رمضان بين أيام الثورة وأيام الثروة
محمد مصطفى حابس : جينيف / سويسرا
إن لمدرسة الصيام في رمضان خصوصا، دروسا ومحطات منيرة مشرقة، حري أن نتعرف على بعض جوانبها عبر العصور، مسترشدين بقوافل الأجيال التي تربت عليها وكذا فيالق المؤمنين العاملين والمجاهدين المصلحين أيامها، ليس في عهد الرسالة الخاتمة فحسب، بل قبل ذلك بقرون وقرون، الم يقل الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله :”يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”، و حتى في العصور المتأخرة إبان الثورة الجزائرية المباركة، ففي الوقت الذي كان شيخنا العلامة محمود بوزوزو (1918م- 2007 م)، يصارع فرنسا في خمسينات القرن الماضي، ليجعل موضع قدم في دنيا الإعلام العربي والاسلامي لجريدته الجزائرية المقاومة للاستعمار البغيض، جريدة “المنار”، الجريدة التي ولدت من رحم المعاناة، إذ كان يوم ميلاد عددها الأول بتاريخ يوم 29 مارس 1951، ويسر الله الصدور فعمرت ثلاث سنوات وكان آخر أعدادها الـ 51 بتاريخ جانفي 1954، وفي بلد مستعمَر كالجزائر يعد هذا العمر سبق- لأن جرائد جمعية العلماء قبلها وجرائد وطنية أخرى لم تعمر كثيرا- يوم أعتقل الشيخ واستنطق بعض إخوانه، الأمر الذي أجبر طاقمها الإداري والتحريري للصعود للجبال أو الهجرة وراء الحدود، فيسر الله لهم، كل حسب موقعه، في كتابة تاريخ الجزائر بطريقته الخاصة، وباللغة والأداة التي ترغم المستعمر على الانصياع وحزم حقائبه رغم أنفه، بعد سنوات من الثورة المباركة، بل وبعد قرن و 32 سنة من الجهاد والاستشهاد.
في تلك الفترة كان الشيخ بوزوزو وأصحابه، يستفيدون ويفيدون بكل ما يصلهم من جرائد ومنشورات من المشرق والمغرب الاقصى، ومن بين هذه المجلات والجرائد التي تصلهم عن طريق أبناء الشعب وبناته، من مهاجرين ومسافرين والفارين من لهيب نيران المستعمر والعائدين من مجاهدي الحدود، وصلته أعداد من جرائد و مجلات تونسية ومغربية ومصرية،، وها هو يستوقفنا أمام بعض أعدادها حول الصيام ومطالب رمضان أيام الثورة، ليقرأ لنا قطوفا من مجلة الدعوة 1371هـ الموافق 1952م، بمناسبة قدوم شهر رمضان بقلم الإمام حسن الهضيبي (1891 م – 1973 م)، رحمه الله .
إنَّ التشَبّه بالكرامِ فَلاحُ !!
وبعد عقود من ذلك الزمان المبارك، حري بنا من باب قوله تعالى “فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين” ، وحكمة الشاعر النبيل السهروردي المقتول من شعراء العصر العباسي (132هـ – 656م )، القائل:” فتشبّهوا إن لم تكُونوا مثلَهم إنَّ التشَبّه بالكرامِ فَلاحُ!”، – حري بنا – أن نتوّقف رغم المحن و الصعاب، أمام فرحة المؤمنين الصادقين بإقبال الناس على موائد رمضان إقبالا و إدبار، ففينا من يرتع كالبهيمة ليلا نهارا في دنياه، غير مفرق بين ما له وما عليه، وفينا من يصوم النهار و يقوم الليل على أحسن ما يرام و شتان بين الحالتين، شتان بين هذا وذاك.. لذا نجد الصالحين والمصلحين – أيام زمان- يترقبون قدومه من بعيد بأشهر، قصد الاستعداد والتدرب في شهري رجب وشعبان بما تيسر من سنن ونوافل، وما إن يحل رمضان حتى يكون الجسم في أتم الاستعداد لتحمل مشاق الصيام وروحانية القيام، في البيوت والمساجد و المداشر والجبال…
وحتى في الآونة الأخيرة في عصرنا الحالي، عصر الحريات، لما حل وباء كورونا ومنعنا من المساجد، وبلغت القلوب الحناجر شوقا لبيوت الله، ليأتي الفرج للإنسانية قاطبة ويأفل فيروس كورونا ويقبل علينا رمضان الكريم، شهر – الخيرات والزاد والبركات والانتصارات – على حد تعبير العلامة الشيخ محمود بوزوزو (الجزائري). هذا الشهر المبارك الذي وصفه أيضا من جهته، شقيقه الإمام الهضيبي ( المصري)” بشهر العبادة والإنابة، حيث استروحت نفوس المؤمنين نسائمه الطيبة، فاستعدت للقاء بالنية الصالحة والنشاط أجم، وتهيَّأت لصيام نهاره وقيام ليله بما ألفت في عبادتها من إيمان واحتساب وحق على المسلمين و المسلمات أن يتنافسوا في مرضاة الله، وأن ينتهزوا هذه الفرصة المتاحة لتزكية قلوبهم، ومغفرة ذنوبهم، بعد رحيل غمام كورونا من سماء المعمورة “..
