شعبٌ متخلفٌ، جاهلٌ، “ماشي مربي”، “غاشي”، يحب ‘لاشين’، يعشق المشاكل و’المزيريا’، يرفض النظام والتمدن…أتوّقف هنا لكيلا استرسل في سلسلة النعوت والصفات الذميمة والظالمة التي أصبحت من نصيب هذا الشعب المقهور، صفات ازدراء تلصق به حتى وهو يئن تحت ركام الويلات التي يتجرعها بل ويُحمّل وزرها بلا حول منه ولا قوة، الضحية تُحَمَحل مسؤولية الجلاد!

هل هذا الجلد المستدام لظهر الشعب عفوي؟ هل هو رد فعل غاضب ومستنكر للبعض على سلوكيات سلبية من بعض الناس؟ كلا هذه الحملة الشنعاء بحق الشعب نِتاج ألية مُمَنهجة، تعمل وفق خريطة طريق، بسرد مدروس، تريد أن ترسخ في أذهان الناس، صورة قدرية فاشلة للشعب، وجعله عنوان وسبب كل ما يحدث من مآسي، والغمز باتجاهه (أحيانا صراحة) بأنه يستحق المعيشة الضنكة التي يكابدها، كونه عصي على التقدم ويقاوم كل الأفكار الجديدة ولا يقدر حق قدرها “الجهود الجبارة المبذولة من قبل السلطة الحاكمة”.

الغرض من هذه الصورة النمطية بحق الشعب، أن تغرس في أذهان الناس، بأن سبب فشل السلطة في تحقيق متطلبات الشعب الاساسية، وعجزها عن الارتقاء بهم إلى مستوى أعلى، يعود بالأساس إلى هذا “الغاشي” ورداءته، كما وصفه أحدهم، قبل أن يُرّقى إلى منصب وزير “متحضر”. يريدون من هذه الصرة النمطية المجحفة للشعب، نزع كل أمل من الشعب وفيه، وأنه من العبث التعويل عليه لإحداث هبة حضرية، وأنه جُبِل على الرداءة والتخلف، وأن حتى ما يتعرض له يوميا من اعتقالات واختطاف وتنكيل بل والموت وراء القضبان، هو جزاء مستحق مما كسبت يداه، ولا يلوم إلا نفسه. ولإضفاء الشرعية الدينية على هذه القولبة، هناك من ذهب إلى حد لاستدلال بالحديث “كما تكونوا يولى عليكم” الذي رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي بكرة، وضعّفه غير واحد من أهل العلم.

لكن، ما لم يقله هؤلاء، ويتسترون عنه لحاجة خبيثة في أنفس معظمهم، أن هذا الشعب المُفترَى عليه، أصبح طيلة سنتين من هبته الحضارية، مضربا للفخر والاعتزاز على تلك الأخلاق الراقية والمدنية والتنظيم المذهل (عكس ما يُتَهم به)، وأصبح يُضرَب به المثال بين أمم العالم قاطبة؟ فما الذي جعل إذن هذا الشعب الذي وُصِم بكل النعوت القبيحة، يتحوّل بقدرة قادر إلى شعب متحضر، متميز، ومنارة تشرئب إليها الأعناق وتسعى إلى محاكتها؟ في الواقع هذا الشعب لم يتحوّل، فهذا طبعه وأصله، لأنه يغرف من معدنه الأصيل، وعندما اقتنع بأنه يبني مصيره بيده ومن أجل بلده، ورأى بصيص أمل للخروج من محتنه وإعادة سفينة الجزائر المختطفة، إلى وجهتها الصحيحة، تمكن من التخلص من كل الرواسب العالقة بجسده المنهك، وتجاوز حتى خلافاته ولعق جراحه، وعلق مرحليا مطالبه الشخصية وتحلى بالصبر، وقاوم الأنانية، لأنه رأى بأم أعينه بصيص الأمل في الأفق، وقد شهدنا كلنا أثناء تلك المرحلة النيرة، ظاهرة لها من الرمزية ما يجعلها معيار يقاس به ذلك الرقي، شهدنا بفخر وذهول، قوارب الموت تتوّقف في إبحارها إلى الضفة الشمالية ن المتوسط، بل وشاهدنا حركة عكسية، عودة أبناء الجالية إلى أرض الوطن، سعيا منهم للمساهمة في بناء وطنهم ووضع لبنة في هذا الصرح العظيم.

