية في هذا السن، وهي من النعم الربانية العظيمة التي قلّ أن يحظى بها من بلغ هذا العمر، فهو – كما علق أحد الأخوة في الجمعية العامة – بقوله : ” أن الشيخ قسوم في سن الـ 94 سنة هجرية و الـ91 سنة ميلادية يصعد المنصة صعود الرجل الشهم في بداية كهولته ليجيب ولمدة ربع ساعة أو تزيد واقفا بشهامة ( بلا عكازة) ومرتجلا في كلامه مجيبا على إشكالات واستفسارات وتعقيبات طرحها المتدخلون بمختلف مستوياتهم العلمية عقب تلاوة التقرير الأدبي للجمعية في جلستها الصباحية فأتى على كل تلك الإشكالات والاستفسارات بعد أن قيدها بدقة واستحضر لها كلها إجابات دقيقة تنم عن طول خبرته الأكاديمية وقوته الذهنية التي لازالت محفوظة له بحفظ المولى القدير، وعلى حنكته في الإجابة على بعض الإشكالات المفخخة والمعقدة !!”..داعيا بقوله ” نسأل الله تعالى أن يجازيه عما قدمه للجمعية من خير ودفاع عنها ونصرة لمبادئها وأن يعفو عما وقع منه من خطأ أو سهو أو تقصير، وأن يبارك له فيما بقي من عمره وأن يحسن خاتمتنا وخاتمته… آمين” ..

الشيخ قسوم، ومسيرة ما كان لله دام واتصل ..
وحتى لا يظن البعض بأنني أبيض صفحات رمادية من تاريخ الرجل! أقول لهم أني لم أفعل ذلك له يوم كان على هرم رأس الجمعية ومؤسساتها، وأنا من وراء البحار؟ فأنا ليس لي مصلحة أبتغيها منه حفظه الله و رعاه أو من غيره، وإنما أقدم جزءا من شهادتي للعبرة، وإنني حزين من بعض أساليب التشهير والتشويه التي يعتمدها بعض الناس من الجمعية ومن خصومها، ضد كل من يخالفهم الرأي، وكل إناء بما فيه ينضح، ولكل وجهة هو موليها، فاستبقوا الخيرات خير لكم، واحذروا من سموم ومخاطر الأغراض والمصالح الخاصة، التي تعلو أحيانا على مصالح المجتمع والوطن، فإنها قاتلة إن عاجلا أم آجلا، وكما يقال فإنما يتعثر من لم يخلص، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27﴾ .

الشيخ قسوم، عالم موسوعي في فقه الدين، وفقه الوطنية
فما يمثله الشيخ قسوم من مكانة فكرية ودعوية ونضالية كبيرة، ليس على الساحة الجزائرية والمغاربية فحسب، بل على الساحة الإسلامية عامة وحتى الغربية فهو فارس مزدوج اللغة بكفاءة عالية، كاتب ومفكر ومترجم دولي محنك بالعربية والفرنسية، تعلمت منه أجيال كثيرة دروسا جمة، وله قلم سيال و سيف بتار ليس بالعربية فقط بل باللغتين وما كتاباته بالفرنسية في مجلة “الشاب المسلم” و غيرها عن المتابعين ببعيد، تنم عن قوة امتلاك للغة فولتير، أما بالعربية فهو شبل العلامة البشير الابراهيمي في تجواله وسياحاته بفنون اللغة والبلاغة في افتتاحيات ” البصائر ” كشيخه على سبيل المثال، ناهيك أن الرجل عالم موسوعي في فقه الدين، وفقه الإسلامية، وفقه الوطنية، وفقه الواقع، وفقه الأولويات، وفقه الدعوة، وفقه الصبر والثبات، وفقه المبدئية، وفقه الروحانية، وفقه السنن وأنواعا شتى من الفقه والوعي الذي تحتاجه نهضة المجتمعات الإسلامية العاصرة، واستعادة الأمة لدورها المحوري في الحضارة الإنسانية. إنه كان بحق رمزا من رموز الإسلامية الحركية أو الإصلاحية الجسورة الجادة، بغض النظر عما يمكن أن يكون موضع خلاف أو أخذ ورد في بعض طرق أطروحته الإصلاحية وتجربته التغييرية التداولية، فذلك أمر متروك للتاريخ ليقول فيها كلمته بحيادية وإنصاف !!

