محمد مصطفى حابس: (جينيف/سويسرا)

في محاضرته حول العلم والعلماء بعنوان “ما يقال -عن العلم – في الإسلام وموقف المسلمين من الناقدين”، في الملتقى السادس للتعرف على الفكر الإسلامي، بالجزائر، الذي نظمته وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية، بتاريخ 13 جمادى الثانية إلى 1 رجب 1392 هـ الموافق لـ 24 يوليو إلى 10 أغسطس 1972 م، استهل شيخنا العلامة محمود بوزوزو كلامه بافتتاحية أدبية راقية وهو الأستاذ والامام والإعلامي والشاعر المتتلمذ على يدي الشيخين الامامين (بن باديس والابراهيمي)، بقوله للحضور، بعد التحية والسلام، وهو قادم لهم لتوه في فصل حار، من جنيف بسيوسرا، على متن طائرة حلقت به أكثر من ساعة  في السماء، بدل سيارة أو دابة ما تدب على الأرض أياما وأسابيع في شعاب وأدغال افريقيا، وذلك بفضل الله وفضل العلم.

 تاريخيا، ما الفائدة من تكرار ما قد سبق أن سمعتموه أو قرأتموه، عن يوم العلم ؟

مستهلا محاضرته بقوله: حضرات الإخوان والأخوات، لا شك أنكم تعرفون قول الشاعر العربي القديم، زهير بن أبي سلمى: ما أَرَانَا نَقُولُ إِلاَّ رَجِيعًا *** ومُعَادًا مِن قَوْلِنَا مَكْرُورَا

وفي سبب ذلك يقول المفكر والمؤرخ العراقي، الدكتور جواد علي (1907- 1987).

“ان شعراء الجاهلية كانوا قد وصلوا إلى حالة جعلتهم يقلدون من سبقهم في الشعر ويحاكون طرقهم في النظم، فهم يعيدون ويكررون ما قاله الشعراء قبلهم. وهو كلام يؤيده قول علماء الشعر في القصيدة، من أنها كانت تسير على هدي الشعراء السابقين في نظمها من بدء بذكر الديار والبكاء على الأحبة والأطلال إلى غير ذلك من وصف، حتى صارت هذه الجادة، جادة يسير عليها كل شاعر، مما أثر على البراعة والابتكار الجديد وجعل الشعر قوالب معروفة معينة، يختار الشاعر قالبًا منها ليعبر به عما يريد أن يقوله نظمًا”..

 وبالتالي أراد الشيخ  بوزوزو شرحا لهذا البيت واستدلالا به، بقوله: “لا شك في أن ما سأقوله لكم – وانا القادم من وراء البحار- قد سبق أن سمعتموه أو قرأتموه أو عالجتموه أو جال بفكركم ولم يتح لكم أن تعبروا عنه، وإذن فما الفائدة من تكراره؟ قد تكون في أن الحقائق والقيم الصحيحة يجب أن يقع التنبيه عليها وتكرارها حتى ترسخ في الأذهان لأنها هي المحور الذي تدور عليه الحياة الإنسانية الحقة.. فالمحاضرون الفضلاء الذين تداولوا الحديث على هذه المنصة والمعقبون عليهم قد أشاروا إلى هذه الحقائق العلمية وهذه القيم تصريحًا أو تلميحًا بحيث لم يبق مجال للإتيان بشيء جديد، وبحيث لا مناص لمن يأتي بعدهم من تكرار بعض ما أشاروا إليه إجمالًا أو تفصيلًا .. وأرجو أن لا يكون هذا التكرار من النوع الممل، وأرجو أن يكون من النوع المؤكد للحق الذي هو مطلب كل عاقل”..” ولست أدري إذا ما حدثكم أحد المحاضرين الفضلاء الذين جاءوا من بعيد عن وسيلة تنقله من البلد الذي كان فيه إلى هذا البلد غير أنه فيما يخصني أذكر لكم بكل بساطة أنني حضرت إلى هنا بواسطة الطائرة، وحين كنت في هذه الطائرة أخذ الفكر يجول في جو من التأملات فيما وصل إليه الإنسان من أنواع الاختراعات، وما مر به من المحاولات لبلوغ أرقى الدرجات، وإذا بي أتصور المحاولة الأولى للطيران فيتمثل في خيالي عباس بن فرناس الأندلسي الذي حاول أن يطير بنفسه في القرن الثالث الهجري، ويحضر في ذهني أنه كان مسلمًا، ويتقرر لدي أن الإسلام لم يمنعه من التفكير في الطيران ولا في محاولة الطيران، والطيران اليوم عنوان التقدم. فهل يصح أن يقال عن الإسلام أنه يعارض التفكير والتقدم؟

وإلى جانب هذه التأملات في الطائرة وما وصلت إليه اليوم من التطور حضرت بذهني- وأنا أنظر من نافذة الطائرة إلى البحر- التنقلات في الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، وتمثلت في خاطري صورة

ابن ماجد الصومالي الذي لم يبق له في البحار مكان مجهول له: كان يعرف الخلجان المختلفة، وأنواع البرازخ، والأماكن الخطيرة، والأماكن المأمونة.. وكان فاسكو دي قاما

[Vasco de Gama]

قد اعتمد عليه وكان مدينًا له بجولته الشهيرة، وكان ابن ماجد مسلمًا ومعرفة البحار عنوان التقدم. فهل يصح أن يقال عن الإسلام أنه يعارض التفكير والتقدم؟

