فإلى متى تداس كرامة الأمة ولا يعمل حكامها بحكمة:
” تأبى الرِّماحُ إذا اجتمعنَّ تكسُّراً … وإذا افتــــرقَنّ تكــسّرتْ آحادا ”
محمد مصطفى حابس: جنيف / سويسرا
اكتفى قادة العرب حتى اليوم بالتنديد والاستنكار كعادتهم، وأفضل ما قاموا به أخيرا – هذا الأسبوع – هو تمكنهم من إقناع أعضاء الأمم المتحدة بتبني مشروع قرار تقدمت به المملكة الأردنية الهاشمية باسم المجموعة العربية، يطالب بـ”هدنة إنسانية” في غزة، وذلك بعد فشل مجلس الأمن الدولي في التوصل إلى توافق بشأن الأزمة.
وصوتت لصالح القرار 120 دولة عضوة في الأمم المتحدة ورفضته 14 وامتنعت عن التصويت 45 دولة، وأظهر مندوبو الدول العربية في الأمم المتحدة فرحًا كبيرًا بذلك وصوّروا الأمر على أنه نصر كبير، رغم أن هذا القرار يساوي بين المعتدي والمعتدى عليه، أي بين الجلاد الطاغية والضحية شعب فلسطين!!.
متى يتحرك العرب – ليس عسكريا – لسنا واهمين؟
حتى ولو اجتمعت دول العالم لإدانة الكيان الإسرائيلي وفتحت المعابر لنجدة شعب غزة الأعزل، إسرائيل لا تعبأ بأصواتهم “الناعقة”، ودليل ذلك – هذا الأسبوع- وصف الكيان الإسرائيلي تبني 120 دولة في الأمم المتحدة لقرار إرساء وقف إطلاق نار إنساني في قطاع غزة بـ”الدناءة”، فيما استنكر وزير خارجيته إيلي كوهين – عبر منصة إكس – قرار الأمم المتحدة الذي يدعو إلى هدنة إنسانية فورية وثابتة ومستدامة، ووصفه بأنه “مخز”.
في نفس الوقت، يُشاهد القادة والزعماء العرب والمسلمون حجم الجرائم الإسرائيلية في حق الفلسطينيين المدنيين، ويمكن أنهم سمعوا أيضًا بكاء الأطفال وصراخ الشيوخ والنساء، وحيرة الطواقم الطبية العاجزة عن تقديم الإسعافات الأولية للجرحى، مع ذلك لم يحركوا ساكنًا.
لم يشاهدوا وجع الفلسطينيين فقط، وإنما شاهدوا دولة عربية أخرى تُقصف بعد جنوب لبنان وسوريا، فقد سقطت مقذوفان في مدينتي طابا ونويبع المصريتين على البحر الأحمر، أمس الجمعة، ما أسفر عن إصابة 6 مدنيين، وقبل ذلك أطلقت دبابة إسرائيلية قذيفة على موقع مصري في منطقة كرم أبو سالم، ما أسفر عن إصابة بعض عناصر المراقبة الحدودية.
مع ذلك، تقبلت مصر هذا الأمر، واكتفت بعض الصفحات والمنابر الإعلامية المحسوبة على السلطة بالحديث عن أقوى جيش عربي لهذه السنة وفق موقع غلوبال فايرباور (Global Firepower) المتخصص في الشؤون العسكرية.
وفي عام 2023، أصبح الجيش المصري يحتل المرتبة الـ14 بين أضخم 145 جيشًا في العالم، بينما يحتل الجيش الإسرائيلي المرتبة رقم 18 عالميًا، حسبما تشير إحصائيات موقع “غلوبال فاير بور” الأمريكي، ويحتل الأسطول الحربي المصري المرتبة رقم 12 عالميًا بينما يصنف الأسطول الحربي الإسرائيلي في المرتبة رقم 40 في العالم.
رغم القوة العسكرية التي يتمتع بها الجيش المصري، فإنه لم يتحرك، لم نطالبه أن يتدخل عسكريًا، لسنا واهمين!، لكن على الأقل يدافع عن نفسه ولا يسمح للإسرائيليين بقصف مواقعه والتحجج بعد ذلك بوجود خطأ تقني.
