“سيناريوهات الاسلام والعلمانية” ودروس الاستثناء التركي
‎‎
محمد مصطفى حابس: اسطنبول ـ تركيا / سويسرا ـ جنيف

نظرة إلى الوراء هذا الاسبوع على نتائج وافرازات الانتخابات الرئاسية التركية التي شهدت فوز الرئيس المنتهية ولايته أردوغان، بحيث أبرزت الانتخابات الرئاسية في تركيا وانتصار رجب طيب أردوغان نقاطًا جديرة بالذكر والاهتمام والدراسة والتحليل، لاعتبارات متميزة لبلد مسلم محاصر بل مخنوق من كل الجهات، جيوسياسيا يعد ملف تركيا غاية في الاهمية للدراسة والاعتبار، غاية في المقاصد والآمالات والمآلات.. تركيا صارت ظاهرة مشتلية معاصرة تضرب عرض الحائط الكثير من النظريات وحتى القناعات عبر الازمنة والامكنة، وسأعود بشرح مفصل بحول الله لهذه الفقرة وما يليها في مقال مستقل، لا لشيء الا لأن تركيا كبلد لها خصوصيات لا حد لها ولا عد : أنها أرض مسلمة تسير بنظام علماني رسميا في قرننا الحالي تداول على حكمها بقناعات متضاربة متنافرة، وجغرافيا فهي بلد مسلم سني كبير مقارنة بجاره الشيعي، فهي بلد أوروبي وآسيوي، وأنها عضوة في العديد من الهيئات الأممية والدولية بتناقضاتها الاقليمية والدولية، وجودها في الناتو وديبلوماسياتها الحكيمة في نظر البعض والشيطانية في نظر الاخرين تجعل من الحليم حيرانا؟؟ متضاربة مع الشقيق القريب والصديق البعيد بما فيها علاقاتها الاخيرة مع دول الخليج وسوريا ومصر، وغيرها وقد كتبت دراسة موّثقة منذ عشر سنوات خلت بعنوان : سيناريوهات الربيع العربي و”الإستثناء التونسي” : دروس في التحول الديمقراطي و دراسة أخرى بعنوان: دروس في التحول الديمقراطي، لمن أراد الرجوع اليها على هذه الروابط ، أدانه : دروس في التحوّل الديمقراطي – الخبر (elkhabar.com)
قلت في مستهل بعضها:
في تاريخنا القريب، يحلو للبعض أن يجري مقارنة بين ما جرى في دول مثل تونس حتى الآن وما جرى في مصر، ليؤكد أن الحركة الاسلامية ممثلة في حركة النهضة التونسية قد مارست الانفتاح على القوى الأخرى، بينما ذهب الإخوان في مصر إلى الاستئثار بجل “المناصب” والجبهات، فكانت النتيجة سقوطهم من خلال مكيدة انقلاب عسكري دموي لا ولن تنتهي فصوله حتى تنهك بقية قدرات “أم الدنيا” – لا قدر الله- رغم ما حبى الله به رجال مصر من كفاءات وخبرات عالمية لا تتوفر لغيرها من دول عالمنا الاسلامي .. وما من شك أن إدارة المشهد في تونس من قبل حركة النهضة كانت مختلفة عنها في مصر، وكانت أكثر حنكة وذكاء وواقعية، لكن ما ينبغي أن يتذكره الجميع هو أن التآمر على تجربة تونس لم تنته فصوله بعد. فطيلة أشهر كان “السيناريو المصري” حلما يسكن مخيلة جزء كبير من النخبة السياسية التونسية خصوصا والعربية عموما، بحيث يمكن تقسيم ذلك إلى 3 جبهات رئيسية، حسب المفكر الجزائري الدكتور الطيب برغوث الذي زودنا مشكورا بخلاصات بحثه، وكذا دراسات غربية للعديد من الخبراء والمراقبين، يضيق المجال لذكرها:
الجبهة الاولى:
جبهة المتحمسين لسيناريو عنفي، لقلب الطاولة بما فيها على الترويكا الحاكمة، ولتكن بعدها النتيجة الحتمية النجدة بالعسكر أو بقوى خارجية، لتصير تونس لا قدر الله، مثل جارتيها، مصر وليبيا، مصر إستفرد بقيادتها مغامرون عسكريون دمويون لا يقيمون وزنا إلا لمصالحهم الخاصة، و تونس هذه الأشهر الأخرى على نفس الخط، إن لم تدركها رعاية الله و بعض نخبها المتوازنة !