وكان ابن ماجد يضم إلى معرفته التامة بالبحار معرفة واسعة بالنجوم ومواقع الأفلاك ومداراتها وسائر أحوالها، وألف في ذلك أراجيز مفصلة، كما ألف في ضبط القبلة بحيث يهتدي إليها المسلم بسهولة في أي مكان كان لأداء صلاته باطمئنان. والتبحر في علم الفلك عنوان التقدم، فكيف يمكن أن يقال عن الإسلام أنه يعارض التفكير والتقدم؟

مضيفا بقوله :” وجعلت أفكر في هذه المقولة وفيما يمكن أن يبررها، وجال نظري في مجالات الفكر عند المسلمين، فنظرت في أنواع الإنتاج الفكري الممكنة من فلسفة، ورياضيات، وطب وحكمة، وعلوم طبيعية، وأدب، وتاريخ، وغيرها، وبحثت عن أي باب من هذه الأبواب أوصده الإسلام في وجه الفكر البشري، وعن أي مسلم وجد الإسلام سدًا يمنعه من التطلع إلى هذه المناهل والاغتراف منها، وعن أي شخص أو شعب كان متقدمًا ثم أصبح متخلفًا بسبب اعتناقه الإسلام كما يزعمه الأب لامنس (المسيحي) وغيره.. فرجعت بطبيعة الحال إلى تعاليم الإسلام وتأثيرها في إذكاء جذوة الفكر أو إخمادها، ثم إلى التاريخ”.

 ثم دخل العلامة بوزوزو، في تفاصيل فكرية وعلمية ليس هذا مجالها، لكني أحببت بهذه المقدمة الطويلة، أن أعرج على تاريخ وخلفيات ومقاصد يوم العلم!!

 لماذا تم اختيار يوم وفاة العلامة بن باديس يوما للعلم ؟

فمما لا شك فيه، أن يوم العلم، يوم ذي شأن في تاريخ الجزائر وأمة اقرأ خصوصا، وفي تاريخ الإنسانية عموما، إذ نادرا لحد الساعة ما سمعنا ببلد إسلامي أو عربي كتب أو أرخ أن هناك يوما خصص للعلم وسمي بهذا الاسم، ما عدى دول حديثة العهد وتعد على أصبع اليد الواحدة في المشرق، كدولة الامارات العربية التي رسمت يوم العلم بتاريخ 2 ديسمبر 2013 ، على سبيل المثال، نقلا عن الجزائر فيما سمعت، إذ أن الامارات لم تر الاستقلال الا في السبعينات، حيث قرّر حكّام ست إمارات من الإمارات المتصالحة، هي: أبو ظبي، ودبي، والشارقة، وعجمان، وأم القيوين، والفجيرة، تكوين الإمارات العربية المتحدة. كدولة مستقلة ذات سيادة، بتاريخ في 18 يوليو 1971م، أي تقريبا بعشر سنوات من استقلال الجزائر، وترسيم يوم العلم في الجزائر كان عام 1976 أي عشر سنوات بعد أن تناقش بشأنه الرئيس هواري بومدين مع وزير التربية الوطنية يومها الدكتور أحمد طالب الابراهيمي، عام 1966، حسب ما ورد في مذكرات هذا الأخير، تخليدا لذكرى رحيل العلامة عبد الحميد ابن باديس رائد الحركة الإصلاحية في الجزائر، والسؤال الذي يطرح نفسه علينا بقوة، لماذا تم اختيار يوم وفاة العلامة بن باديس يوما للعلم في الجزائر؟ ولماذا لم يتم اختيار تاريخ آخر كيوم ميلاده أو يوم تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وهو يوم 5 ماي 1931 ؟

ذلك أن تاريخ ميلاد الجمعية يرمز الى استمرار مسيرة علماء الجزائر الأفاضل وأعلامها ومثقّفيها، وعلى رأسهم العلاّمة الشيخ عبد الحميد بن باديس، الذي اقترن اسمه بجمعية العلماء المسلمين وبكفاح رجال العلم والدين ضد فرنسا الاستعمارية ومن أجل الهوية الجزائرية وتاريخها وحضارتها وليس يوم وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس، الذي يرمز في نظر البعض لوفاة رجال العلم !!

في “مذكرات جزائري”، يسرد أحمد طالب ابراهيمي، الذي كان وزيرا للتربية الوطنية إبان تلك الفترة (1965- 1970) بخصوص تأسيس اليوم الوطني للعلم بأن كل شيء بدأ بمناسبة حديث خصه به الرئيس بومدين. وكتب الوزير ابراهيمي في مذكراته أنه “خلال جلسة سنة 1966، قدم بومدين عرضا خاصا بالآثار الإيجابية للتربية حول تطوير الوعي السياسي”. وجاء في الخطاب الذي وجهه الرئيس ما يلي :”لا يمكن تطويع رجل مثقف كما أنه لا يتعذر إخضاع شعب يتروى من منابع العلم. ولهذا السبب، قد يكون من الحكمة تأسيس يوم للعلم يحتفل به كل سنة في المؤسسات المدرسية ووسائل الإعلام لتذكير الجزائريين بمزايا العلم”. وعندما طلب الرئيس بومدين من وزير التربية أن يقترح عليه تاريخا، اقترح هذا الأخير “بعفوية” يوم 16 أفريل 1940 وهو يوم وفاة الإمام عبد الحميد بن باديس. فقد قال الابراهيمي أنه فكر في يوم رحيل مؤسس وأول رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين لأنه وببساطة كان يجهل تاريخ ميلاده وربما كان يجهل كذلك تاريخ تأسيس الجمعية..

(يتبع بحول الله)

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version