بالنظر إلى حركة شعوب منطقتي الشرق الأوسط والشمال الأفريقي من يومنا هذا امتدادًا إلى قرابة مئة سنة قد خلت، نجد حدثين جليلين اثنين. أحدهما لا نزال نعيش حيثياته اليوم والآخر وقع في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وإن اختلفت مُسبّبات الأمور ودقائقها في كلا الحدثين، لكن كلاهما يندرج تحت عنوان واحد، الشعوب تريد حريتها. في الخمسينيات و الستينيات السالفة تحررت بعض الشعوب من الاحتلال الغربي وأسقط بعضها الآخر جلّ الممالك التي كانت تُسيَّر تحت وصاية غربية كذلك. فرحت الشعوب كثيرًا حينها لهذا الانجاز وأصبح قادة هذه الثورات التحرُّرية أبطالًا تاريخيين. ولكن هذه الرمزية للنصر ما لبثت وأن نُزع عنها غطاؤها اللامع البراق ليبرُز الصدأ الذي أذّن بحلول الخراب.

في مصر كان جمال عبد الناصر البطل القومي الذي انتفض ضد الملكيّة، وأسّس للجمهورية، وسعى إلى إحياء العروبة، وبعث روح القومية، فذكّر الناس حينها بأمجاد الناصر صلاح الدين ورَأوا فيه خليفته المُنتظَر الذي أصبح بعد ذلك ناصر الريّس. هذه البطولات والمنجزات تدعونا أن نُحسن الظن ابتداءً في دوافع خليفة الناصر من أجل تحرير شعبه.. ولكن الأعمال بالخواتيم(!) فالشاب الطموح في لحظة فارقة بينه وبين نفسه، والتي أصبحت بعد ذلك لحظة فارقة في تاريخ شعبه ومصيره، انتصر لأمجاده الشخصية أكثر من مطالب شعبه التحررية. أوّلًا لأنه كان مغمورًا في شعبه فأتى بمن كان لديه القبول أكثر في أوساط الشعب ليجعل منه رئيسًا، وبعد ذلك انقلب عليه ليصبح هو الريّس. صحيح أنّه ورفاقه خلّصوا الشعب من ظلم الملكية وتحدّى الغرب مما أضفى عليه بدل المجد أمجادًا، لكنه أسّس بعد ذلك لظلم الدكتاتورية، فلم يُعط شعبه الحرية الكاملة وفعل الأفاعيل في كلّ من عارضه ولم يتبعه.

ناصر الريّس في قصة انقلابه على محمد نجيب والمسار الذي سلكه بعد ذلك مع شعبه، كان في الحقيقة مُعلِّما جيّدًا لتلميذٍ نجيبٍ أتى مصرَ من الشمال الأفريقي. هذا التلميذ تابعَ بكل انتباه درس معلّمه وحاول تطبيقه بحذافيره على أرض وطنه الجزائر. ولكن التلميذ افتقر إلى الوفاء يبادلُ به معلّمه فلم يقم يوفه التبجيلا، ولم يقم بالثورة حقيقة مثلما قام بها معلّمه، فالثورة أتته حاضرة وقام فقط بالاستيلاء عليها ومواصلة تطبيق الدرس.

محمد بوخروبة، الذي كان حينها طالبًا في الأزهر، اختاره بن بلّة ليكون من الشباب الذين يُجنَّدون للثورة التحريرية في الخارج، من دون أن يحارب فيها لاحقًا في الداخل واكتفى فقط بالمكوث على الحدود بينهما. أوّل ما قام به هو تغيير اسمه إلى هواري بومدين، ربّما لأنه رأى أنَّ لاسمه الحقيقي النذير لشعبه بالخراب الذي سيحلّ عليه نتيجة نصره الزائف المستوحى من نصر معلّمه ناصر. ولأنه لم يكن معروفًا إبّان الثورة من طرف الشعب، أوحى لبن بلة أن يُصبح رئيسًا ودعَمَه بالقوة التي كانت تحت إمرته، ثم انقلب عليه بحجّة التصحيح الثوري ليُثَـبِّت جيّدًا جذور الدكتاتورية التي بدأ في زرع بذورها غداة الاستقلال. بن بلة، الصديق المقرّب من ناصر، وهو الثوري الكبير في الجزائر استسلم في لحظة ضعف منه كذلك أمام نفسه التي رأت في نفسها الأحقية والأهلية للحكم، ولكنها نست أنّ الشرعية الشعبية أَأْمنُ للحاكم قَبل الشعب. فكان بن بلّة أوّل من دفع ثمن لحظة الضعف هذه قبل شعبه، واعترف لاحقًا بخطئه هذا اعتراف الرئيس الدّبلماسي المُبهم وليس اعتراف الشخص المخطئ الصريح. أدار بوخروبة ظهره لولي نعمته بن بلّة ومعلّمه ناصر، ولكنه لم ينس مواصلة السير وفق تعاليم المعلم؛ وأضاف عليها بأن نكّل بكلّ من لمس فيهم الوطنية الحقة، بالأخص أولئك الذين ناضلوا في الثورة حقًا، غير الذين لم يحملوا منها سوى الاسم كما في حالته هو، فأقصى الشّرفاء بالمطاردة والنفي والسجن والتعذيب وحتى الإعدام والاغتيال، وأكثر من ذلك قام باجتلاب من كانوا في جيش العدو يومًا يحاربون الثوار الأحرار حماية لنفسه من نفوسهم الطاهرة الزكية وتأسيسًا للعنة ستحلّ على الشعب بعدها! وربّما لم يُدرك يومها حجم هذا الخطر والكارثة التي ستنجرّ عنه.

