هكذا تستقبل جاليتنا الشهر الفضيل
محمد مصطفى حابس: جينيف / سويسرا
قديما قيل ” ما بعد الظلام، لابد ان يأتي النور… وبعد العسر، لابد ان يأتي اليسر.. وبعد الحزن، لابد ان يأتي الفرح .. وبعد الظلم، لابد ان يأتي العدل… وبعد القهر، لابد ان تأتي الرحمة”، وها هي تمر الأيام والأشهر والسنون بغثها وسمينها وتعود الطبيعة الى أصلها، ويعود رمضان بعبقه وخيراته وبركته على جاليتنا المسلمة في بلاد الغرب، بعد أشهر عجاف مرت بها الإنسانية قاطبة في كل اصقاع المعمورة جراء وباء كورونا، ها هو رمضان يعود، دون غلق للمساجد، ودون تباعد للمناكب، ودون كمامات محرجة!!

عاد رمضان كما يعود الغيث..
وعلى حد قول أستاذنا الكبير، الدكتور مازن المبارك سيد اللغة العربية ومنظرها اليوم في العالم، الأمازيغي الأصل القح من الجزائر، المقيم حاليا في سوريا، صاحب كتاب “نحو وعي لغوي” وغيره من الكتب النفيسة، الشقيق الأصغر للشيخ محمد المبارك الذي تعرفه ملتقيات الفكر الإسلامي الجزائري أصيل مدينة دلس و قيل لي أصيل سيدي عيش ولاية بجاية، يقول هذا العالم العلامة في مقال شيق له، بعنوان ” عاد رمضان كما يعود الغيث إلى التربة”، بحيث كتب يقول: ” وعاد رمضان اليوم كما يعود النسغ أو الماء إلى الشجرة، وكما يعود الغيث إلى التربة، وكما يعود الشتاء بخيره، وكما يعود الربيع بزهره، عاد رمضان بما فيه من خير وسكينة، عاد ليجعل ظلام الليل مضيئاً يشع بنور العبادة والصلاة والتهجد والقرآن. عاد كما يعود الشتاء ليروي بخيره ما جفَّ ويبس من الأغصان، عاد ليذكِّر بالتسامح والعطف والحنان”.
نعم، عاد لنا رمضان كسالف عهده المزهر، ليهب النفوس ما تحتاج إليه من سكينة واطمئنان، عاد ليعلِّم الصبر والصمود والثبات في قمع العدوان. عاد رمضان ليخلِّص الإنسان من وساوس الشيطان.
نعم عاد رمضان ليرى أنَّ الأشجار التي أشبعها في نفوسنا رياً لم تلبث أن غادرها حتى جفت! والشهوات التي أطفأها لم تلبث أن استعرت. والنفوس التي ألبسها السكينة لم تلبث أن امتلأت بالقلق!
عاد رمضان ” ليرى شياطين الإنس والجن الذين صُفِّدوا فيه وألجموا لم يلبثوا أن انطلقوا، والأرحام التي وصلها لم تلبث أن تقطَّعت، عاد رمضان ليرى – ويا خزينا مما يرى – عاد ليرى الأمة التي تلقَّت فيه القرآن، والتي عرفت فيه الجهاد، والتي انتصرت فيه ببدر، والتي فتحت فيه مكة، عاد ليراها مغزوَّة في ديارها، مغلوبة على أمرها، متخاذلة عن أمر ربها، مفكَّكة الأوصال بعدما تركها كالجسد الواحد.”
عاد رمضان ” ليرى القرآن على اللسان دون القلوب والأعمال، وليراها تجاهد – إذا جاهدت – باللسان، فتدين وتستنكر وتشجب، وتلك هي كلُّ القوة التي أعدتها لترهب بها عدو الله وعدوها”..

لرمضان مكانةٌ ترتبط بها القلوب والأبدان ..
هذه صور عودة رمضان في عمومها في بلادنا الإسلامية، أما في بلاد الغرب فإن شهر رمضان بالنسبة لجاليتنا المسلمة، فهو من الأوقات التي لها عند المسلمين مكانةٌ عظيمةٌ كل سنة، هذه المكانة ليست مجرد شجون وتقدير لما يرتبطون به، لا بل هي مكانةٌ ترتبط بها القلوب والأبدان لما تجده النفوس من بهجةٍ وفرحةٍ واطمئنان وحب للخيرات وفعل للطاعات، فأنت ترى الناس تختلف مسالكهم في رمضان عن غيره من الأشهر، لوقوع الصيام منهم جماعة مما يجعل لهم صورة جماعية طيبة كاجتماع الناس في المساجد للإفطار الجماعي وقيام الليل على اختلاف جنسياتهم وأجناسهم، والحضور للنشاطات الثقافية من مسابقات تربوية وحفظ للقرآن الكريم..

