محمد مصطفى حابس: جنيف / سويسرا

كما تداولته وسائل الإعلام أخيرا وكما أعلن عنه وزير الداخلية الفرنسي (من أصول جزائرية) جيرالد دارمنان اتخاذه إجراءات لإغلاق “مركز (النوى) للنشر والدراسات”، بمنطقة أرياج جنوب غربي البلاد “ للاشتباه في ارتباطها بأنشطة انفصالية تتعارض مع القيم الغربية”، وقال دارمنان في تغريدة نشرها على تويتر “بدأت إجراءات إغلاق دار نشر إسلامية، بسبب نشرها لأعمال تشرعن الجهاد” وأوضح وزير الداخلية أنه تم اتخاذ الإجراءات اللازمة لتجميد أصول دار النشر والقبض على الناشرين، وأشار إلى أن الدار كانت على ارتباط “بالجهاديين” وتعمل على نشر أفكار تتعارض مع القيم الغربية”، على حد تعبيره، وكأنه يتسابق في شيطنة المسلمين مع اليمين المتطرف المتعدد الألسن، من مارين لوبان الى إريك زمور و من حام حولهم…

توضيح مركز (النوى) للنشر والدراسات NAWA Editions

من جهتها ردت إدارة المركز ببيان واضح وصريح بالعربية والفرنسية تحت عنوان: ” الحكومة الفرنسية تواصل تعنتها في حملتها الإدارية والسياسية ضد مسلمي فرنسا”، مفندة الادعاءات الباطلة للوزير الفرنسي، قائلة : “أنه لأول مرة في التاريخ الحديث، يأتي الدور في فرنسا على حل دار نشر؟؟ بحجة محاربة التطرف أو معاداة السامية، فيُحظر نشر مؤلفات التاريخ والعقيدة والفلسفة السياسية”، معرفة نفسها، بأنها مركز للدراسات متخصص في المؤلفات السياسية الإسلامية حيث يعكف على تحليلها والتعليق عليها ودراستها برؤية نقدية أكاديمية كتاب متخصصون، إذ يُعتبر مؤلفو كتبها مراجع موثوقة في تحليل الفلسفة السياسية الفرنسية وتاريخها وواقعها وعلاقاتها بالإسلام والعالم الإسلامي”. في نفس الوقت توجه تحليلاتهم نقدا شديدا لأسس السياسة الفرنسية. وهذه هي الحقيقة التي سَمّوها “مخالفة لقيمهم” – على حد تعبير البيان-، وأردف البيان بقوله:” تصف الحكومة الفرنسية الحالية تطرفا وتحريضا على الكراهية” كل روح إسلامية حرة ومستقلة تقاومها وتقف في وجهها لدحض أيديولوجيتها اللائكية المعادية للدين والخانقة للحريات في التفكير والكتابة والإنشاء”..

 مقرين بقولهم:”نحن – مركز (النوى) للنشر والدراسات-، متهمون بأننا قمنا بالترجمة والتعليق على مؤلفات الامام ابن تيمية و المفكر الإسلامي سيد قطب، وبأننا كتبنا في تاريخ الدعوة النجدية والوهابية، كما نشرنا كتاب بعنوان “حياة خالد بن الوليد.. سيف الله” و كتب في التراث منها “طريق النصارى – أو ميراث المسيح في الإسلام المعاصر” و كتاب ” كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل” قطوف ونصوص بن القيم الجوزية، ابن رجب الحنبلي و الشاطبي..”..و غيرها من المراجع.

“كما أننا كتبنا وعلقنا على الجغرافيا السياسية الفرنسية والواقع الفرنسي الداخلي والخارجي، بعيون ورؤية مسلم مؤمن معاصر مثقف ومفكر”..” كل هذا بتهم باطلة كالتحريض على الكراهية والتحريض على الجهاد”، مصرين على أن :”هذه التهم الباطلة لم ترِد مطلقا في الكتب التي نشرناها وهذا ليس دورنا حيث يُمكن لأي من آلاف القراء الناطقين بالفرنسية أن يشهد على ذلك”..

