هل يمكن للإنسان الإقدام على ارتكاب أفعال شرّيرة من دون دوافع شرّيرة؟ هو سؤال حاولت الإجابة عليه المفكرة والمنظّرة السياسية Hannah Arendt، المعروف انتماؤها إلى حلقة الفلاسفة والتي تنفي هذا التصنيف. وإنما ترى أعمالها مقتصرة على النظرية السياسية، وحجّـتُها في ذلك أنّ الفلسفة تؤثّر غالبًا على الموضوعية في السياسة.

طرحت المفكرة هذا السؤال في تقرير مُطوّل كتبته إثر تغطيتها لوقائع مُحاكمةٍ شهيرة في القدس لأحد كِبار الموظفين في النظام النازي سابقًا، والذي اقتصر عمله حينها على ترحيل اليهود إلى معسكرات الإبادة. بحكم الخلفية العرقية والدينية للمفكرة، كان مُتوقّعا منها أن تُوغل في وصف وحشية المتّهم الذي كان مُحتجزًا في قفص زجاجي، وأن تُسهِب في تبيان مُعاداته للسامية من خلال حديثه، وأن تُطنب في نقل شهادات الناجين من الضحايا. لكنّها فاجأت الجميع بتحليلٍ وآراءٍ جاءت مُعاكسة لكلّ التوقّعات، ومُعاكسة أيضًا لتوقّعاتها هي ذاتها! إذ كانت تنتظر رؤية شخص توحي كلّ سماته بالإجرام، مُتشبّع حتّى النخاع بفكر ناضل من أجله، وله من المكر والحيلة والحنكة والدهاء والذكاء الباع الكثير. لتُفاجأ بشخص عادي جدًّا.. حتّى أنّه تجاوز ذلك إلى حدّ التفاهة وإثارة السخرية والضحك أحيانًا؛ إذ كان سطحي الأفكار، مُتلعثم الكلام، مُتردّد الأفعال. وفي ردّه على جرائم الحرب التي نُسبت إليه، برّر جميع أفعاله بأنّه لم يكن صانعًا للقرار، إنّما كان فقط يؤدّي وظيفته الإدارية المُتمثّلة في تنفيذ الأوامر. لتُدرك من خلال ذلك أنّه شخص لم يكن يُفكّر غالبًا، إنّما جعل من نفسه عبدًا لوظيفته، عاجزًا عن التفكير في طبيعة الأوامر المُسداة إليه، غير قادر على استشارة ضميره ووعيه. فخلُصت بعد ذلك إلى طرح مفهوم جديد أطلقت عليه «تـفاهة الشرّ». وهو الشرّ الذي يرتكبه من ليس حاملًا في نفسه لدوافع شريرة، إنّما من تخلّى عن إنسانيته المتمثّلة في التفكير وتحكيم الأخلاق قبل تنفيذ أيّ قرار وظيفي.

إذا تأملنا حاضرنا وماضينا القريب، نجد مفهوم تفاهة الشرّ هذا مُتفشيًا بكثرة في أنظمتنا الشمولية، وهو ما أشارت وأكّدت عليه المنظّرة حينذاك. لنراه مُتجسّدًا في صور عديدة لشاغلي بعض الوظائف أو جلّها. فأضحت هذه الوظائف تافهة بدورها مهما علت مراتبها. والأمثلة على ذلك للأسف الشديد كثيرة، ولنا أن نُصنّفها في فئتين اثنتين.

فئة جسّدت تفاهة الشرّ الخشنة أو العنيفة في أحيان كثيرة. وهي تلك الوظائف التي يشغلها من بيده القوة ممّن يتلقّون الأوامر المباشرة، فيستعملهم أرباب الشرّ للإرهاب ونشر الخوف والهلع في نفوس الشعوب. من أبطالها عملاء المخابرات الإرهابية وأعوان الشرطة والدرك ممّن يختطفون الناس الأبرياء ويُمارسون عليهم شتّى أنواع التعذيب النفسي والجسدي. وكذلك الحرّاس في السجون الذين هم شهود عيان على التجاوزات في حقّ المعتقلين ومعاناتهم وآلامهم، ويشاركون أحيانًا في الممارسات المنافية لكلّ الأخلاق والقيم الإنسانية. بالنسبة لكلّ هؤلاء، لا يحدو ذلك عن تأدية لمهامّ الوظيفة لا أكثر! وإحسانًا منهم تراهم في بعض اﻷحيان يجتهدون أكثر لإرضاء أسيادهم، لاسيما في حالة ثورات الشعوب أين يُقاوم الأحرار ظلم الأشرار. لكن أصحاب الوظيفة التافهة، إخلاصا منهم، تجدهم يُقاومون مُقاومةً تُحاكي مُقاومة المُقاومين الأحرار للأشرار بشراسة، لكن بطرق دنيئة وغير شريفة. هذه الفئة تعترف فقط بمنطق القوة، ربّما لذلك نرى جانب العقل مغلوبًا على أمره، وكذلك التفكير، فغُلبت على إثرهما الأخلاق والقِيَم، وغابت بعد ذلك عن دقّ أبواب الضمير وإيقاظ الوعي من سباته.

