من المواضيع التي يُفضّل الواحد مِنّا عدم الخوض فيها هي السياسة وطبائع مُنتسبيها. ليس لِطبيعتها الأساسية والتي يمكن رؤيتها ببساطة، لا تبسيطًا لها، على أنها المجال الذي يتمّ من خلاله رعاية ومعالجة شؤون الشعوب استنادًا إلى الحكمة والمصلحة وفقًا للأعراف الإنسانية. إنّما سلوك منتسبيها هو الذي أساء إليها، لأنّـهم لكثرة تلوّنهم وتقلّباتهم المريبة جعلوا منها لا لون ولا طعم لها، ولكن بالطبع ليس كالماء الذي لا رائحة له كذلك وهو نبع الحياة الطاهر المُطهّر، فرائحتها أضحت كريهة عفنة نفّرت المتفرّجين على مسرحها قبل اللاعبين فوق منصتها، وهنالك من ترجلوا صهوتها بعد أن أعيتهم متاهاتها، على غرار بديع زمانه الذي هجرها وأصبحت بالنسبة له كالشيطان يتعوّذ منها.

لكن.. ما العمل ونحن نعيش أزمة هذا الوطن! إذ ليس من سبيل إلى حلّها غير سياسيين ذوي نوعية وليس كمية. ونحن بحديثنا هذا لا نتكلّم عن المُعارَضة المسانِدة الموالية التي أغلبها صُنع حسب المقاس والطلب، ولكنّ حديثنا عن المُعارَضة المعارِضة المكافحة التي عُلقت عليها آمال الشعب ورجاءاته. قد يقول قائل أليس من الأجدر الحديث عن أصل الأزمة حين اغتُصبت الشرعية ووقع الخلط في الوظيفة؟! نقول بلى.. على الأقل في حالة الجزائر، الكلّ يُجمع أنّ النظام فاسد مجرم، وأنّ الرداءة مذهبه ونقص الكفاءة عادته واحتقار الشعب منهجه وطمس حقوقه شِرعته وإرهابه ديدنه واتهام هذا الشعب بالإرهاب مُبرّره… لكن إذا لم تكن المعارضة على قدر التحدي أصبحت بما لا يدَع مجالّا للشك طرفًا في الأزمة بدل حلّها، لتزيد من حِدّة معاناة الشعب بدل تخفيفها. ولنا أن نتذكر أنّ المعارَضة المعارِضة هي التي قالت يومًا أنّ شعبها نائمٌ وعن المطالبة بحقوقه غافلٌ.. فما عسى السياسي فاعلٌ؟ وعندما استيقظ هذا الشعب من سباته وخرج إلى الشوارع في سلميةٍ بعدم شرعية النظام يُجاهر وبحقوقه يطالب؛ وهو الذي لم يكن في الحقيقة لا نائمًا ولا غافلًا.. إنما كان في مخدعه يراقب ولجراح ماضيه القريب والبعيد يُضمّد. حينها أصرّ هذا النظام على ظلمه وزاد من شدّته واستعر، فوجد الشعب نفسه وحيدًا في ثورته يُضطهد، وخيرة أبنائه في السجون وبين المحاكم في شطط، ولردّة فعل سياسييه ينتظر.. وما الانتظار هنا إلا لرؤية المعارضة والنخبة السياسية مُتناغمة على كلمة واحدة مُتوافقة، وليس مُتشاكسة في كل واد متفرقة.

نعم.. وحدة وتوافق هؤلاء السياسيين هو ما يرجوه هذا الشعب ويتطلّع إليه، وبالنسبة له الأمر يبقى دائمًا ممكنًا وليس مستحيلًا في ظلّ اختلاف الطروحات والأيديولوجيات، وذلك ما صرّح به مرارًا وتكرارًا في هتافات مسيراته ووقفاته. أمّا إن صعُب على نخبتنا رؤية أو تصوّر أو تجسيد هذا الأمر في الواقع، فهلمّ بنا نعود بها إلى الخلف بضعَ بضعِ سنين، ونستذكر معها قطبين اثنين من أعلام الجزائر. والقطب هنا ليس فقط لإظهار قيمتهما وقامتهما في ساحة النضال السياسي إبّان عهد الاحتلال، إنما أيضًا لاختلافهما الجوهري تكوينًا وفكرًا ورؤية وللمستقبل تصوّرًا واستشرافًا، ولكنهما استطاعا تجاوز كل تلك الفروقات وقلّصا المسافات وجلسا معًا وتناقشا وتشاورا، وبقي كلٌّ منها مُحترمًا لنقيضه السياسي مُكْبِرا له، ولا نقول غريمه.. لأنه من العيب استعمال هذا المصطلح عندما يكون الهدف انقاذ شعبٍ وتحريره.

