هو زائر كريم غادرنا منذ أيام. ننتظر قدومه كل سنة، فيأتينا على عجل.. وكذلك يغادرنا على عجل. وكأنه بتصرّفه هذا يودّ أن يبقى دائمًا ذاك الضيف العزيز في نفوس مضيفيه، فلا يُثقل عليهم ويترك لهم شوق انتظاره متجددًا في كلّ مرّة.

إنّه شهر رمضان الكريم الذي للأسف الشديد لم تُحترم له حرمة هذه السنة. كيف لا ونحن أينما ولّينا وجوهنا يُمنة ويسرة نرى ونعيش ظلمًا وعدوانًا على شعوب منطقة؟! شعوب لا يكاد يندمل لها جرحٌ، إلاّ ويُشجّ ثانية. وكأنه قد قُدر لهذه الشعوب أن تشطر قلوبها شطرين. شطرٌ يملؤه حال حاضرها ألمًا، وشطرٌ تَملؤه هي أملًا، إيمانًا منها ويقينًا بغد أفضل! فنرى الألم والأمل بالنسبة لها قد أصبحا رفيقي درب، نهايته جلب الحرية ونبذ الظلم والجور عنها.

في الشرق هي فلسطين الحبيبة، التي لا تزال تعاني تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي، وما يصاحبه من عدوان في كل مرّة. آخره تزامن مع الشهر الفضيل. أمّا غربًا فهي الجزائر المستقلة رسميًا من احتلال فرنسي غاشم، المحتلة ضمنيًا من طرف طغمة عسكرية، مدعومة من قوى أجنبية، أبت إلاّ أن تكون عميلة لهذه القوى، على أن تأخذ بيد شعبها ويمضيا قُدمًا من أجل بناء جزائر أفضل. أزيَدُ من سنتين مضتا منذ أن قرّر الشعب الخروج مسالمًا، متوحدًا في إطار تنوّعه الكبير، لنبذ الظلم عنه وعدم الرضوخ لواقع مُزيّف. واقع يعمل كل مستفيد من منصب أو مكسب مادي على ترسيخه.

بدءًا من أواخر رمضان إلى يومنا هذا قرّرت السلطة في الجزائر نهج درب العنف والقمع وشدّ الخناق عساها أن تردع سلمية شعب يُردّدها ولا يملّ تكرارها، وكذلك كسر ثباته من أجل استرجاع حقه في إقامة الدولة المدنية. حقّ أوّل من اغتصبه من أبناء هذا الشعب هم أبناء جلدتهم من الذين اتّخذوا من البدلات العسكرية عاصمًا من كل خطأ ومن رُتبها المتراصة درعًا حصينًا من كل محاسبة. استكبروا على شعوبهم فغلبهم هوى نفوسهم على تحكيم ميزان عقولهم وكذلك الاستشهاد بعدول ضمائرهم. وكأنهم يرون في تجسيد صورة فرعون لهذا الزمان أسمى مثال يُحتذى به وأعظم إنجاز يمكن تحقيقه. أمّا عصاهم الضاربة في قمع وتعنيف وإهانة كل حرّ، هم بعض أبناء الشعب نفسه، من شرطة ودرك ومثيلاتهما من القوات ممّن يعانون مع الأسف معاناة الشعب نفسه! وكأنهم بتصرّفهم هذا لا يعلمون أنّهم يجسّدون دور جنود فرعون الذين لم يستثنهم التاريخ من طغيان فرعون.

لذلك أوجّه كلمتي هنا لكلّ ابن من أبناء الجزائر، ممّن التحق بسلك الشرطة أو الدرك أو غيرهما من القوات سواء كان حبًا في المهنة ذاتها، أو هي الحياة من دفعت به ليكون كذلك. ولا أستثني مِن ذلك من هم حرّاس في السجون على المعتقلين من الأحرار. أخي.. إنّ بلادنا تشهد مخاضًا مصيريًا، قد بدأه عامة شعبها ولك أنت وحدك أن تحدّد مساره وتقرّر مدّته. إخوانك وأخواتك الذين يخرجون مسالمين، لم يخرجوا لمطلب شخصي غير شرعي فيقابلهم منك كل ذلك العنف والحقد والزجر. وإنّما هو يطالبون بإقامة دولة العدل والحق والقانون، التي من خلالها يعمّ الخير على الجميع. إن كنتَ غير قادرٍ على اللحاق بركبهم، فلا تكن على الأقل عصا في يد طاغية مستكبر، بالنسبة له أنت وغيرك سواء. أمّا إن كانت قد اختلطت عليك الأمور والتبست، ربما بفعل ما أفهمك إياه قادتك من نظريات المؤامرة أو ثقافة القطيع، فلك أن تنظر جيدًا في عيون من تُعنّفهم وترفع عصاك في وجوههم من آبائك وأمهاتك وإخوانك وأخواتك المسالمين.. هنالك ستجد الجواب الكافي. ولتعلم أنه ما كان لظلم أن يدوم ومن يعانون تبعاته مُصرّون على مواجهة الظالم. وأنّه ما زاد النصر والحرية قيمة أكثر من تضحيات مناضليها. وأنّه ما زاد أحرار المناضلين إصرارًا على نصر قضيتهم أكثر من شدة قمع جلاديهم. وأنّه ما أطال عمر طغيان الطغاة أكثر من طاعة وموالاة جنودهم. في الأخير.. لك أخي أن تختار الرفعة بسلك درب الحق فتعيش حرًا ويُخلّدك التاريخ بطلًا؛ أو أن تختار الذِّلة والمهانة بسلك درب جنود فرعون، فتكون لك عاقبة الظالمين ويُحلّ عليكما التاريخ لعنته أبد الدهر.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version