شارحين بقولهم: “يجب التنبيه على أن القضية لا تتعلق بكتاب ما بعينه يُمنع نشرُه أو طبعه أو مجموعة من الكتب التي سيتم حظرها أو تعريضها لمقص الرقيب. ولكن الأمر يتعلق بعملية الطبع والنشر نفسها من حيث أنها حرية يكفلها القانون. هذا أمر لم يسمع به الغرب في العقود الأخيرة البتة .. لم يحدث من قبل في أي بلد غربي أن تعرضت حريات المسلمين للهجوم المُمنهج والتعدي الفج والانتهاك الصارخ كما هو الحال في فرنسا الرائدة مؤخرا في هذا المجال”..

مذكرين بقولهم :”هكذا تواصل هذه الحكومة (الفرنسية) تطبيق سياستها الاستعمارية القديمة هذه المرة ضد مواطنيها المسلمين المولودين على أراضيها حيث أن الأمر من قبل كان ضد المُستعمَرين من الشعوب الأجنبية الأخرى..”

صيحة إنذار واستغاثة إلى كل مسلمي العالم وأحراره:

إن تعليقنا اليوم على هذا الخبر هو بمثابة صيحة إنذار واستغاثة إلى كل مسلمي العالم وأحراره، وإلى كافة الأنظمة السياسية في العالمْين العربي والإسلامي وكذا الانساني، كي يقفوا وقفة رجل واحد في وجه سياسة الاذلال والتهميش والإقصاء التي تنتهجها فرنسا ضد المسلمين. هذه السياسة الإقصائية التي تتجسد- من بين أمور أخرى- في َسن قوانين مستهدفة للأسرة عموما ولشريحة المسلمين بالذات، كما ذكرنا ذلك في مقالنا الأسبوع الماضي، الموسوم (الأسرة في أوروبا وتحديات مشاريع قوانين المثلية الجنسية)، وخاصة فئة النساء، اللواتي يُمنعن – باسم العلمانية – من حقوقهن الأساسية في العمل والتعليم.. عبر تحريم ارتداء الحجاب الإسلامي في الأماكن العمومية، وعبر التضييق عليهن في الإدارات والمستشفيات وشتى مرافق الحياة العامة.. أريد من خلال هذا الكلام أن يكشف النقاب عن وجه فرنسا الحقيقي؛ لكي يراها العالم دون “روتوشات” ولا مساحيق، ولكي يتعرف المسلمون على حقيقة ما يعيشه إخوتهم في هذا البلد من مضايقات ومراقبات وخنق للحريات وتعذيب نفسي مهين… ولكي يطلع المسلمون أيضا على تطور دين الإسلام ونموه المتزايد في هذا البلد الأوروبي العتيق..” 

فالإسلام كدين يوجد في المرتبة الثانية على مستوى الجمهورية الفرنسية بعد الديانة الكاثوليكية. فلم يعد المسلمون أقلية في فرنسا كما كانوا أيام الستينات. بل يصل تعدادهم اليوم إلى ما يناهز ستة ملايين مسلم وبعض المصادر تقول 7 الى 8 ماليين. وعدد المساجد يصل إلى 2449 مسجد حسب أرقام وزارة الداخلية الفرنسية نفسها لسنة 2012. فالجالية المسلمة في فرنسا هي أكبر جالية دينية في أوروبا الغربية بأسرها. ورغم أعدادهم الكثيرة المتزايدة.. ورغم اندماج أغلبهم في المجتمع، فإن المسلمين لا يزالون يعانون من رفض شامل من طرف الدولة وشرائح من المجتمع على حد سواء.