الجبهة الثانية :
جبهة الواقعية السياسية والوفاق الأخوي التي اعتبرت ما يحدث في مصر، “نكسة كبرى على دول الربيع العربي لا يجب الولوغ فيها بأي ثمن” و “درسا قاسيا” يتعلم منه الآخرون، وبالتالي المراهنة على سياسة لي الأعناق بين الفرقاء لإغراق سفينة ربيع تونس بمن فيها ويخسر الجميع، ويندم الجميع من حيث لا ينفع ندم. فوازنت- هذه الجبهة- المتمثلة خاصة في بعض العقول التونسية الراجحة، ولم يجدوا مخرجا يحفظ ماء الوجه للجميع إلا عبر سياسة توافقية “لا تجوع الذئب ولا تبكي الراعي” واضعين المصلحة الوطنية فوق كل إعتبار حزبي ضيق، واستدعى الامر إستثمار نقاط القوة في تجربتهم الفتية الرائدة للخروج من الأزمة الخانقة بانتصار تاريخي، متمثلا في جيش جمهوري يرفض الإنقلاب على اختيار الشعب وحركة إسلامية ذات أغلبية راهنت من البداية على الواقعية والتعايش مع معارضة علمانية وطنية، أو قل معارضة فيها حكماء يرفضون الإبحار نحو المجهول، فيخسر الجميع..
الجبهة الثالثة:
جبهة المتفرجين المنتظرين المراقبين لمآلات الأحداث ليختاروا موقعهم بحسب التطورات والظروف، وهم كثر، يمكن وصفهم بـ”الغاشي” على حد تعبير المقولة الجزائرية ” لا يحك ولا يفك ولا يصك” يدور حيث تدور رياح القوة والمصلحة أو أطماع الدنيا.
– انه لم يعد هناك مجال للحديث عن تعارض بين الاسلام والديمقراطية، وأن الاسلاميين ليسوا كما يروج خصومهم، أعداء الحرية، أو اصحاب مشروع لتغيير النمط المجتمعي لشعب مسلم أبا عن جد.
– ان مسار الثورة المباركة ليس مسار التفرد أو القهر أو فرض الرأي الواحد بل هو مسار الوفاق والتوافق والتعايش السلمي مع باقي قوى المجتمع علمانية كانت أم غيرها.
– ان مدنية الدولة لم تعد حكرا على المقاربة العلمانية “الطفيلية”، التي اقترنت في عالمنا العربي بأبشع انواع الدكتاتورية، وليست ثمرة مقولات جاهزة أو شعارات سياسوية، بل هي في جوهرها تكريس لمفهوم الحرية، التي لا تتحقق الا في إطار الوفاق.
– ان الزعامة الحقيقية هي محصلة وضوح الرؤية الاستراتيجية والشجاعة في القيادة وسط العواصف والأعاصير واتخاذ القرار المؤلم أحيانا عند المحن، والتضحية حتى تغنم المجموعة.
كل هذه تساؤلات مشروعة والقلق بشأنها أمر طبيعي والخوف من أجلها مبرر على تجربة فتية لدول فتية كتركيا، لكنه مؤشر إيجابي، بحول الله. أما الضمانات، فهي ليست صياغة الدستور أو ما تضمنه من حقوق، فالنصوص الجميلة وحدها لا تكفي لبناء دولة ولا لتحقيق مجتمع مدني فكم نصوصا بديعة مغرية لم تكن إلا دخانا للتعمية على مظالم وانتهاكات ومآسٍ الشعوب.. الانتصارات في الانتخابات تؤسس بداية في الأذهان وفي النفوس قبل القوانين والنصوص، والتحولات تحصل أولا في الذوات ثم تسري في المؤسسات والكيانات، وبالتالي فالضامن الأول بعد عناية الله ورعايته، هو الشعب التركي بكل أطيافه، ولنا في تجربة ثورتنا التحريرية في الجزائر أكبر شاهد و أقوى دليل على أصالة الشعوب ونبل معدنها.
درس خيار التنازلات والتوفيقات الصعبة في عالمنا العربي:
اما الدرس الآخر المستخلص من انتصار “خيار التنازلات” أو التوفيقات الصعبة والقاسية، الذي لم تهتدي إليه التجربة المصرية مع كل أسف، هو تطوير طبيعة العقل العربي والثقافة السياسية السائدة التي لا تقبل الاعتراف بالخطأ أو تقديم التنازلات في اتجاه اعتبار المصلحة في تماسك المجتمع ووحدته خيار استراتيجي غير قابل للتفريط أو التنازل عنه، اضافة الى ان هذا المناخ الاجتماعي والسياسي المستقر والآمن يفتح امام الحركة الاسلامية والمشروع الاسلامي عموما امكانيات واسعة لتحويل مفاهيم الاسلام وقيمه كثقافة مهيمنة في الواقع وكعوامل لتجذير الوعي الفردي والجماعي في المجتمع لبناء عناصر القوة لدولة واعدة تفتح أحضانها لكل مواطنيها على اختلاف مشاربهم، يبنيها الجميع ويأكل من خيراتها الجميع ويدافع عن حرماتها الجميع، عملا بقول شاعرها الكبير:
فلا عاش في تونس من خانها .. ولا عاش من ليس من جندها
وما على شعب تونس او غيره إلا أن يرعى هذه المكاسب بيقظة وحذر قصد الاقلاع بخطى مستبصره نحو الأفضل لشعبنا المسلم المسالم، وإن غدا لناظره قريب، والله أعلى وأعلم.