أما الفئة الثانية، فهي من الذوات المدّعية للعلم والمُناشدة بزينة العقل. بيد أنّها آثرت إلّا أن تُجسّد تفاهة الشرّ في وظائفها، لكن هذه المرّة بصفتها الناعمة من دون أيّ مظهر لتكريس منطق القوة، والملتوية إذ أنّ الأوامر تأتي إليها بطريقة غير مباشرة. وعدد أشكالها وأمثلة منتسبيها يفوق بكثير عدد أشكال وأمثلة أصحاب الفئة السابقة، في ما يلي نخصّ بالذكر بعضًا منها.

في القضاء مثلًا، نجد رؤساء المحاكم والقضاة والنواب العامين شاهدين على كمية الظلم، لكن معظمهم يصادقون عليها ويشرعونها بأحكامهم الجائرة، بأوامر لا تندرج أساسًا ضمن إطار وظائفهم المستقلّة تحت لواء العدل. أمّا في الإعلام والصحافة اللّتين من أهمّ شروطهما المصداقية والأمانة، نجد ممّن يشغلون هذه الوظائف قد جعلوا من أنفسهم أبواقًا تنفخ نار الفتنة وتُزيّف الحقائق وتعمي البصائر.. ولا يستحون. ويتبعهم في ذلك من هم مُدوّنون على صفحات التواصل الاجتماعي، من الذين يدّعون نشر الوعي والثقافة، لكنهم مثل سابقيهم يعملون دائمًا على الإلهاء وصرف أنظار الشعب عن القضايا المصيرية، ويختصون أساسًا في نشر الفتنة والدّجل. أمّا في حال عدم ورود مواضيع ساخنة مما يشتهون، فتراهم يتحوّلون إلى دعاة للدين، يُذكّرون الناس بفضل صلاة الصبح وأجر المواظبة عليها. وعلى ذكر الدين، نجد صنف الأئمة الذين لا تجفّ ملابسهم من بلل دورة المياه، وفي حال خروجهم منها نراهم ناقمين على حال الشباب الضائع الهائم المفتون بالمغريات، لكنهم لا يرَون الشباب الواعي المُتبصّر المنادي بالحرية والعدل وصلاح حال العباد والبلاد والخلاص من الاستبداد. لا يرَون حال هؤلاء الشباب مُطاردين من طرف شتى أنواع قوى القمع، ولا يرَون حالهم مُعتقلين ظلمًا وعدوانًا، ولا يسمعون عن سوء معاملتهم وإهانتهم وتعذيبهم وانتهاك حرماتهم والانتقام منهم لأنهم لم يضيعوا ولم يهيموا مثل سابقيهم.

ونحن نعيش أيام إضراب الكرامة لهؤلاء الأحرار عن الطعام داخل المعتقلات وخارجها، أين لم يبق لهم من وسيلة لطلب الحياة الكريمة سوى أجسادهم الهزيلة والمنهكة أساسًا، لا نسمع لأولئك الأئمة حسيسًا، ولا هم يُحرّكون ساكنًا تنديدًا بالظلم والتجاوزات الممارسة عليهم، وفي حال تحدّثوا أفتوا بحرمة الإضراب وقالوا بأنّه انتحار ورمي بالنفس إلى التّهلكة! لنا أيضًا من مظاهر الوظائف التافهة من هم أكاديميون داخل الوطن وخارجه، ممّن قضَوا جُلّ حياتهم في الدراسة وطلب العلم، ويعلمون علم اليقين أنّ مثل هذا الشرّ مُتجسّد في هذه الأنظمة الحاكمة دون شرعية ليس لها أدنى صدق نيةٍ في الرفعة بالعلم وأصحابه. وأنّ كل المبادرات التي يأتون بها ما هي إلا زيف ووسيلة لملء الجداول الإحصائية ومحاولة لجلب الشرعية الغائبة وتضليل البسطاء من العقول. لكننا لأسباب نجهلها نجد فيهم من ينساق وراء مثل هذا التجسيد لتفاهة الشرّ، ونعتب في ذلك بالأخص على من هم في الخارج ممن لهم سعة من الأمن والحريّة!؟ على كل حال.. هي ذي عيّنة من الوظائف التافهة وسِماتها، التي تُبدي النعومة بعدم استعمالها لمظاهر القوة لقمع الشعوب وشاكلاتها، لكنّ أثرها في الحقيقة أشدّ وأمرّ من سابقتها، إذ أنّ عملها، بعلم أو بغير علم، يقتصر على تضليل واستغباء واستغفال عقول العوام، ممّن يرَون وجوب اتّباع من هم أكبر منهم علمًا وأعمق فهمًا وأكثر فقهًا.