فقد روى الطبراني عن عبادة بن الصامت أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “أتاكم رمضان، شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، وينظر فيه إلى تنافسكم في الخير، ويباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل.”
يخطئ مَن يحسب الصيام تعذيبًا للبدن بالجوع والسهر
ويواصل الإمام في رسالته موضحا ذلك لإخوانه بقوله :” يخطئ مَن يحسبها تعذيبًا للبدن بالجوع والسهر وإرهاقًا للعباد بالحرمان والتضييق.. فالحقيقة أنها تدعيم لروح الإنسان وتخليص لها من ضغط الحاجات الدائمة والشهوات المتطلعة، وتغليب لإرادة الخير وتدريب على السمو والفضيلة والاستعفاف، وتذكير المرء بأصله السماوي الرفيع، وسياج يحصنه من وساوس الهوى ومكايد الشيطان.”
ولذلك ختمت آيات الصيام بتوكيد المنح المطوية في هذه الطاعة الكريمة: ﴿ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ (البقرة: من الآية 185).
إن الله عن تعذيب عباده لغني وما شرع الصوم تعذيبًا لأحد، بل شرعه دواء لما يعرض للناس من علل نفسيه، وهو إكبار للنفس الإنسانية بتدريبها على الانتصار على الحاجات والأهواء، فهو نعمة تتطلب الشكران.
لا لشيء إلا لأن الشيخ بوزوزو مع بقية مجاهدينا أثناء الثورة، يعلمون علم اليقين، مما درسه لهم مشايخهم، أمثال الإمام عبد الحميد بن باديس والشيخ الابراهيمي والشيخ العربي التبسي وغيرهم، أن سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ” كان يصوم كلما همَّ بغزوةٍ أو عملٍ ذي بال يحتاج إلى الصبر والاحتمال”.
لذلك تجد الامام يسترسل في الشرح والتوضيح والشحن، بقوله: ” ولما كان العبد – وهو فارغ من شهوات بدنه مشغول بعبادة ربه – يعدُّ في أزكى أجوائه وأرجاها بالقبول فإن الدعاء يُستحب منه وتعرضه لنفحات الله مرجو العاقبة، وفي الحديث “للصائم دعوة ما ترد”، “ثلاثة لا ترد دعوتهم؛ الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، والمظلوم..” ولعل الروحانية المشرقة الخالصة التي يصل الصائم إليها في إبان عبادته هي التي تجعل دعاءه بهذه المكانة الكريمة.
توصيات التدبر والإمعان في القرآن في شهر القرآن:
ثم يوصي الإمام بالتأدب مع القران في شهر القرآن، بقوله لإخوانه: ” ولعل ذلك أيضًا سر إدخال آية الدعاء وسط أحكام الصيام الواردة في سورة البقرة، فبين تفاصيل التعلق بفروع هذه الفريضة في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)﴾ (البقرة).
موجها محفزا بقوله: “وإذا قرأتم القرآن فأقرأوه بتدبر وإمعان، وإذا استمعتم إليه فاستمعوا لكي تفهموا ثم تعملوا به؛ فإن بركة القرآن في العمل به والسير على ما أمر الله من أحكامه، ولا خيرَ لأحدكم في أن يقرأ دون أن يتدبر أو يسمع دون أن يتفهم.” مذكرا، بقوله أيها الإخوة (والاخوات) في هذه الأيام التي يودع المسلمون فيها أحداثًا ويستقبلون أخرى، ويواجهون في مشارق الأرض ومغاربها فتنًا متلاحقةً من تألُّب الخصوم ومكر السياسات (يقصد الاستعمارية في خمسينات القرن الماضي).. نضرع إلى ربِّ العالمين أن ينجينا من العثار، وأن يحشرنا مع الأبرار.. ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ (آل عمران: من الآية 147 )، والله أكبر ولله الحمد ..
من جهته، كتب العلامة الشيخ بوزوزو قائلا لأصحابه: “مع إهلال شهر رمضان لا أجد تهنئة أجمل وأغلى وأحلى ولا أعز من تهنئة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أهنئكم بها وأهديكم إياها ” أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ “أَللَّھُمَّ أَهِلْهُ عَلَيْنَا بِالْأمْنِ وَالإِيْمَانِ وَالسَّلامَةِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعَوْنِ عَلَى الْصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآَنِ” ، مُبارٓكٌ علٓيْكُمْ شّٓهرُ رٓمٓضٓان، وكل عام وأنتم بخير..”

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version