وفي السنوات الأخيرة أمسى الاسلام يشكل مشكلة اجتماعية مؤرقة للساسة وصناع القرار الفرنسيين.. فكل الخطابات والنقاشات والبرامج السياسية ترّكز بشكل لافت على الجاليات المسلمة، وعلى دين الإسلام بالتحديد، فتعتبره خطرا محدقا بالقيم والمبادئ الفرنسية. وتشتد شراسة السياسيين تجاه المسلمين في مثل هذه الأيام أي في فترات الحملات الانتخابية الرئاسية، أو النيابية، والبلدية، والجهوية …

فيتردد في خطابات القوم عبارات تشيطن الإسلام من قبيل: الإرهاب الإسلامي، والحجاب الإسلامي، والمسلمات الخاضعات، وعدم ملاءمة الإسلام مع “قيم الجمهورية” .. بل يذهب بعضهم إلى التلويح بغلق المساجد حتى “المعتدلة”، وطرد الأئمة والدعاة، وحظر الحجاب في الأماكن العمومية..

ترسانة الاعلام تؤلب الناس على المسلمين وعلى العرب تحديدا:

وفي معمعة هذه الهجومات، تتدخل على الجبهة ترسانة وسائل الاعلام الكبرى وأغلبها يملكه رجال أعمال صهاينة فكرا وسلوكا مثل قناة ” بي أف أم تي في”، وقناة ” أل سي إي” الإخباريتين وغيرهما، بغض النظر عن مواقع الصحافة الورقية كجريدة لوبوان، ولوكسبريس وماريان وأخواتهم.

( BFM TV, LCI TV, Le Point, L’Express, Marianne Magazine, .. )

فتوقد النار على دين الإسلام، وتؤلب الناس على المسلمين وعلى العرب منهم بالتحديد؛ فتصورهم على أنهم إرهابيون، ومتوحشون؛ فلا يكاد يمر يوم إلا وتتناقل التلفزيونات والاذاعات الفرنسية أخبارا وتقارير بشأن المسلمين، تحرّض المجتمع الفرنسي على عزل هذه الفئة من المواطنين باعتبارها طائفة متطرفة إرهابية تهز السلم والأمن الاجتماعيين… لتنتشر الاعتداءات الجسدية والنفسية على المسلمين في الشوارع والمدارس.. وعلى واجهات المساجد والمراكز الثقافية وفي العمل وفي المطارات والقطارات وفي الباصات وفي شتى وسائل النقل العمومي.

 ولقد تصاعدت الأعمال المعادية للمسلمين إلى نسبة 40 في المائة – حسب بعض الاحصائيات- في مؤسسات الدولة وحدها كالمدارس والمستشفيات والإدارات والبنوك وغيرها. ومع مرور الوقت واحتدام الحملات الدعائية الإعلامية ضد مسلمي فرنسا، تأقلمت بعض” أذهان الفرنسيين” على الكراهية والحقد؛ فأصبحوا يصرحون علنا أنهم يكرهون المسلمين ويعتبرونهم عدوانيين، هدفهم فرض معتقداتهم الدينية ونمط حياتهم على الآخرين.. وهذا ما أكدته شتى الدراسات الإحصائية العديدة (تقارير مجمع محاربة الاسلاموفوبيا) متسترين بقوانين دبّجها نواب ” الجمهورية” وصادق عليها البرلمان ومررتها الحكومة.. مثل، قانون حظر الحجاب وحظر النقاب، وقانون حظر الحاضنات المسلمات من لبس الحجاب في البيوت اللواتي يعملن فيها، وقانون طرد المنقبات من التراب الفرنسي، ومثل قانون التخابر والتنصت على الناس، وكذا قانون محاربة الإرهاب، وكذا مرسوم تحريم التعاطف مع بعض الحركات العالمية المناضلة من أجل فلسطين وكحركة مقاطعة بضائع إسرائيل… وغيرها من القوانين والمراسيم القاتلة للحريات العامة…..