الواقع والميدان، أثبتا، أن الشعب ليس غاشي، ولا متخلف ولا يعشق الفوضى كما يزعمون بخبث، ولا يستحق النكبات التي يتعرض لها، لقد تحمّل نكبات تقسم ظهر الجبال، وبرهن عملا لا قولا فحسب، أنه متى توفرت له الظروف المناسبة، قادرٌ على أن يكشف حسن معدنه، وصفاء اصله، وهو ما يجعله إلى يومنا هذا يصابر، جسورا، يتحمل الصعاب والفتن الحالكة وحملات المطاردة والتضليل والتشهير والسجن، متحملا كل ذلك، ثمنا لبناء دولة العدل والقانون، دولة لجميع مواطنيها، حُضنًا رحبًا يتسع للجميع، ويسمح لهم بالتعبير عن أرائهم والمساهمة بأصواتهم وخياراتهم  والمشاركة في تحدد مسار السفينة.

لكنه وجد نفسه في كل مرة معزولا، مُحارَبا، ومُتَهَما، وليس من الغريب أن جل الطبقة السياسية والثقافية والجمْعوية المرخص لها من قبل السلطة، تستعديه، أو تتجاهله في أحسن الظروف، ولا تؤمن به كقوة فاعلة للتغيير وللحكم، بل العديد من الأحزاب عبرت صراحة أنها لا يؤمن بالتغيير الذي يأتي من جماهير الشعب في الشارع، وكان ذلك قبل أيام قليلة من حراك فبراير 2019، قبل أن يصرح زعماؤها، دون حياء وبانتهازية مخزية أن “الفضل” في حراك الشعب، يعود إليهم، ولم يطُل هذا التفاخر، لينكصوا على أعقابهم، ويعودوا إلى طبعهم، إلى مربعهم الدافئ، ويتبرؤون من “الغاشي” مجددا، عندما فتحت السلطة على المقاومين أبواب جهنم، بحملات الاعتقال والمطاردات والتضييق، فلم تكن لهم حتى الشجاعة للتعبير ولو على استحياء عن إدانتهم للقمع والتعسف، والتعذيب والاغتصاب والموت في السجن، لعناصر الحراك.

تجربة الحراك، التي أرست ركن التعارف المباشر في الساحات، بيّنت حقيقة ومعدن الشعب، الذي أثبت أنه قادر على تجاوز خلافاته وخصوماته، سواء بين الأفراد، والتنظيمات أو الحركات، أو فئات المجتمع، ومكنت من نسف كل حملات التقييم المغرضة، القائمة على أحكام مسبقة، من صنع وتضخيم أطراف غير بريئة، عبر منابر إعلامية أو جهات مشبوهة مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر، بدوائر السلطة الحاكمة، الغاية منها إذكاء الخلافات وتأليب طرف ضد الآخر والانقاص من شأنه بل وشيطنته أو تشويه سمعته، في أعين غيره، لتحقيق هدف أساسي، استدامة التنافر المتبادل ومنع التلاقي بين المواطنين، ومناقشة بعضهم البعض بشكل مباشر دون وسيط، ولهذا السبب تسعى هذه السلطة، بكل ما أتيت إلى قمع كل محاولات عودة سميرات الحراك وتجمعات المواطنين للتحدث إلى بعضهم البعض، دون أن ينتظروا من نشرات ومسلسلات الثامنة لتعرفهم عن بعضهم البعض.

