نتذكر جميعا قبل 22 فبراير 2019، وطيلة أكثر من عقدين من الزمن، تلك الجريمة النكراء التي كان يتهم بها كل محتج على الوضع الراهن، مهما كانت طبيعة احتجاجه، فيحاصر بها، ويسلسل بها، وتلقى عليه سخنة ملتهبة “إنه يمارس السياسة”!!

وكان يكفي أن تصدر التهمة “يمارس السياسة”، ليستحق صاحبها جزاءه المحتوم، بل ويعتبر محظوظا إذا نجا من غياهب السجن. كان ذلك أمرا شائعا، يجري على أوسع نطاق، حتى كان يصبح من المسلمات، التي لا تقبل أي جدال، او اعتراض من احد، بعد ان رسخوا في أذهان الناس، ان السياسة جريمة يُعَاقِب عليها القانون، ليلتحق جوقة فقهاء البلاط، ويفتي بأنها نجاسة لا يجوز “للمواطن” الاقتراب منها بتاتا. في ظل هذا الوضع، أصبح المواطن يجد نفسه مجبرا على أن يحلف أغلظ الأيمان، للتنصل من هذه “الفرية النكراء” تبرئة لذمته، ويؤكد أن احتجاجه، اجتماعي بحت، مهني خالص…حتى جاء حراك 22 فبراير 2019، وأصبح الشارع يغص بالمواطنين، بعد كسره الطوق المفروض عليه، وتحرير نفسه من “الحظر” السياسي الفعلي، فيتحوّل الشعب برمته، كتلة سياسية، وكأنه ينتقم من الذين حرموه من حقوقه المشروعة، ومن سيادته، ويتحدى الذين اختزلوه بازدراء في مجرد بطن يزحف على الأرض (ما قال سيء السمعة، جوّع كلبك يتبعك)، لا حق له سوى النزر القليل من العلف الذي يبقيه على قيد الحياة فحسب.

في 22 فبراير 2019، خرج الشعب بمطالب سياسية رغم أنف من حرمه من حقه، وهدده بالعشرية إن لم يعد إلى البيت، أو بسوريا وليبيا واليمن…ومن غمز في اتجاهه بالقول، تبدأ بالزهور وتنتهي بالقبور، لكن هيهات، طيلة سنتين، ظلت الزهور تُحصِن الشعب من القبور، حتى سنة من تعليق المسيرات قرابة سنة، بسبب جائحة كورونا، لم تطفئ شعلة الثورة السلمية لتي انطلقت في 22 فبراير.

كلنا لاحظ أن منذ عودة الحراك، بعد موجة كورونا الأولى…أصبحت مسيرات الشعب تقلق الساسة، لأنها لم تعود إلى البيوت، بعد “أن تحققت مطالب الحراك المبارك”، وأنجبت لنا تبون “رئيسا” واستفتاء على دستور والإعداد للتشريعات المقبلة، فأصبحنا نسمع من منابر شتى، تارة أن الحراك مخترق، وتارة أخرى مهدِد للأمن وسلامة البلاد، وأن يدا خارجية تسيره، أي بعبارة أخرى لم يعد مباركا، فعدنا من جديد إلى “عادة حليمة القديمة”، إلى “تجريم” ممارسة السياسة، أي كما يقال، الطبع يغلب التطبع، لأن ببساطة لا تزال العصابة مسكونة بنفس البرمجية، وتصرفاتها المتسارعة منذ أسابيع، تبين لنا ذلك بوضوح.

لماذا أذكركم بهذا الأمر؟ لأنني شعرتُ بمساعي العصابة الحثيثة للعودة إلى أساليبها المألوفة، وعلى رأس ذلك، “تجريمها” كل ما هو سياسي وتنظيمي، خارج أطرها الرسمية، وبرخصة واعتماد من داخليتها وتوابعها، مثلما بينته على سبيل المثال نشرة الثامنة على قناة الرسمية، قبل بضعة أيام

من جملة ما جاء فيها:

  • ·         “…يُعلِم وكيل الجمهورية لدى محكمة وهران، الرأي العام، أنه بتاريخ 23 أفريل الماضي، في حدود الساعة الثانية زوالا، تم تسجيل تجمع أشخاص بساحة أول نوفمبر بوهران