أحد أبطالنا كان تكوينه فرنسيًا محضًا وثقافته كذلك واعتقاده، حتى أنه في وقت ما أنكر وجود أمة جزائرية واعتبر ألّا وطن إلّا فرنسا، ودعا إلى اندماج هذا الشعب مع فرنسا. لكن فطرته السليمة وقِيَمه الانسانية القويمة دعته إلى الوقوف إلى جانب شعبه والنضال السياسي السلمي عبر الأحزاب والتمثيل النيابي، ليقتنع بعد ذلك بضرورة النضال المسلّح وينضمّ إلى الصفوف المدنية لجبهة التحرير الوطنية، ليكون بعد ذلك أوّل رئيس للجمهورية المؤقتة. أمّا ثانيهما فهو زيتوني التكوين، اقتنع بأنّ الخوض في أيّ عمل نضالي من أجل الاستقلال يجب أن يكون مصحوبًا بإصلاح حال الشعب أوّلًا وتوعيته، واتخذ في سبيل ذلك العمل الجمعوي عن طريق التعليم والإرشاد الديني. وموقفه هذا منطلق من فهمه لطبيعة شعبه المتمسّك بهويته، واقتناعه بأنّ هذا الشعب لا يمكنه بتاتًا الاندماج مع فرنسا للاختلاف الجوهري معها. وتطلُّعه إلى الاستقلال كان بطريقة سلمية كذلك لاعُنفية، ولكن على الطريقة البريطانية ومستعمراتها؛ أمّا النضال المسلّح فقد كان بالنسبة له الكيّ آخر الدواء.

ولتفصيل الأمر أكثر، ورد أنه سنة 1936 قام فرحات عباس بنشر مقال عنوانه “فرنسا هي أنا”، وهو الذي كان من دعاة تيّار تجنيس واندماج الشعب الجزائري مع فرنسا. ليرُدّ عليه ابن باديس بمقال عنوانه “كلمة صريحة” اعترض من خلاله على هذا الرأي وانتقده وبيّن فيه أنّ هذا الأمر غير ممكن بالنسبة للشعب الجزائري. ليزور فرحات عباس بعد ذلك ابن باديس في مقر مجلته الشهاب، واجتمع معه وتبادلا الرأي. لينشر ابن باديس مقالًا بعد ذلك وثّق فيه هذا اللقاء، وورد في جزء منه: «إنّ كلمتنا الصريحة قد وضعت الكثير من الرجال على المحكّ، فمنهم من ظهرت نفسه من درّ مكنون، ومنهم من انطوت جوانبه على حمإ مسنون. وإننا لنشهد أنّ من أكمل الرجال الذين رأينا فيهم لهذه المناسبة، الهمة العالية، وشرف النفس، وطهارة الضمير، الأستاذ عباس فرحات الصيدلي والعضو البلدي والعمالي بسطيف. كان هذا الرجل الأبيّ من أهدافنا في مقالنا “كلمة صريحة” وهو الذي أخذناه على مقاله “فرنسا هي أنا” وقلنا له ولمن معه أنكم عندما تسعون لسياسة الاندماج، وتحبذون التجنيس، وترضون ضياع حقوقنا الإسلامية مقابل حقّ الانتخاب، وتريدون خلافًا للطبيعة أن يصير جمهور المسلمين بهذه البلاد فرنسيًا بحتًا، لا يختلف عن الجماهير الفرنسية في شيء، إنكم عندما تسعون وتحبذون هذا لا تمثّلوننا ولا تتكلّمون باسمنا. وإنكم في واد والأمة في واد آخر. فالسيد فرحات عباس لم يتألّم ولم يتكدّر، وسلك مسلك كبار رجال السياسة الذين يحبّذون النقد وينصاعون لكلمة الحق. فزار إدارة الشهاب وأكّد لها على تقديره لجهودها، وجرت له مع صاحب الشهاب محادثة دلّت على سُمو أدبه وعُلوّ كعبه في عالم السياسة والتفكير. ثم نشر مقالًا في جريدة La Défense الصادقة الجسورة يُبيِّن فيه نظريته، ويشرح فيه فكرته الاجتماعية التي بنى عليها سلوكه السياسي وسيجد قرّاؤنا تعريب هذا المقال إثر فصلنا هذا.».