بناءً على ما سبق، هي رسالة لكلّ من تبادر إلى ذهنه سلك درب التفاهة هذا أيّا كانت صفتها، أو يريد التقدم لوظيفة قد تبيّن له في جزءٍ منها أنّها تافهة أساسا.. تذكّر أنه لن يكون لك حظ منها إلا أن تكون أكثر تفاهة منها!

أمّا فيما يخص الشرّ بدون تفاهته، فهو يبدو عصيًا ﻷوّل وهلة، لكن الأمر غير ذلك تماما ولا يستحقّ الوقوف عنده كثيرًا. فالتخلّص منه يستلزم فقط، وإن كان ليس بالهيّن، التخلّص من التفاهة التي بَنَت له مجدًا قشيبًا ونذرت نفسها من أجله عبدًا مطيعًا وحصنًا منيعًا. والحقيقة أنّ نظام الشرّ الذي عِماده التفاهة، فسقوطه حتميٌ لا محالة!

فادية ربيع
6 فبراير 2022

 

تعليقان

  1. هل هي وظائف تافهة ، أم وظائف مضافة ؟ مثلما هو العبد ، لأي غرض يستعبد ؟ و لماذا برأيكم ، العبد مولع بطاعة الغالب؟ ثم لماذا بدا العقل و الفكر مغلوبا على أمره أمام منطق القوة ، في الوقت الذي تحطمت فيه القوة النازية أمام قوة الفكرة التي جعلت من اليهود قوة ، بنت لهم دولة ! ؟ و هل فكرة القوة مقدمة على قوة الفكر ة في نص القرآن الكريم : ” و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة … ” الآية 60 من سورة الأنفال ؟ و وفق هذا المنطق ، ماذا إذا وضعنا فكرة الحراك الشعبي السلمي في كفة ، و نشاط الجماعات الإسلامية المسلحة لعقود من الزمن في كفة ؟ و ما المتوقع بخصوص سلوك الحركة التي يقودها ” راشد الغنوشي ” في ظل كابوس ” شاوسيسكو ” تونس الذي يبدو موظفا مفوضا فوق العادة ، لا أدري تحديدا ، أهو ممن يؤدون وظائف تافهة ، أم وظائف بالإضافة ، و لمن تكون الغلبة ؟ من دون شك ، يتوقف ذلك على أمثال عبد الفتاح مورو ، و راشد الغنوشي ، و رؤية التونسيين و موقفهم من منطق القوة .

  2. و في نفس السياق ، هل يحتاج الإنسان دائما إلى دوافع شريرة ، حتى يقدم على أفعال شريرة ؟ و ماذا حينما يتحول ( السيد ) المستبد ، في نظر (العبد ) المستعبد، إلى ملاذ يصعب الاستغناء عنه ، خصوصا حينما يصبح عبيد القصر يستميتون في إذلال عبيد الحقل ، و تصبح الدولة قصرا يضيق بالخدم من شاكلة عبيد القصر ، حتى أننا لا نكاد نميز بين قصر و حقل ، الأول في الشمال و الثاني في الجنوب ، من دون الحاجة إلى تعيين ! إن منطق ترتيب الأولويات في عالم طرح الفرضيات يفرض علينا ، أكثر من أي وقت فات ، منهجا علميا واضحا ، فما بالك بالنظر في عالم بناء المخرجات . و لربما هو السبب الذي جعل المفكرة Hannah Arendt تتحاشى تصنيفها ضمن دائرة الفلسفة ، مكتفية بدائرة التنظير السياسي الذي لا يخلو من عامل التخفي و المراوغة .

Exit mobile version