لم نطالب مصر بدعم المقاومة بالسلاح، لكن على الأقل أن تفتح معبر رفح وتسمح بدخول المساعدات الإنسانية المتكوّمة على الطرف المصري من المعبر بانتظار فتح الأبواب للوصول للمنكوبين.
الأنظمة العربية التي اختارت الصمت خوفا على عروشها:
المسألة لا تقتصر على النظام المصري فقط، فكل الأنظمة العربية اختارت الصمت وفي أقصى الحالات التنديد والاستنكار الخجول فقط، لذر الرماد في أعين الشعوب لإسكاتهم، رغم هول المشاهد القادمة من قطاع غزة وبشاعة الجرائم الإسرائيلية المرتكبة بحق المدنيين العزل في كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
علما ان الأنظمة العربية تمتلك نقاط قوة كثيرة إن فعّلوا بعضها فيمكنهم فرض وقف الاعتداءات الإسرائيلية الهمجية، فلديهم النفط والغاز والعلاقات الدبلوماسية الكبيرة مع أغلب الدول في الأمم المتحدة، ولهم سلاح المقاطعة ووقف التنسيق مع الدول الداعمة للكيان الإسرائيلي.
للعرب أوراق ضغط قادرة على تغيير موازين القوى إن فعّلوها وأحسنوا استغلالها، لكن يبدو أنه لا يوجد لديهم نية لذلك، فالمهم عندهم كراسي الحكم وغير ذلك لا مكان له في تفكيرهم، وأقصى ما يمكن لهم أن يفعلوه السماح للشعوب بالتظاهر، وحتى هذا الأمر يمكن أن يمنعوه إن أحسوا في ذلك خطر أو تهديد على حكمهم.
نفاق هذا العالم الغربي وكيله بمكياليْن :
ولأنّنا نشهد نفاق هذا العالم الغربي وكيله بمكياليْن، وتجرّده من قيم الإنسانية المدّعاة زورا وبهتانا، إلى التوحّش ومعاداة الإنسانية، فلعله من اللاّزم على مثقفينا أن يحصّنوا أنفسهم بقراءة ما ذهب اليه كاتب فرنسي – من باب و شهد شاهد من أهلها – كان سابقا لعصره بعقود طويلة، وكأنّ صاحبنا كان يستشرف المستقبل وينذر بني دينه أنّ هذا هو الغرب، كما هو هو، لا كما يسّوق نفسه، ويسوّقه عبيده!
ولا عجب من هذا الاستشراف، فالرجل كان ينظر إلى المستقبل ببصيرة الإيمان…والرجل ليس إلا المفكر الكبير صاحب التصوّف الحقّ الفرنسي رينيه ڤينو والذي اختار لنفسه اسم عبد الواحد يحيى… وهو ميتافزيقى فرنسى ولد في نوفمبر سنة 1886، بمدينة بلوا في فرنسا لأبوين كاثوليكيين وانصرف في شبابه الباكر إلى الدراسات الروحية والمذاهب الميتافيزيقية الشرقية، ثم اعتنق الإسلام في سنة 1912 وتصوف وتسمى «عبد الواحد يحيى» سافر إلى مصر في سنة 1931 في مهمة علمية، ثم أقام بها إلى وفاته. وقد عرف بنقده اللاذع للحضارة الغربية الحديثة، وإكباره الشديد للحضارات الشرقية (الإسلامية) كما تجلى ذلك في كتابه الأشهر «أزمة العالم الحديث» وكذلك في كتابه «الشرق والغرب»، وله ما يزيد على عشرين كتاباً وقد توفى في يناير 1951. ويعد كتاب «الشرق والغرب» بمثابة جمع وتلخيص لأفكار رينيه ڤينو.

متى يفهم الاستعمار، أن القوة لن تدوم أبدًا، وأن الفكرة هي التي تدوم؟
مرة أخرى يقف القاصي و الداني على هذه الحقيقة المرة، كيف نفر والتف حكام الغرب بغثهم وسمينهم مدججين بأفتك الأسلحة في مساندة مطلقة عمياء دعما لكيان بني صهيون، القوة الذرية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط، دون أي حرج من الصداقة المزعومة بين بعض دول الخليج والغرب، إذ يصدق فينا بحق المثل الألماني المشهور:” صداقة الثعلب مع الأرنب تنتهي عندما يجوع” .