الكلام هنا واضح وصريح ولا يستلزم التعليق عليه كثيرًا، يُرينا كيف كانت مواقف الرجال يومًا وتصرفاتهم وردود أفعالهم تُجاه مُخالفيهم في الرّأي ومُنتقديهم، وكذلك كيفية الدفاع عن أفكارهم في إطار وُسِم بالأدب والرفعة والسمو إزاء بعضهم والشّفافية والاحترام حِيال شعبهم، أو العدول عن بعض المواقف وعدم التشبّث بها إن تبيّن حقًا بعد ذلك عدم صحّتها بالتفكير العميق والحجة البالغة، الأمر الذي لا يُنقص من قيمة الشخص بالتأكيد، إنّما يزيده شرفًا ورفعة. لنا أيضًا أن نرى كيف كان النقاش حول قضية القطبية الأيديولوجية، التي تُمثل إحدى نتائج سياسة فرق تسُد، وكيف كان تداولها بين الأوساط الثقافية والسياسية في زمن كانت أوضاع الأمة الجزائرية فيه أحلك ممّا هي عليه اليوم، لنشهد بعد ذلك انصهار كِلا التيارين في ثورة التحرير والعمل معًا من أجل القضية الوطنية التي كلّلت بالنصر بعد ذلك، وهذا ما نأمله اليوم!

ونستطيع كذلك الاستمرار والاسترسال في استخلاص العبر من هذه الحادثة.. لكنّ أهمّ عبرة بالنسبة لنا في مقالنا هذا، هي هذا السرّ الذي دعا طرفي النقيض إلى الجلوس معًا وتقبُّل النقد الصارم وإجراء الحوار البنّاء وتوضيح الآراء والأفكار ونقاشها؟! لنقول.. إنّها الثقة التي فُقدت في أيامنا هذه، والتي انجرّ عن غيابها مآسي كثيرة وكوارث مهولة حلّت بالوطن! أوّلًا، ثقة كلّ طرف في نفسه، والصادرة عن صدقه في خدمة قضيته، وعدم تبعيّته لأيّ أهواء ومكاسب شخصية أو خارجية، مما دعا كُلًا منهما إلى تقبّل النقد بصدر رحب وعدم التقوقع على النفس أو التوجّس من الغير. ثانيًا، ثقة كل طرف في الطرف الآخر من أنّه هو أيضًا صادق في طرحه، نزيه في موقفه، شريف في نفسه، ومُنصف في حُكمه. لذلك لم يتجاهل كلٌّ منهما الرأي الآخر ولم يحتقره أو يصدّه أو يُقصيه، ولم ترِد بينهما كلمة ضمانات أو شروط من أجل اللقاء والاجتماع والنقاش، ناهيك عن كِبر وسِعة نفسيهما الأمر الذي نأى بهما عن إبداء الاستفزازات وإثارة النعرات التي تُعمّق الهوّة وتبعد المسافات بدل تقريبها.