وهكذا، بقدرة قادر، أصبح تجمع أشخاص في ساحة عمومية جريمة؟ وكأنهم يتحدثون إلى شعب غير الذي خرج في 22 فبراير، قبل سنتين، بالملايين في كافة ساحات ومدن البلاد، من دون إذن أو طلب رخصة من أحد، للتعبير عن مطلبهم في التغيير؟ هل نعتبر إذن أن خروج هؤلاء الملايين غير شرعي وغير قانوني، بأثر رجعي، ونعتبر تباعا، أن “انتخاب” تبون نفسه، غير “شرعي” بقوانينهم (لأن الشعب أصلا يعتبره مزور جابوه العسكر) بما أنه نتاج هذه التجمعات غير القانونية؟

  • يضف تقرير النشرة “وبعد توقيف شخصين، تبين أن أحدهما له علاقة بحركة رشاد المعادية للنظام، بصفته عضوا ومسبوقا قضائيا في قضية إهانة لهيئة نظامية، نشر عمدا وبأي وسيلة كانت أخبارا وأنباء كاذبة، من شأنها أن تمس الأمن العمومي، وجنحة التحريض على التجمهر غير المسلح

متى كانت العضوية في رشاد أو أي تنظيم سياسي جريمة؟ ومتى كان معارضة النظام، جريمة، ألم تخرج هذه الملايين من الشعب، إلا تعبيرا عن معارضتها بل وإدانتها الواضحة للنظام والمطالبة بوضع حد له ومحاربة الفاسدين فيه؟ ألم يصف الجزء المنتصر من العصابة، الجزء الآخر، بالعصابة، وزج ببعض أقطابه السجن؟ ثم أليس مهمة ووظيفة المعارضة أن تكون…معارضة ومعادية للنظام القائم؟ وهل أخفت رشاد يوما أنها معادية لمنظومة الحكم برمته، وللدولة العسكرية المخابرتية الجاثمة على صدر الشعب؟ إذن اين الجديد، وأين الجريمة؟ أليست معارضة نظام العصابة من صميم الممارسة السياسة، التي افتك الشعب حقه لممارستها، بعد ان حرم منها عقودا طوال؟ أما بنسبة تهمة التحريض، أليس الحراك أصلا تحريضا للتجمهر السلمي من أجل التغيير، وهو ما تدعو إليه رشاد وغيرها، ولم تخفيه يوما، بل تتشرف بالدعوة إليه، في إطار نضالهم التغييري السلمي؟

  • يواصل التقرير “وبعد التحريات تبين أنه كان سيتم عقد اجتماع سري بتاريخ 24 أفريل بحضور عدة أطراف من عدة ولايات، لتعيين المنسق الجهوي لحركة رشاد في الجهة الغربية وكذا للتعارف بين الموالين للحركة

رغم أن ما أورده تقرير جهاز توفيق لا أساس له من الصحة ومجرد دعاية ومحاولة تخويف من…ممارسة السياسة، لنا أن نسأل مع ذلك، وأين المشكلة، وما دخل التلفزيون ونشرته، أقصد، القائمين عليه من بن عكنون، في أن يلتقي مواطنون للتنسيق بينهم، وتنظيم صفوفهم، طالما أن هذا يدخل في صميم العمل السياسي السلمي وحق التجمع والتنظيم في دولة العدل والقانون؟ لكن ما يستشف من هذه “التهم” هو نفس التفكير المتكلس، والرعب الذي يمتلك العصابات، من أي عمل منظم بين المواطنين، خارج سيطرة أجهزتهم، ولا يتحكمون في خيوطه، ومن ثم يعتبرون ويتهمون كل اجتماع بين مواطنين، لا يتم بإيعاز وتنظيم منهم، هو عمل غير قانوني، ومهدد للأمن والاستقرار، المقصود استقرارهم وأمنهم، وليس استقرار الشعب وأمنه.