فرنسا قد تقهقرت إلى طور الدولة الشمولية :

وستظل هذه القوانين وصمة عار في جبين الجمهورية الفرنسية، ودليلا واضحا على تقوقع فرنسا وانغلاقها على ذاتها، وخوفها من الآخر… وبالتالي تكون فرنسا قد تقهقرت إلى طور الدولة الشمولية وأضحت أشبه ما تكون بجمهورية سوفييتية عتيقة؛ وأصبح أهل الأديان في صراع مرير مع القوى العلمانية المتطرفة، وأضحى القمع الفكري والأدبي شائعا لكل من ينطق بكلمة حق… فمن تكلم عن الشأن الفلسطيني أو انتقد السياسات الاجرامية الصهيونية أو أبدى تعاطفا مع المسلمين أو كتب كتابا نّوه فيه بشأن الإسلام أو عمل مسرحية ينتقد طائفة متطرفة أو يشجب خطورة الفكر الصهيوني المسيطر في فرنسا.. فإنه يعاقَب، وتصادَر كتبه، وأعماله الفنية، بل ويحاكم في المحاكم ويصَّور في أجهزة إعلامهم على أنه مجرم حقيقي معاد لـ”الإنسانية”.

بينما ثمت آخرون – صحفيون و ُكتاب، ونواب وشيوخ، وفاعلون في المجتمع المدني – يكتبون المقالات، وينشرون الكتب، ويشرّعون القوانين، وينشطون في الهجوم على دين الإسلام، وعلى رموز الحضارة الإسلامية وتاريخها.. بل إن بعضهم يعملون على تشويه المساجد وقاعات الصلاة عن طريق كتابة عبارات نابية مخلة بالآداب العامة على واجهاتها، ويعتدون جسديا ونفسيا على المسلمين .. ومع ذلك لا يُشار إليهم بالبنان ويُترك لهم الحبل على الغارب باسم حرية التعبير..ويتستر الإعلام عليهم، فالا يحاكَمون، ولا تقوم السلطة بأي تحقيق للبحث عن الجناة وإحقاق العدل. رغم كل هذا الهجوم المستعر، وهذه الحرب النفسية الممنهجة التي يتعرض لها المسلمون في هذا البلد، فإنك تندهش لهذا الصمت الآثم المطبق الذي تمارسه بعض المؤسسات الإسلامية الرسمية في فرنسا كمسجد باريس ومسجد ليون ومن على شاكلتهم، وكذا المؤسسات والبعثات الديبلوماسية العربية والإسلامية..

و تعاونوا على البر والتقوى :

إذا كانت وحدة العمل الإسلامي في فرنسا من المطالب الملحة اليوم عند كثير من الدعاة الذين بدأوا يتحسسون مواطن الخلل ومواطن القوة عند المسلمين في الغرب، وإذا كان هذا المطلب مما يأمر به الدين ويحث عليه لأنه من التعاون على البر والتقوى، فإنه يزداد إلحاحاً في هذه الأيام التي تجري فيها تغيرات في العالم لم تكن بالحسبان ولم يتوقعها أحد؛ انهيارات في الكتل الشرقية، وتنازلات كثيرة في سبيل التقرب من هذا الغرب، الذي يمتلك التقنية والمال والسيطرة السياسية، فمن يقف في وجه هذا التكتل على الأقل من الناحية الحضارية والعقائدية؟ مَن مِن شعوب العالم الثالث يملك هوية واضحة، ومنهجاً متكاملاً؟ لا يوجد سوى الإسلام، ومن المفترض أن يقود الشعوب الإسلامية العلماء والدعاة، وإذا كانوا غير مؤهلين لذلك ولم يستطيعوا الجلوس على مائدة الحوار والتعاون فيما بينهما فلمن تترك الساحة؟..

آية عظيمة ينبغي على المؤمن أن يستحضرها في أوقاته كلها، وشؤونه كافة، في الشرق كما في الغرب، وخاصة إبان نزول الشدائد العظام كما هو الحال اليوم، ووقوع المصائب الكبار، وهي قوله تعالى: {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (يوسف:21)، إنها آية مفتاحية تفيد أن مرجع الأمور إلى الله تعالى، ومبدأها من الله سبحانه.. جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن كيد إخوة يوسف عليه السلام له، فأبطل سبحانه كيدهم، وأرادوا شيئاً، وأراد الله شيئاً آخر، وصدق سبحانه القائل: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} (الأنفال:30)

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version