الشيخ قسوم، ثروة وطنية محلية ومفخرة دولية للأمة الإسلامية
إن الدكتور عبد الرزاق قسوم حقا ثروة وطنية مغاربية ومفخرة دولية للأمة الإسلامية والإنسانية، يا ريت مع ضرورة بقاء قلمه في تطعيم جرائد ومجلات الجمعية، لو يتفرغ للكتابة لأن العمل الإداري اليومي يلتهم جل أوقات الناس، نعم لو يتفرغ للكتابة بداية بمذكراته باللغتين بالعربية والفرنسية لتسفيد منه الأجيال في الضفتين، أو يؤسس له طلبته قناة يوتيب أو تلفزيه لتفريغ ما في جعبته من أفكار ومشاريع تجديدية وسطية، لأن الكتابة قد تحتاج منه وقت أطول وصبر أكثر للجلوس للحاسوب!! فشيخنا قسوم يتفق عليه العدو والصديق على أنه إنسان متوازن، ومسلم رسالي غيور على دينه ووطنه وأمته، ومهموم حتى النخاع بأوضاعهم غير السوية من طنجة الى جاكارتا مرورا بفلسطين، ومنخرط في معركة بناء الوعي الرسالي المتوازن لدى الأجيال في هرم الجمعية وخارجها منذ أن عرفناه منذ عقود، فالرجل لا زال في مرحلة عطاء مستمر وقد أنتخب هذا الأسبوع في قائمة أمناء الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، الذي خلف فيه الشيخ علي القره داغي الشيخ القرضاوي، رحمه الله، كما انتخب المفكر الليبي الكبير الدكتور الصلابي أمينا عما له..

وهنا أحب أن أقرّ أني لا أدعي صداقة الشيخ عبد الرزاق قسوم كغيري ممن عرفوه معرفة جيّدة وعن قرب، ولا أدعي الاحتكاك به والتتلمذ عليه في جامعات الجزائر أو حلقات وندوات المساجد الجزائرية كما ذكر بعض معاصريه، ولا ملازما له يوم كان أمينا عاما للمجلس الإسلامي الأعلى، ولكنني أذكر أني تعرفت عليه عابرا من بعيد، خاصة في بعض “ملتقيات الفكر الإسلامي”، هذه المدرسة الدعوية التي تربت وتكونت وتعلمت فيها ومنها أجيال الصحوة المباركة، إذ أصبحت هذه الملتقيات الإسلامية الفكرية معيار صدق أداء الحكومات الجزائرية المتعاقبة وعربون وفاء لثوابتها الوطنية، والتي كان من المساهمين والمنظرين فيها الشيخ قسوم وصحبه، منهم الشيخ الدكتور عمار طالبي والشيخ الهادي الحسني والدكتور محمد بن رضوان و المرحوم البروفيسور محفوظ سماتي، والبروفيسور سعيد شيبان و شقيقه عبد الرحمان شيبان وزيرا الشؤون الدينية والأوقاف وهم من محركات (ديناموهات) جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وغيرهم كثير كثير، بمعية شيخنا و استاذنا الكبير المرحوم عبد الوهاب حمودة، الأمين العام الأسبق لوزارة الشؤون الدينية ومنظر العمل الدعوي الطلابي عبر الأجيال رفقة أستاذه المفكر مالك بن نبي رحمهم الله جميعا.