  • نختتم بهذا الشطر الأخير من التقرير “كما افضت التحريات إلى أن عملية تمويل الحركة تتم من خارج التراب الوطني، كمساعدات مالية لدفع الغرامات المالية الخاصة بالمحاكمات وكذا تنشيط الحراك وتصعيده والتحضير لاجتماع وطني بحضور كافة الأطراف المعادية للنظام…”

يتحدثون عن التمويل من خارج التراب الوطني؟ أولا، يتعمدون التعميم والضبابية من اجل التضليل عندما يقولون “الخارج” للإيحاء باليد الخارجية، وهم يعلمون، والجميع يعلم، أن الخارج هنا، هم جزائريون، أشقاء لإخوانهم في الداخل، يمدونهم بيد المساعدة قدر المستطاع من حلال مالهم، فلا هو من أموال البترول المنهوب ولا العقارات ولا بسائك الذهب، بل مقتطع من رواتب عرق جبينهم، هل مساعدة جزائريين في الخارج لإخوانهم جريمة، خاصة إذا كان لمساعدتهم على دفع غرامات ظالمة من نظام غاشم، ومساعدة أسر، حرم أهلها من المعيل، ثم، هل يحق لنظام جنرالات فاسدين غارقين في نهب أموال الشعب بالملايير الدولارات وتهريبها في حسابات أجنبية، أن يتهموا من يوّفر بضعة يوروات من حلال ماله، لمساعدة المقهورين الأحرار لسد رمق أبناء المطحونين الذي زادتهم العصابة ويلات فوق ويلاتهم؟

خلاصة القول ومربط الفرس، من كل ما ورد في نشرة “جزائر الثامنة”، أنها لا تطيق أي عمل من مواطنين يفلت عن هيمنتها وإشرافها وابتزازها.

لكن للأمانة والإنصاف يجب علينا القول إن ضمن ما جاء به التقرير جزء صحيح، لا ننكره، وفي مقدمة ذلك، أن رشاد بالفعل معادية لنظام العصابات، مثلها مثل السواد الأعظم من الشعب الذي يخرج في مسرات الحراك طيلة سنتين، ولم تخف ذلك يوما، وهذا حقها وحق غيرها، بل إنه يشكل عمود نشاطها في مجال التغيير السلمي، ومن صميم العمل السياسي؛

ثانيا، نعم تسهم رشاد، مع غيرها من المواطنين المغتربين، وفي الوطن، هم كثُر بحمد الله، في مساعدة إخوانهم الغلابة في البلاد، سواء لدفع الغرامات ومساعدة الأسر المحتاجة حسب ما تتمكن جمعه من المحسنين، ولا تخفي ذلك، بل هي تهمة تؤكدها وشرف لا تدعيه؛

لكن، جوهر المشكلة الذي يبرز في نشرة “جزائر الثامنة”، هو هلعها من اجتماع المواطنين الأحرار، والنقاش فيما بينهم، دون وصاية أو إذن من أحد، وهذا ما لا تطيقه العصابة التي ألفت “العمل السياسي”، و”الجمعوي” و”الحزبي”، فقط، الذي تقره هي، وتعتمده (من هنا نجدها تصر على مرور أي تنظيم بترخيص من داخليتها) لكي تؤطره، وتمّوله، وتبتزه، وتوعز إليه، أي تتحكم فيه، من التهديد إلى الشكارة، وهي التي أطرت المجتمع كله، منذ 62، حكومة، ومعارضة (في عهد التعددية) وما سمي بالمجتمع المدني، الذي لا يعدو كونه ضباط وضابطات مخابرات بواجهة جمعوية، وثقافية، وإعلامية، ونِسوية، ورياضية، وموسيقية أو ما شئت، إلا ما رحم ربك، وتموّلها وتأتمر بأوامرها، مثلما استحوذت، على الهلال لأحمر والكشافة الإسلامية، فضلا عن احتواء كافة المنظمات الجماهرية من منظمة المجاهدين UNMA، والفلاحين   UNPAوالطلبة UNEA والنساء UNFA والشباب  UNJAالنقابة UGTA، وجعلت منها دكاكين، المشترك بينها، انها لا تحيد قيد أنملة عن خط السلطة الفعلية، إلى حد لاحظنا في العديد من المرات أمور غريبة ومفارقات عجيبة  من قبيل “انسجام” مطلق بين المركزية النقابية وأرباب العمل، على حساب العمال، الذي يفترض أن نقابتهم، أنشئت للدفاع عن مصالحهم وحمايتهم مما يعانونه من تعسف الباترونا.

أمرٌ غريب؟ كلا، إنه من صلب “منطق” وآليات، وممارسات، المنظمة الإرهابية في دولة المافيا العسكرية.

تعليق واحد

  1. تقبل الله صيامكم و قيامكم أهلنا في المهجر ، مثلكم مثل إخواننا في القدس المرابطين حول باحات الأقصى الشريف ، و ألهمكم الرشد و السداد ، عيدكم مبارك إن شاء الله .

Exit mobile version