وبهذه الطرق نفسها، استحكمت العصابات المتوالية منذ 62، ورسخت سلطتها، وأقصت فئات الشعب من المشاركة في قرارات الدولة المصيرية، عن طريق بناء جدران بين مكوّناته، ونشر سياسة التخوين والتشويه وتعميق خلافات وهمية من صنع مخابرها، ونسف أي مبادرة تسعى إلى لم شمل المواطنين، ووءدها في المهد، بتهم مضللة، من قبيل “المساس باستقرار الدولة” أو “العمالة لأطراف خارجية”، ومن ذلك اتهام المرحوم ايت احمد بالخيانة العظمى في 62 وحتى بوضياف، وبن بلا وأيت احمد (مرة أخرى) ومهري وعلي يحيى عبد النور وغيرهم في 1995 عندما التقوا من أجل حل سياسي توافقي يضع حدا لمحنة الجزائر ويوقف إراقة دماء الجزائريين، فيما عُرِف بعقد روما، في دعوتهم إلى أرضية سياسية يشارك فيها الجميع، بما في ذلك السلطة القائمة بحكم امر الواقع.

يوم بعد آخر، يتضح أن أكبر هاجس أرق السلطة في حراك 22 فبراير 2019، أنه كان بمثابة منصة وفضاء كشف زيف وافترائها، وعرى مزاعمهما التي دأبت على اتهام الشعب بالغوغائية والتخلف والعدوانية، فجاء ليثبت مدى تحضر الشعب واحترامه لبعضه البعض، وإصغاء فئات الشعب بمختلف مشاربها الى بعضها البعض ومناقشة اختلافاتهما بكل احترام وتفهم، وتنظيم مسيرات بعشرات الآلاف وأحيانا مئات الآلاف، دون تكسير للممتلكات أو ترك المهملات في الشوارع التي كان يمر بها،  فضلا عن طرح العديد من المبادرات الجماعية، الموّجهة إلى السلطة، التي رفضتنا دون النظر إليها، على غرار رفضها “جملة وتفصلا” العقد الوطني في 1995.

وكشف الحراك مناورات السلطة الرامية إلى تشتيت صفوف الشعب وجعل الجميع يرى بأم عينيه أن هذه الانحرافات المزعومة التي تلصق بالشعب هي أصلا من فبركة السلطة بوسائل دنيئة تريد من خلالها إظهار الشعب في تلك الصورة المقيتة المنفرة، لكي تبرر الوضع المتدهور وتحيله إلى همجية الشعب، للتغطية على فاشلها هي وفسادها المستشري، والترويج للرواية عن طريق أبواقها، وترددها للأسف بعض الأصوات بدون وعي منها، مفادها أن الشعب غير مؤهل لتقرير مصيره بنفسه ويجب الحجر عليه وفرض الوصاية عليه، لمصلحته.

وسمح الحراك أيضا بالاطلاع على حجم الكذب والافتراء والتضليل الذي مارسته وسائل الدولة، لتشويه فئاته وتأليبها ضد بعضها البعض، في ثنائيات تناحرية، من قبيل قبائلي-عربي، مفرنس- معرب، إسلامي- علماني، وما إلى ذلك، كل ذلك لإحكام قبضتها على الجميع، وإشغالهم في حروب عبثية وهمية لا تنتهي بدل أن توّجه قواها إلى التصدي للوباء القاتل الذي ينخر جسم البلاد والعباد.

أكبر درس يُستخلَص من هبة الحراك وزخم لقاءاته، أنه فتح أعين الجميع حول ضرورة توخي الحذر والحيطة في بناء الأحكام وتقييم الأشخاص، وألا يكون ذلك عبر أعين ومنابر وتقييمات أطراف ثالثة مريبة، فلا مناص من معالجة الخلافات إن وجدت، دون وسطاء، وتقييم الآخر بناء على ما يصدر عنه من أقوال وتصريحات ومقالات وتصرفات ومواقف، وليس بناء على ما تروجه آلة التضليل مدفوعة الأجر من خزينة البلاد، لغرض لا يخفى على لبيب.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version