جمعية الدعوة الإسلامية العالمية (الليبية) استفادت من أقلام الجزائر
وقد استثمرت مؤسسات عربية و دولية عديدة في إناء معارف و ثقافة علماء الجزائر، منها على سبيل المثال لا الحصر، “كلية الدعوة الاسلامية ” منذ تأسيسها عام 1974، وهي مؤسسة إسلامية تتبع جمعية الدعوة الإسلامية العالمية (الليبية)، في عهد الرئيس معمر القذافي، التي كان يشرف عليها المفكر الليبي الدكتور أحمد محمد الشريف حتى بداية عام 2010، استثمرت في مجهودات علماء الجزائر ومفكريها أمثال الشيخ عبد الرزاق قسوم وكوكبة من علماء الجزائر كالمرحوم الدكتور أحمد عروة و الدكتور عثمان سعدي والدكتور عمار طالبي والدكتور أحمد بن نعمان و الدكتور أبو القاسم سعد الله، الدكتور رابح تركي، والدكتور محمد بن عبد الكريم الزموري الجزائري و الدكتور العربي كشاط، والدكتور سعيدوني ناصر الدين، والدكتور محمد ناصر، وغيرهم كثير، رحم الله من مات وحفظ من بقي ..
ومن يعود اليوم لتصفح أرشيف مجلة “كلية الدعوة الاسلامية الليبية” يلاحظه دون عناء تميز فكري عبر دراسات ومقالات وعطاء رجال الجزائر وعلماءها
Bulletin of the faculty of the islamic call
فهذه الكوكبة تحتاج من أقلام طلبتنا اليوم، إماطة الغبار عن تجاربهم ومؤلفاتهم المتناثرة هنا وهناك خدمة للعباد والبلاد، عملا بقول الشاعر الفقيه الإمام بن مالك الأندلسي، من أعلام اللغويين والنحاة، قوله:
إذا رَمِدتْ عيني تداويتُ منكم *** بنظرة حُسْنٍ أو بِسَمْعِ كلامِ
فإنْ لم أجِدْ ماءً تيمَّمْتُ باسمكم *** وصلَّيتُ فَرْضي والديارُ إمامي
وأخلصتُ تكبيري عن الغيرِ مُعرضاً*** وقابلتُ أعلام السِّوَى بسَلامِ
ولم أرَ إلاّ نورَ ذاتِكَ لائحاً*** فهل تدعُ الشمسُ امتدادَ ظلامِ

قسوم من الجيل الذهبي الذي نحت الصخرة التي تبعثر عليها المد التغريبي في الساحة الثقافية الجزائرية والاسلامية ..
أما في الخارج فقد التقيت الشيخ قسوم في ندوات معدودات في أوروبا وتركيا وغيرها.. و أذكر أننا التقينا مرة او مرتين في “ندوة التقريب بين المذاهب” بطهران، و التي يشرق عليها العلامة محمد علي التسخيري (1944-2020) وينظمها سنويا، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية وهو هيئة علمية إيرانية تهدف إلى محاولة التوفيق بين المذاهب الإسلامية وتقريب الآراء المختلفة، ومن عجيب الصدف أن إدارة المؤتمر رشحت مجموعة منا في لجنة الصياغة وكان معنا الشيخ قسوم، ومشايخ وأساتذة من دول أخرى، واستغربت شخصيا أن مقترحاتي و مقترحات الشيخ قسوم كانت متشابهة ومتكاملة بشكل لافت بل متطابقة، علما أن اللقاء بيننا كان لتوه، ولم نلتق قبل ذلك منذ أشهر ولم نشتغل على الموضوع سويا ولم نتناقش حوله، نفس النظرة في مؤتمر البورجي بفرنسا، نظرتنا كانت واحدة و متكاملة، رغم الفارق بيننا في العلم والفهم والتجربة والخبرة والسن، هذه كرامات “الجيل الذهبي” لأشبال بن باديس الذي ينتمي اليه الشيخ قسوم، وتكامل عِقده الذي بنته حبة حبة عبقرية بن باديس وصحبه في جمعية العلماء جيلا بعد جيل، كما رصه الدكتور الهاشمي التيجاني في جمعية القيم بعد الاستقلال لبنة لبنة، وأحكمته حلقات المفكر مالك بن نبي وتلاميذه والشيخ أحمد سحنون وصحبه من بعدهم !!