من نشاطات جاليتنا في الغرب ..
وتفاعلاً مع هذا الشهر الاستثنائي في حياة المسلم، توجه «مجالس المراكز الاسلامية» إلى عموم المسلمين في أوروبا، وإلى غيرهم ممن يرغبون في التعرف على رمضان والصيام عند المسلمين، بنشر و توزيع كتب ومنشورات جديدة بالعربية ولغات أخرى، منها هذه السنة ملخص كتيب “شهر رمضان وفقه الصيام والقيام” ، للعلامة د. يوسف القرضاوي، مع إجتهادات فقهية لعلماء المذاهب الأربع، خاصة منها المالكية، المنشور مزدان بجملةً من المواضيع المهمة المتعلقة برمضان، والتي تميزت ببساطة الفقه وتيسيره، واستيعاب أغلب ما يتعلق بالصيام في كلمات جامعة، وموجزة، وتتضمن المادة مقالاتٍ ومواضيعَ وفق محاور رئيسيّةٍ منها:
1- وجوب صيام رمضان وثبوت الهلال فلكياً:
هذه المادة المختصرة من كتاب فقه الصيام تتناول معنى الصيام وحكم الصوم، ووجوب صيام شهر رمضان، وعلى من يجب، وطرق إثبات دخول وخروج شهر رمضان، وما يتعلق بطريقة إثبات الهلال بالحساب الفلكي.
2- أصحاب الأعذار من الصيام / المسافر والمريض والشيخ الكبير:
فصل يتناول أصحاب الأعذار، وماهية هذه الأعذار التي تبيح لهم الفطر في رمضان، مع بيان كيفية تعويض ذلك، وأصحاب الأعذار على رأسهم المسافر والمريض، كما يتضمن الشيخ الكبير والمرأة العجوز، والمرأة الحامل أو المرضعة، وكذلك من خاف الهلاك من شدة الجوع أو العطش.
3- مقومات الصيام وما يفطر وما لا يفطر:
هذه المادة المختصرة تتناول مقومات الصيام الأساسية والتي تضمن صحة الصيام، مع بيان ما يفطر الصائم وما لا يفطره، متضمناً نقداً فقهياً للتوسعة الزائدة للفقهاء في أمر المفطرات والتي تناقض روح الإسلام ومقاصده، مع التعرض لبعض المسائل كالمعاصي وتأثيرها على الصيام، ومن أكل أو شرب ناسيًا أو مكرهًا.
4- كيفية اغتنام رمضان وما يستحب من أعمال:
فصل يتناول الأعمال التي ينبغي للمسلم أن يقوم بها في شهر رمضان، وكيفية اغتنام أوقات هذا الشهر الفضيل، في الذكر والطاعة والجود والدعاء، وفي إحياء ليالي رمضان بالقيام والتراويح والتهجد، مع التنزه عن اللغو والرفث والجهل والسبِّ
5- العشر الأواخر من رمضان وليلة القدر:
هذه المادة المختصرة تتناول ما يتعلق بليالي العشر الأواخر من شهر رمضان وإحياء هذه الليالي التماساً لليلة القدر
6- صيام التطوع :
فصل يشتمل على صيام ستة من شوال، وصيام تسع ذي الحجة ويوم عرفة، وصيام عاشوراء وتاسوعاء، والإكثار من الصوم في شعبان، والصيام في الأشهر الحرم، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام الاثنين والخميس، وصيام يوم وإفطار يوم، مع التعرض لأشكال الصيام المكروه.
7- برامج ونماذج الاعمال والعبادات، في الشهر الفضيل :
هذا الفصل، به قائمة لبعض النشاطات والعبادات الرمضانية، وجداول حسب الجهات والمناطق ومواقيتها والهيئات المشرفة عليها، كمسابقات القرآن الكريم، وبرامج نهاية الأسبوع والعشر الأواخر، و يوم العيد .. مختتما بنصائح طبية تعتمد على ما يسمى بالعلاج السلوكي، وهو علاج بالكلام وتصحيح فكرة وسلوك، يمكن أن يساعد المرء في إدارة مشاكله من خلال تغيير طريقة تفكيره وتصرفه، كما يعتمد العلاج المعرفي السلوكي على مفهوم أن أفكار المرء ومشاعره الجسدية وأفعاله مترابطة ببعض. بمعنى شفائك أيا كان داؤك روحيا أم جسديا يتأثر ببرمجتك وأحاسيسك. كما أختصر أصحاب الكتيب هذه النظريات الطبية العلمية الهادفة، في أبيات شعر للإمام علي رضي الله التي قال فيها:
دَواؤُكَ فيكَ وَما تُبصِرُ … وَدَاؤُكَ مِنكَ وَما تَشعُر
أَتَزعُمُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغير… وَفيكَ اِنطَوى العالَمُ الأَكبَرُ
فأَنتَ الكِتابُ المُبينُ الَّذي … بِأَحرُفِهِ يَظهَرُ المُضَمَرُ
وَما حاجَةٌ لَكَ مِن خارِجٍ … وَفِكرُكَ فيكَ وَما تُصدِرُ

شهر رمضان، الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ
أخيرا – من جهتنا – ونحن على أبواب هذا الشهر الفضيل ندعو الله مخلصين أن يوفق القائمين من رجال ونساء على هذه المجهودات المباركة وباقي أفراد جاليتنا المسلمة التي حرمت منه سنوات كورونا الصعبة الاخيرة، كما نرجوه سبحانه أن يَلقَى نشاطهم هذا استحسانَ القارئين من الأئمة والمرشدين والمرشدات في أوروبا، ومن عموم المسلمين والباحثين في ربوع المعمورة.. وأن يجدوا فيه بُغيَتَهم، مع شكرٍ خاص لكل من شجّع ودعم بفكرةٍ أو مقترحٍ أو نصيحةٍ، قصد مساهمات أخرى واعدة، خاصة منها الترجمات، لأهم لغات أوروبا لتستفيد منه شاباتنا وشبابنا في الغرب، ويكون بالتالي فعلا ليس زاد للإمام والمسلم في الغرب فحسب، بل “زاد لكل إنسان يريد أن يتعرف على هذا الدين وعلى فضائل هذا الشهر الكريم ” شهر رمضان، الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ”.. ورمضان كريم وبالله التوفيق وبه نستعين.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version