وفي تاريخ الحروب قبل الإسلام وبعده عِبَر ودروس، فقد استولى الإسكندر وهانيبال وحكام الفرس واليونان والرومان والفراعنة… إلخ، على كثير من مناطق العالم في فترة معينة من فترات الزمن. واستولى الصليبيون وموسوليني وهتلر.. إلخ على كثير من مناطق العالم في فترة معينة من الزمن.
ولكن مجرد انهيار حكم هؤلاء جميعًا أعقبه انهيار آثارهم من البلاد التي فتحوها..
أما الفتح الإسلامي، فهو وحده بقي فتحًا (مستدامًا) منذ كان حتى اليوم، لأن قادة الجيوش كان يدعمهم قادة الأفكار، فانهارت الجيوش وبقيت الأفكار. حتى الذين استطاعوا التغلب عسكريًا من غير المسلمين على المسلمين، تضاءلوا أمام العقيدة الإسلامية بعد حين، فاعتنقها منهم كثيرون وأصبحوا من روادها وحاملي رسالتها بين الناس. لماذا؟

لمّا يصبح الفرد منا، غير قادر على التضحية من أجل الوطن ؟
يجيب العلامة شيت خطاب بقوله” لأن المسلمين الأولين على الرغم من انهيارهم عسكريًا، كانوا يعتدّون بعقيدتهم ويؤمنون بأنها عقيدة بناءة لا تدانيها ولا تقاربها عقيدة أخرى”.
وقوة السيف قد تطفئ فترة، ولكن قوة العقيدة أقوى من كل قوة وأبقى على هذا الزمن من كل سلطان.. ومضى عهد الاستعمار القديم، وجاء عهد الاستعمار الجديد.. لقد آمن الاستعمار الجديد، أن القوة لن تدوم أبدًا، وأن الفكر هو الذي يدوم..
أما ضياع بوصلة مسلمي اليوم و في عقر دارهم، فيصدق فيه مقولة المفكر عبد الوهاب المسيري – رحمه الله -، التي يقول فيها ” عندما يدرك الناس أن الدولة تدار لحساب نخبة وليس لحساب أمة؛ يصبح الفرد غير قادر على التضحية من أجل الوطن وينصرف للبحث عن مصلحته الخاصة” ذلك داء أمتنا اليوم و كل يوم، في جل دولنا العربية والاسلامية، و عزاؤنا أن الله يدافع عن الحق و يعليه مصداقا لقوله تعالى{فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17]. وبالتالي تقهقرت أمتنا بسبب الغثائية التي حلّت بنا على كافة الأصعدة، و ذكرها الرسول (صلى الله عليه وسلم)، في حديث شهير، عن أبي عبد السلام، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ». فقال قائل: ومِن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن». فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا، وكراهية الموت».
وهذا الامام الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله -، يطمئن الجميع، عند محن الأمة وشدائدها كما هو الحال اليوم لشعبنا في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين، عارضا هذه القناعات التي هي سلاح المؤمن وعقيدته، يقول – رحمه الله – متسائلا و مجيبا بقوله:
هل أصابكم اليأس؟ أخبروني من يستطيع أن يُغيّر هذا الكتاب:﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾؟ من يستطيع أن ينتزع هذا الإرث:﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ﴾؟ من يستطيع أن يؤخر هذه الكلمة:﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ﴾؟
واختتم كلمته، بهذه القناعة الايمانية الفولاذية بقوله “حين تشعر أن المنافذ كلها مغلقة سيصل إليك لطف الله من المنفذ المستحيل !!!”.
‏الميادين متعددة و المعركة معركة الجميع!!
توضيحا لذلك، نشر أحد الافاضل مقالنا السابق الموسوم:” ويلٌ للعرب من ملوكهم، وويلٌ للعجم من سلوكهم،..!!”يا أمَّة ضحكت من (جبنها) الأمم”، في مجموعة واتساب لائمة الدول الاسكندنافية، بلاد الحريات والرأي والرأي المخالف، فغضب أحد الائمة التافهين المشرفين على المجموعة وحذفه لأنه في العنوان، كلمة ” ملوك”، ولا أظن أنه قرأ المقال أصلا!! كما أخبرني أحد الائمة في المنطقة، شاكرا لي صنيعي وأنه استفاد كثيرا من مقالي ذاك بل ونقل قطوفا منه في خطبته، أما سبب الحذف حسب محدثي، فإن “الناس، بل وبعض الائمة حتى في الغرب تخاف أحيانا من ظلها وتخاف خصوصا على فقدان فتات موائد الملوك التي تصلهم من بعض دول الخليج العميلة، ولا حول و لا قوة الا بالله” !!