إذ يشكّل هذا الجيل الذهبي الصخرة التي تبعثر عليها المد التغريبي في الساحة الثقافية، وانكسرت شوكته رغم غطرسة المستعمر واستمرار تشبيك خيوطه الشيطانية بعد الاستقلال في بعض محاور اتخاذ القرار والتسيير في مؤسساتنا، كما نقلت ذلك بالتفصيل في أحد مقالاتي، نقلا عن تحليل لشيخنا العلامة محمود بوزوزو – رحمه الله-
وذكر لي أحد أساتذتنا أن الشيخ عبد الرزاق قسوم يعيش من راتبه كأستاذ مربي، همّه الدعوة والكتابة والقراءة وتعرف عليه الجمهور المعرب والمفرنس خاصة في الغرب كما في الشرق من خلال قلمه وجهده الفكري.. وعلى كثرة أسفاره وتنقلاته حدثني أحد الاخوة الذين اشتغلوا معه في أمانة خزانة ميزانية الجمعية أن الشيخ قسوم يدفع من جيبه كل أتعابه بما في ذلك مصاريف تذاكر السفر والتنقلات، بل حتى ثمن بنزين السيارة و مصاريفها يرفض أخذها من صندوق الجمعية، علما أنها من حقه، وهذه تحسب له، لأن من كان قبله على رأس الجمعية تسدد له مصاريف السيارة أو تعوض له من خزينة الجمعية !!..

الشيخ قسوم أستاذ الأجيال، قامة وقيمة، خبرة و حكمة، على الامة أن تكرم أمثاله..
فالشيخ عبد الرزاق قسوم قامة وقيمة فكرية وتربوية واجتماعية كبيرة متعددة المواهب، تستحق المزيد من الاستفادة منها، والتعريف بها، ونقل خبراتها إلى الأجيال، تقديرا لجهوده الكبيرة في خدمة العلم والثقافة والقيم الإسلامية والنضال المتواصل في سبيل تعريب المؤسسات وفضح أعداء البلاد والعباد كرفيقيه في درب التعريب المرحوم الدكتور عثمان سعدي والدكتور أحمد بن نعمان..
ذلك هو التكريم الحقيقي لأمثاله من العلماء والمفكرين الرساليين الكبار، وما يحملونه من خبرة وحكمة، وما يتوفرون عليه من بصيرة ورشادة..
بهذه الكلمات لا أريد أن أتزيد في القول عما قيل وكتب عن مناقب استاذنا الكبير الدكتور قسوم، فقط أحببت بهذه المناسبة الطيبة أن أتضرع إلى الله تعالى، بأن يجزل لأستاذنا سي عبد الرزاق قسوم المثوبة، ويجزيه عمّا قدّم في سبيل العلم وإصلاح المجتمع خير جزاء، وأن يعوّض جمعية العلماء من بعده رجالًا مخلصين يأخذون بيد أبنائها إلى ما فيه رفعتها وعزتها..
و بالمناسبة أحيي رفاقه من نفس الجيل، مشايخنا الأفاضل شيخنا الجليل الدكتور عمار طالبي وشيخنا الجليل سي الهادي الحسني وباقي الاخوة المشايخ في العهدة السابقة.. ويقيني أن العظماء والعلماء والمجددون والأئمة الاعلام يعيشون للناس والأمم ولا يعيشون لذواتهم رغم المحن والصعاب وحتى الأمراض التي تفرق الشمل و تعطل الشغل – وما وباء كورونة عن المبصرين ببعيد-، يبقى العظماء يرتفعون بأقلامهم وأفكارهم إلى ثريا المطالب ويرتقون إلى معالي الغايات. يكبر فكرهم فينير الدروب، وتعظم قلوبهم فيحبهم الخلق، وتعم أفضالهم فتشمل الجميع، وتلك من نعم الله على عباده الاصفياء الانقياء الاتقياء الأوفياء !!

