محمد مصطفى حابس: جينيف / سويسرا
مع غروب آخر أيام شعبان الكريم 1444، الأمة الإسلامية المشتتة الأشلاء والممزقة بين قوى الغرب والغدر، تستعد أن تستقبل رمضان بتحديات جسام مادية وسلوكية وروحية، رغم ذلك ستبقى جذوة نور الإيمان في صدور كل واحد منا، ولسان حاله يردد، على حد تعبير الشاعر المرحوم أبو القاسم الشابي :
سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعداءِ*** كالنَّسْر فوقَ القِمَّةِ الشَّمَّاءِ
أرْنُو إلى الشَّمْسِ المُضِيئةِ هازِئاً *** بالسُّحْبِ والأَمطارِ والأَنواءِ
و هو ذك موقف المؤمنين في هذه الأزمنة المتقلبة عبر الأجيال، ويأتيها رمضان لتغتنم نفحاته، ” فتعالوا أيها الأحبة نؤمن ساعة.. أفرادًا أو جماعة .. فكل العز في الطاعة .. تعالوا نصوم .. نصلي ونقوم .. والرضا جنة المحروم !!” بهذه الكلمات العذبة في اللسان و المريحة للأبدان ومهدئة للوجدان، بدأ العلامة الأستاذ عمر التلمساني (1904- 1986)، رحمه الله، في مثل هذه الأيام من ثمانينات القرن الماضي، يعلم أصحابه كيف يجب أن يرحب بمقدم شهر رمضان، الذي أنزل فيه القرآن، مناديا مناجيا المسلمين كافة في تسجيل صوتي، أن تعالوا يا أمة محمد إلى خلوة القرآن في شهر القرآن.
هيا إلى خلوة القرآن
ركضًا بنا إلى ساحة الرضوان .. تبتلاً في حضرة الرحمن، مناديا فينا ” تعالوا نأوي مع الصوم، إلى كهف من الطهر، ينشر لنا ربنا فيه من رحمته ويهيئ لنا من أمرنا مرفقا”، مبينا بقوله: ” كتب الصيام علينا في رمضان، كما كتب على الذين من قبلنا، لا لأن بالله حاجة أن نرى القوت أمامنا ونحن في حاجة إليه، فتعف إيمانًا وطاعة، ونرنو إلى الماء نطفئ به حرقة الظمأ، فلا نقربه رضًا واحتسابًا..”
شارحا ما جاء في الذكر الحكيم “أيامًا معدودات” في عالم الحساب، ولكن لا عداد لها في عالم الأجر والثواب نكمل عدته، ونكبر الله على ما هدانا إليه، ونسكن فيه إلى دنيا الرشاد، نسأل الله فيه .. فهو فيه أقرب من قريب، وندعو لياليه .. فهو فيها باسط الكف ومستجيب، نرقب مطلع الفجر الأبيض، شرقًا من الليل الأسود، لنمسك ما يشغل بال الناس من متع الحياة، إنها حدود الله .. لن نتعداها نزولاً عند أمر رب العالمين.”
مرحبًا .. بشهر الله
واصفا لنا الشهر الفضيل في ديكور مميز لطبيعة المشهد بقوله :” في بيداء الحياة يشتد الحنين إلى المنهل العذب، والورد الصافي النمير تهفو إليه الروح المشتاقة إلى معاودته عاما بعد عام .. على طول فترة العمر، وتشد الحياة بأوضاعها القاسية، خاصة في فترة الأزمات، تشد الناس إليها، وتحجب الرؤية الواضحة، أطباق الغبار وتراكمات الضباب، ويتلهف الساري طوال العام في دروب السنين، إلى واحة الطهر والصفاء، حيث يلقي عصا التيار عند مشارف شهر الخلوة والصوم والقرآن ..”
شارحا منبها متسائلا !! بقوله:” إن متطلبات ماديات الجسد في رمضان، هي نفسها في غير رمضان وغمار الخلق بفجرهم وتجبرهم في رمضان، همو همو في غير رمضان، فما بال قلب الصائم المخلص صومه من كل الشوائب والكدورات، يرف بين جنبيه فرحًا بالوقوف على باب من جعل الصوم له، وهو الذي يجزي به، ما باله يجد حاله في رمضان، غير حاله في شهور العام؟
ألأنه تخفف من الماديات .. إفطار فغداء فعشاء، وما بينها من مرفهات؟؟
لا أظن .. ” فمن لم يدع قول الزور، فليس بالله حاجة أن يدع طعامه وشرابه” (الحديث)، الأمر أسمى من ذلك وأعل وأجل !! حقًا أن الصوم فريضة، والفريضة تكليف، والتكليف عبء لا يهون في الاحتمال، وحسب الصائم رسوخ قدم في دنيا التقى، أن يقاوم نفسه، إذا ما ألح عليه عامل الجوع والظمأ .. امتثالاً للأمر، وهل بعد الامتثال لأمر الله من مقام للمسلم الطاهر الأمين
وإذا لم يكن الصبر على مالا تألفه النفس .. فما الفرق بين الطائع والعاصي؟!
إن الصائم يجب أن يشعر أنه جائع، ولكنه لا يستجيب لنداء بطنه طاعة لله، وأن ظمئ فهو يتحمل العطش ولا يروي ظمأه .. طاعة لله، وهذا هو طعم الصيام الحقيقي !!
فرحتان للصائم
مستدركا بقوله ” ليس هذا فحسب، فأين نحن من قول خير من صام وصلى عليه الصلاة والسلام “للصائم ” فرحتان: فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربه
هذه الفرحة، إما أن تكون فرحة مادية فقد أمسى في متناول الصائم شرعًا، أن يباشر مأكلاً منع منه حينًا، وشربًا حيل بينه وبينه فترة، وإما أن تكون الفرحة روحية، ينعم فيها الصائم رضاء أن أطاع الله
فلينتبه الصائم ولا يهنئ نفسه بأنه لم يشعر بشيء من جوع أو عطش، وإلا فإنه خارج على مألوف البشر، من ناحية التكوين العضوي الذي يتطلب الطعام والشراب.
عملا بالآية الكريمة التي فرض بها الصيام ﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾- (البقرة :183) –