لذلك، على إثر تلك الكلمة الصريحة يومذاك.. نورد كلمتنا الصريحة في يومنا هذا، ونأمل أن تجد صدورًا رحبة تتقبّلها. ونقول.. جميل هو الاختلاف في الآراء والطروحات وتدافعها من أجل البحث عن سُبل الخروج من الأزمة الوطنية. لكن الأجمل منه هو معرفة كيفية التعامل مع هذا الاختلاف، الأمر الذي يستلزم أولًا الثقة المتبادلة النابعة من الصدق والنزاهة والانصاف وعدم الاقصاء، وذلك بالتواصل والنقاش في إطار الأخلاق والقِيَم التي تسمو به وليس عن طريق السبّ والشتم الذي يهوي به. ولنترك بعدها للنصر أن يرسم طريقه بنفسه، ويصهر في بوتقته كل طرف سعى بصدق من أجله، وهذا لا يعنى أبدًا أنها المأمورة التي تُترَك لتسير لوحدها، إنّما هو النتيجة الحتمية لتظافر الجهود وتوافقها. بعد ذلك، إن شهدنا يوم النصر هذا.. فذاك مُتبغانا وجلّ أملنا، وإن لم نشهده فلنترك على الأقل مسارًا لائقا ومُرضيًا لِماضينا، مُشرّفًا لحاضرنا، ومُلهمًا لمستقبلنا.

ونقول كذلك، إنّ عدم ترحيبنا بما يحدث اليوم في بعض صفوف المعارضة ليس إنكارًا لجهودها ولا إنكارًا لهذا التدافع المشروع والمطلوب، لكن بغية منّا أن يعلو كعب الفاعلين في عالم النضال والسياسة، لا أن يغوص بهم في عوالم الأوحال والدناءة. حديثنا هو أيضًا نابع من خوفنا على هذا النضال والجهد المبذول من أن يحيد عن طريق الصواب، ويضيع بمفهوم الوقت الحالي (لكن بالتّأكيد ليس بالمعنى الإجمالي في عمر الأمم وتجاربها وتراكم خبراتها)، وتفتر عزيمة الشعب بعد ذلك، ويفقد ثقته في من يرى انفراج الأزمة على أيديهم، ويدخل إلى مخدع عدم فاعليته ثانية، ولا ندري بعد ذلك متى يخرج مرّة أخرى.. مما يجعل سبيل الوصول إلى النصر حينها أطول وأبعد، بدل البحث عن كيفية اختصار المسافة والوقت الذي ضاع منه الكثير من عمر هذه الأمة. في الأخير، فليراجع كل منا نفسه ولا ينسى أبدًا دوافعه الصادقة والنزيهة، ونرجو من أهل الحكمة ذوي العقل والرزانة رأب هذا الصدع وإصلاح ذات البَين ولـمّ الشمل!

28 جوان 2022

تعليق واحد

  1. بشير بتاريخ

    باتت أزمة بلدي في نظر البعض بسبب السياسيين ، و الحل يكمن في دعوة الساعين إلى تحاشيهم ، ذلك أن كل من راهن على العمل السياسي تحول بالفعل إلى رهينة ! هذا جانب لا يستهان به بات يشكل خريطة الوعي السياسي ، لا تكاد تميز ضمن دائرته بين تلك الألوان الفكرية و الإيديولوجية التي ميزت فترة ثمانينات القرن الماضي ! فلم يصبح الشاب الجزائري يميز في ميزان السياسة بين سعيد سعدي و عبد الله جاب الله ، على سبيل المثال ، من حيث العلاقة التي اعتاد عليها الناس بين السلطة و المعارضة ، و لا ينتظرون منهما شيئا ! حتى أن المرء يكاد يجزم أن هذين ( المعارضين) هما في عداد متقاعدي الجبهة السياسية أو المعارضة الحزبية ! و بات أمثالهم لا يعبأون سوى بالسؤال عن جدوى الامتيازات التي يخافون عليها !
    السياسة بالنسبة للأحرار هي إختيار، و الإختيار يقوم على حسم مسألة الاصطفاف ، و الاصطفاف يحتاج إلى إرادة من لدن الثلة ، و الثلة في حدود الإمكان حاضرة لا محالة ، يمكن أن تستجمع قواها من ضعفها و آلام شعبها و تصنع لها طريقا وسط الألغام ، و ليست الألغام سوى تلك العوائق التي تبطئ اللقاء من أجل العمل لغد أفضل على أمل التحرر .

Exit mobile version