إننا جميعا نمضي سراعا في طريقنا إلى الله، ولكن آثارنا في الأجيال تبقى ..
في أول زياراتي للبنان، لمحت أن السرايا الحكومي الأنيق والفاخر العمران الذي بناه لتوه رئيس وزراء لبنان المرحوم رفيق الحريري (1944-2005)، رصعته لافتة كتب عليها بلون براق بارز، الحكمة التالية :”لو دامت لغيرك ما وصلتك”، الكلمة المشهورة المنسوبة لأحد رعايا هارون الرشيد و التي قال فيها ناصحا واعضا له بقوله :
“اعلم أنه لو دامت لغيرك ما وصلت إليك”؛ وتابع قائلا :” انظر إلى الجهتين.. هذِه قصورهم وهذِه قبورهم!! إن الدُنيا إذا حلت أوحلت.. وإذا كست أوكست، وإذا جلت أوجلت، وإذا أينعت نعت!! وكم من قبورٍ تُبنى وما تبنى، وكم من مريض عُدنا وما عُدنا، وكم من ملك رفعت له علامات، فلما علا مات !!
ويحكى ان كسرى انوشروان كان يتنزه في ضاحية عاصمته، فشاهد فلاحاً عجوزاً قد علت سنه، وشاب رأسه، وغارت عيناه، ووهنت قواه، وتقوّس ظهره، وكان يغرس فسيلاً، فوقف كسرى بجانبه مأخوذا بنشاطه فقال له: يا هذا كم اتى عليك من العمر؟ قال: ثمانون سنة. قال: أفتغرس فسيلاً بعد الثمانين؟ ومتى تأكل ثمره وهو لا يثمر الى بعد عدة سنين؟
فأجاب الفلاح: زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون !!
أو كما كتب قبلي أحد مشايخنا العام قبل الماضي وهو يودع زميله في الجامعة، أستاذنا الكبير الدكتور عمار طسطاس للتقاعد من مرحلة التدريس والعمل الأكاديمي وهو لا يزال في سن العطاء، بقوله :” إننا جميعا نمضي سراعا في طريقنا إلى الله، ولكن آثارنا في الأجيال تبقى، وبركاتها تظل تصلنا بلا انقطاع، ما دام الخير الذي زرعناه كمربين ومصلحين ودعاة إلى الخير، مستمرا في الأجيال، كما بشرنا بذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله: (مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا). ويا سعادة من ترك أثرا حميدا في هذه الأجيال، وأعتقد أن أثر أستاذنا المحتفى به وغيره في الأجيال لا يخفى عن ذي بصر وبصيرة. فاللهم بارك فيهم وفي جهادهم الفكري والتربوي الطويل.

وللقيادة الجديدة لجمعية العلماء كلمة.. ” وعن أوقاتكم وأعمالكم مسؤولون”..
وأنهي كلمتي هذه المقتضبة بنصيحة لأعضاء المكتب الجديد وهيئات الجمعية في عمومها، نساء ورجالا، هنيئا لكم جهودكم وتضحياتكم بمواصلة رفع راية التحدي “الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا”.. و”أعلموا أنكم غدا بين يدي الله موقوفون وعن أوقاتكم وأعمالكم مسؤولون”، كما جاء في الحديث الشريف، لسيد الخلق سيدنا محمد (ص):” لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟”) رواه الترميذي
كما أهمس في أذن إخواني وأخواتي في كافة هيئات الجمعية وشُعَبها وطنيا محليا وحتى دوليا هذه البديهية التي يعرفها العام والخاص منا:” كل غائب قد يعود، إلا الوقت! فهو أنفاس لا تَعُود، فاغتنموا أعماركم بعمل الخير لخير جمعية أخرت للناس، وأول جمعية بنيت على الأساس، فهي أمانة العلامة بن باديس وصحبه الثوار الأخيار من الرساليين الربانيين الذين جاهدوا في الله حق جهاده”، مصداقا لقوله تعالى:” مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (الأحزاب: 23).. فالأيام معدودة والأنفاس محدودة..”، فأمضوا في سبيل الله لإتمام المشوار و إعمار الديار و نصرة الابرار، وصدق الشاعر الحكيم لبيد بن ربيعة، والذي أعجب الرسول (صلى الله عليه وسلم )، بمطلع شطر أبيات يقول فيها :
أَلا كُلُّ شَيءٍ ما خَلا اللَهَ باطِلُ … وَكُلُّ نَعيمٍ لا مَحالَةَ زائِلُ
وَكُلُّ أُناسٍ سَوفَ تَدخُلُ بَينَهُم … دُوَيهِيَةٌ تَصفَرُّ مِنها الأَنامِلُ
وَكُلُّ اِمرِئٍ يَوماً سَيَعلَمُ سَعيَهُ… إِذا كُشِّفَت عِندَ الإِلَهِ المَحاصِلُ
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل..

تعليق واحد

  1. Pr Hocine Fafa/ France بتاريخ

    السلام عليكم،
    الرجاء الانتباه بالنسبة للصورة اعلاه ، هذا المكتب القديم و ليس الجديد لهذا العام ٢٠٢٤..

Exit mobile version