الصوم جلاء لصدأ النفوس
ذاهبا بعيدا بقوله:”الصوم فوق هذا كله، هو الجلاء الكامل لصدأ النفوس، كي تهيأ للمثول في حضرة الديان ظهرًا ظاهرًا مظهرًا وظهورًا..”
لا لشيء إلا لأن الله اصطفى الإنسان من بين سائر المخلوقات ليكون موضع التكليف، مرشدا المسلم بقوله:” فأنت خليفة الله في أرضه ليأهلك بهذه الخلافة إلى توريثك جنة الخلد.. ترى أي شعور عامر بالإسعاد .. ذلك الذي يسري بصدر الصائم، وهو يبدأ يقظته محسًا بأنه مطيع لصاحب الفضل عليه، قريب منه، حبيب لديه مرضي عنه، مهيأ للخير في دنياه، موصول المثوبة الضخمة الواسعة في أخراه؟ “..” أي إحساس يجده الصائم، في جنبات قلبه، وقد ارتفع على المادة في كل أوصافها وآثارها، وسما إلى سماء الملائكة المقربين .. إفطاره دعاء، غذاؤه تسبيح، وعشاؤه قيام وترتيل”، أين هو الصائم من الخلق في المستوى الإنساني، إذا صام كما يجب أن يصوم المسلم .. سمح إذا أخذ، جواد إذا أعطى، حليم إذا غضب، بصير إذا استشير، ذكور إذا نسى، وديع إذا تعامل، طيب الأثر إذا خالط الناس وصبر على أذاهم، جلد إذا حمل الأمانة، وفي إذا عاهد، أمين إذا استودع، مخلص إذا عمل، دؤوب في أداء الواجب، طلق المحيا بسام الثنايا، لا تنعقد جبهته، ولا تتجهم طلعته، يظنه الرائي للحيوية التي يمتاز بها، وكأنه من غير الصائمين، فهو النقي الخفي ما بحاله من إعلان.

أجمل ما في الصيام، يكون الأجر على قدر المشقة
هذا هو أجمل ما في الصيام .. النزول عند الأمر، ولو شق احتماله، وهل يكون الأجر على قدر المشقة؟
فشتان بين نفس جامحة، تتصارع فيها الشهوات، ووسوسة خفية من النزوات، تتصارع كلها مع إرادة صلبة كالطود، ونفس صامدة كالصرح العتيد !!
إن أمام الصائم صدق موعود الله .. إن صبر على الجوع هنا، فهناك فاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون، إذا صمد للظمأ هنا، فهناك ولدان مخلدون، يطوفون بأكواب وأباريق وكأس من معين، ولا نفاذ لخيرات الله، وكيف ينفد عطاء من بيده خزائن السماوات والأرض؟؟

بشراك أيها الصائم.. بشراك أيتها الصائمة !!
بشراك أيها الصائم، المخلص صدق لربه .. بشراك .. سعيك مرضي عنه ووجهك ناضر بديع، في العلا المخضل من الجنان.. على النمارق المصفوفات، والزرابي المبثوثات .. حيث لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر !!
ثم يتوجه العلامة التلمساني ناصحا لنا بقوله “أخي الصائم .. انتبه .. واحذر، أنت مطالب بالطاعة فيما يشق عليك، وإلا فما السر وما الحكمة؟ ولماذا فرض الصيام؟ إذا استوى حلالك .. صائمًا أو غير صائم !! عش في الفريضة بكل أعبائها .. بكل أسرارها .. بكل حكمتها بكل مقوماتها، ولا يخدعنك الشيطان أنك لا تشعر مع الصيام بجهد، وأن ليس للصوم عندك من أثر، ولا أدائك إياه مشقة”.
وفي الختام دعاء على ظهر الغيب ، فلنرفع أكف الضراعة مناجين رب العالمين، قائلين: ” اللهم إنك تعلم – في إيامك المباركات هذه – إنا لك لصائمون لا نشعر بالخوف إلا منك، ولا بالذل إلا لك، ولا بالفقر إلا إليك، فاجعل خوفنا منك، أمنا لنا من كل من عداك، واجعل ذلنا لك، ذروة العز لنا في هذا الوجود وأجعل حاجتنا إليك، هي الزاد الوافر والغنى الكامل، عن كل ما سواك، وأصلح يومنا وأنر ليلنا، وتقبل قيامنا وأحفظ صيامنا ” ﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ . (183

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version