” اللهم إنك تعلم أني قد أجبتُ داعيكَ فمنعوني”
و لكي لا أغضب وأواصل جهادي بالقلم – على حد تعبير زميلنا – ذكرني هذا الأخ الفاضل، أنه في كتاب “العِقْدِ الفريدِ” لابن عبد ربّه، أنه كان أبو يعقوب البويطي من كبار العلماء من أصحاب الشافعي، حين أراد منه الوالي فتوى في أمر لا يجوز، فرفض البويطي، فسجنه الوالي؛ فكان وهو في السجن إذا جاء يوم الجمعة، وأذَّن المؤذن، توضأ، ومشى حتى يبلغ باب السجن! فيقول له السجان: أين تريد؟ فيقول: أجيبُ داعيَ الله! فيقول له: ارجع عافاكَ الله. فيقول أبو يعقوب: “اللهم إنك تعلم أني قد أجبتُ داعيكَ فمنعوني”، نفس القصة وقعت مع شيخنا الإمام عمر العرباوي في الجزائر لما كان مسجونا بالإقامة الجبرية في ثمانينات القرن الماضي والشرطة أمام بابه، فيتوضأ و يلبس لباسه للخطبة استعدادا للخروج من بيته عند سماع الأذان الأول لأداء صلاة الجمعة بالناس في مسجده، مسجد الإمام الشافعي بالحراش، فيمنعه الحرس، فيردد هو أيضا أمام أفراد عائلته و الحرس، قولته المشهورة” اللهم إنك تعلم أني قد أجبتُ داعيكَ فمنعوني !!”
هذه معركة أُمَّة كاملة لا معركة غزَّة أو فلسطين وحدها!!
أريد بهذه الأمثلة تحفيز، بني قومي على المبادرة للعمل ونصرة قضيتنا، وقضايانا العادلة، نحن مسؤولون عن السعي لا عن النتيجة، عن السَّيْر لا عن الوصول، عن بذل الجهد لا عن النصر.. نحن نجيب داعي الله بحسب إمكاناتنا وقدراتنا، وكلُّ شيء في هذه الحرب له أثره، فلا تستصغروا ما يمكننا فعله، كلٌّ في مجاله، و كل خلق لما يسر له..!!
و كما قال أحدنا :” لو كانت الصواريخ عبثيَّة، لما جاؤوا بحاملات الطائرات ليساندوا دولة الاحتلال التي زرعوها كالشوكة في حلوقنا!
ولو كانت الكتائب مجرد بضعة مسلحين، لما وقفوا على أبواب غزّة خائفين أن يخطوا نحوها خطوة؛ ولو كانت الخطابات لا تُجدي، لما تسمَّروا أمام الشاشات يسمعون كلام المُلثَّم ويحلِّلونه، ولما شعرنا نحن بشيء من العزَّة تدبُّ فينا.
لو كانت المنشورات في مواقع التواصل غير مجدية، لما حذفوها، وقيّدوا الحسابات!”
هذه معركة أُمَّة كاملة لا معركة غزَّة وحدها، غزّة هي رأس الحربة فقط؛ والمعركة إنما هي معركة عقيدة لا معركة جيوش، والقتال هو قتال وجود لا قتال حدود!. فخُذْ موقعك منها بحسب مجالك، بالمال، والتظاهر، وكتابة المنشورات في مواقع التواصل، وبإسكات التافهين والمتصهينين.. خُذْه بقلبك، قلبكَ أحيانا يكفي، المهم أن تصطفَّ بعواطفك مع أُمَّتكَ، ولا تستهِنْ بما يفعله الدعاء الى رب الأرض والسماء !!!
والله يمهل ولا يهمل، ويهدي للتي أقوم، وإن غدا لناظره قريب، وما ذلك على الله بعزيز، إنه نعم المولى ونعم النصير !!

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version