التجربة التركية الاسلامية العلمانية على المحك:
بالنسبة للتجربة الاسلامية العلمانية التركية، نظرة غربية لما ذهبت اليه الصحافة نفسها بشكل عام لتقديم أردوغان على أنه ديكتاتور. ولم يتردد خصومه، بمن فيهم كمال كليجدار أوغلو، في ترديد هذا الخطاب، قائلين إن الوقت قد حان للعودة إلى الديمقراطية. حتى دون أن تدرك الطبيعة المتناقضة لهذا الموقف، جميل مواقف نزهاء ممن عنون مقاله:
لا يمكنك الإطاحة بديكتاتورية عن طريق التصويت؟
“لا شيء يكشف الصحة الديمقراطية لبلد ما أكثر من تعبئة مواطنيه”.
متابعة بعد الإعلان:
علاوة على ذلك كتب زميلي المفكر الاسلامي هاني رمضان في يومية 24 ساعة السويسرية، مبينا “إن النتائج تجعل من الصعب اكتشاف الاحتيال في انتخابات التركية الاخيرة. نادرًا ما تمت مراقبة العملية الانتخابية عن كثب لضمان احترام الإرادة الشعبية. ففي الجولة الأولى، أعطت النتيجة فوز أردوغان بنسبة 49.5٪ من الأصوات، مقابل 44.89٪ لكيليتشدار أوغلو. وهذا يدل على أنه إذا كانت هناك رغبة في الغش، لكان رئيس الدولة حريصًا على الانتصار في الجولة الأولى. ما الذي يمكن أن يكون أسهل عندما تكون قريبًا جدًا من الهدف ويفترض أنك تمتلك كل الصلاحيات! وحصل أردوغان على 52.1٪ من الأصوات في الجولة الثانية، ما يؤكد رغبة في الاعتماد على اختيار الشعب.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا شيء يكشف الصحة الديمقراطية لبلد ما بقدر ما يكشف عن تعبئة مواطنيه. في فرنسا، على سبيل المثال، نلاحظ أنه في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لعام 2022، ذهب 73.7٪ من الفرنسيين إلى صناديق الاقتراع. لاحظ أن نسبة الامتناع عن التصويت بلغت 46٪ بين 25-34 سنة. في تركيا، كان الإقبال الهائل للناخبين مثيرًا للإعجاب حيث اقترب من 90٪ في الجولة الأولى، وتجاوز 85٪ في الجولة الثانية.
أحبط الاعتراضات التي يمكن تقديمها:
الديمقراطية لا تقتصر على حق الاقتراع، لكنها تغطي عددًا من المبادئ التي تلزمنا بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، أيضاً. ولكن بعد ذلك، يجب أن يكون واضحًا: يجب أن يقال إن الاتجاه السائد، في الغرب، يريد أن تصبح الإرادة الشعبية ذات مصداقية فقط إذا كانت تتماشى مع حساسية ما يسمى بالمجتمعات الحديثة، التي استبعدت بشكل منهجي الإشارة العامة إلى الفضاء إلى الأعراف المتعالية والقيم التقليدية.
ولا بد من القول أيضًا إن هذا المنطق يرقى إلى غض الطرف عن الانقلاب العسكري في مصر، وأن أكثر من 60 ألف معارض، بما في ذلك العديد من المسؤولين المنتخبين، مسجونون، دون أي رد فعل ملموس من رؤساء الحكومات الأوروبية والغربية. غض الطرف عن اعتقال الديكتاتور التونسي الحالي تعسفيا لرئيس مجلس الشعب المنتخب راشد الغنوشي في السجن وتوليه جميع السلطات. كما يجب أن نضيف أن بعض الديكتاتوريات العربية مقبولة تمامًا من حيث أنها تضمن أرباحًا كبيرة في المبادلات التجارية تكفي لإعفاء الباقي، على حد تعبير المفكر الاسلامي المصري السويسري..
رغم ذلك قد يقول قائل، هذا تنظير فكري.. فمن يضمن إستمرار الأمن والاستقرار لشعوبنا المسالمة؟ ومن يحمي ثمار ثورته وفوزه بها من الإغتصاب كما راود ذلك بعض الحالمين من صقور الحكومات البائدة. ومن يضمن نزاهة الحكومة التركية المقبلة؟ وهل تلتزم بما وعدت به خلال حملاتها الانتخابية، وهي الفترة المحددة لها؟ وهل يضمن الجيش والأمن انتخابات حرة ونزيهة؟ وما هي الضمانات التي يمتلكها الشعب حتى يستطيع تصويب الأوضاع إذا ما رأى فيها إنحرافا أو زيغا..؟

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version