اليوم، كلا الشعبين المصري والجزائري يعاني ويلات وتبعات سياسات ناصر وبوخروبة، الذين كوّنا معًا ثنائية النصر والخراب. وإن كان المعلّم يرى في نفسه دائمًا الأصل الذي يبقى الأفضل، فتلميذه سعى جاهدًا بدوره للتفوّق على معلّمه وخلافته؛ لكنهما معًا برهنا أنَّ الدكتاتورية إن انتصرت على إرادة الشعوب فذلك إيذان بالخراب الحتمي. ولهذه الثنائية أن تصبح ثلاثية إذا أضفنا لها الصدمة التي نجمت عن دكتاتورية صدام حسين وما تبعها من احتلال العراق. والثلاثية كذلك لها أن تصبح رباعية وخماسية وسداسية… وهلمّ جرًا إذا واصلنا الجولة الحزينة في ربوع الأوطان الجريحة! وبالرغم من كلّ ما لاقته هذه الشعوب، لكنها دائمًا في محاولة لاسترجاع حرياتها المسلوبة. لتكون لها جولة ثانية في آخر ثلاثة عقود، تحارب فيها مخلّفات الدكتاتوريات الناجمة عن الممالك ومهالك الاحتلال التي ما صدقت التخلّص منها.

لكن الملفت للانتباه، ونحن في زمن الانحطاط هذا، نلاحظ أنّ مستوى الدكتاتورية لم يسلم هو أيضًا من داء العصر وأخذ في الانحطاط والتدني شيئًا فشيئًا. لأنّ رُعاة النصر الزائف والصدمة والخراب سابقًا، على الأقلّ وهم في أوج مجدهم الكاذبِ وقمّة جبروتهم استطاعوا أن يداروا عن أخطائهم الجمّة وظلمهم الشديد وقهرهم الكبير لكلّ من كشف حقيقتهم حينها واعترض عليها. إذ كان لهم من الكاريزما والبلاغة والخطابة ما سحروا به ألباب الشعوب وشخصوا أبصارها فتبقى وكأنّ على رؤوسها الطير إذا هم تحدّثوا وأنسوها المسلوب من حريتها والمقموع المُضطهد من أبنائها. أما في أيّامنا هذه، فما بالنا نرى أن الورثة قد فقدوا هذه الخصائص!!!؟ رُبما هو النزاع حول الميراث الذي يُبدّد التركات، الّذي لم يُبق لهم من أسلافهم سوى مخازن السلاح وذخائرها والسّجون وأقفالها والبدلات ورُتبها، يتصارعون عليها ويتجاذبون أطرافها، ويُدلون بما وقع تحت أيديهم من صلاحية إلى الحُكام. كلّ هذا للمحافظة على الكثير من المصالح الشخصية وبعضٍ من الهيبة والإخافة وإبداء العنفوان الواهم، بدل الاعتراف بالعجز عن المواصلة، وبأنّ الشرعية لها أن تحميهم من غير أدنى بذلٍ لكل مظاهر القوة تلك، ولها أن تضمن لهم الكرامة التي هي أغلى من كل مكسب. فأضحت أحوال هؤلاء الخلف باهتة جوفاء على عكس بريق أمجاد السلف الزائفة يومًا. والحقيقة أن هذا التشبث الذي يشبه الغريق وكلّ قشة له أن يمسك بها عساها تنقذه، ما هو إلا بادرة أمل على قرب النهاية.. لأنّ نهاية الانحطاط هي الزوال!

فادية ربيع
11 سبتمر 2022

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version