من أصداء اعلام جمعية العلماء في الخارج .. من شهاب بن باديس في المغرب الى شهاب البنا في المشرق  

محمد مصطفى حابس : جنيف / سويسرا  

كلما عادت بي قراءاتي لتاريخ واثار جمعية العلماء المسلمين في الخارج، الا واستوقفتني ذكرياتنا مع شيخنا العلامة محمود بوزوزو من تلاميذ بن باديس، ومن مؤسسي الكشافة الاسلامية الجزائرية في أربعينيات القرن الماضي،  وأول أئمة سويسرا قبيل بداية الستينات، وذكريات المركز الإسلامي بجنيف الذي يعد من أعرق مساجد المهجر قاطبة حيث افتتحت أبوابه رسميا عام 1961، ولسان حاله يومها مجلة «المسلمون» الدولية العريقة، التي كان شيخنا بوزوزو من أبرز أقلامها، تحت رئاسة تحرير شيخنا العلامة الدكتور سعيد رمضان، رحمهما الله، وهنا أعود لأرشيف مجلة «المسلمون»  بمناسبة الذكرى التسعين لميلاد جمعية العلماء، وتحديدا في العدد السابع / شهر ابريل 1964، والعددان التاسع والعاشر من نفس السنة، لأنقل للقارئ الكريم، فضل الله وفضل جمعية العلماء و رجالها على أشقاء الدعوة في المشرق عموما وفي مصر الحبيبة تحديدا، في عهد الامام البنا، رحمه الله، لما كانت «المسلمون» تصدر في المشرق وكذا بعدها في سويسرا.  

ففي ركن “مع صحافتنا الإسلامية “، كتب الشيخ يحي باسلامة – حفظه الله- المحرر بمجلة «المسلمون» العدد 9/10، ص 85،  تحت عنوان “عبد الحميد بن باديس”، ما يلي:  

قد يذكر قراء «المسلمون» الذين شهدوا مولدها في القاهرة قبل اثني عشر عاما، أن رئيس تحريرها قال عنها في افتتاحية عددها الأول: “و«المسلمون» ليست إلا قبسا من أقباس هذا « الشهاب » تقفو أثره و تعيد في الناس سيرته في خدمة دعوة القرآن و تجلية فضائل الإسلام.. “وهو إنما عنى بذلك مجلة «الشهاب» التي أصدرها الإمام الشهيد حسن البنا، رضوان الله عليه، و التي أشرف هو على إدارتها وأسهم في الكتابة لها، وصدر منها خمسة أعداد فقط، لم يلبث أن أحاطت بالإمام وبإخوانه وتلامذته بعدها محنة الأذى والتشريد والاغتيال والغدر، فمضى إلى ربه شهيدا عزيزا في سبيله و في خدمة دينه. على أن الافتتاحية التي سجلت قبل ذلك – في سياق نص افتتاح « الشهاب » القاهرية الذي قدم به الإمام الشهيد أول أعدادها – هذه السطور: ” … كما قامت مجلة « الشهاب » الجزائرية التي كان يصدرها الشيخ الجليل عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – في الجزائر بقسط كبير من هذا الجهاد، مستمدة من هدي القرآن و سنة النبي العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم. وإنا لنرجو أن تقفو « الشهاب » المصرية الناشئة أثرهما، وتجدد شبابهما، وتعيد في الناس سيرتهما في خدمة دعوة القرآن وتجلية فضائل الإسلام، على أن الفضل للمتقدم وفضل السبق ليس له كفاء، والله المسؤول أن يحقق الآمال، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا .آمين ..”  ثم أردف بقوله: ” .. لذلك أسعدنا أن نقع في مجلة «المعرفة » الجزائرية ( العدد العاشر، السنة الأولى، ذو الحجة 1383) على هذا المقال عن الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله رحمة واسعة يستعرض تاريخ حياته وجهاده الميمون- بقلم الأستاذ المحامي حمزة بوكوشة، وهو ذا:   

.. وبدأ في سرد السيرة الذاتية للإمام بن باديس باقتضاب في 10 صفحات، من المجلة (85 /94) !!  

 وفق المحاور التالية:  

ولادة عبد الحميد بن باديس ونشأته – تعلمه – هجرته في طلب العلم – سفره الى المشرق – مباشرته للتدريس– انشغاله بالصحافة – محاولة اغتياله – مكانة الشهاب – عبد الحميد ونادي الترقي – عبد الحميد رئيس جمعية العلماء – طريقته في الاحتجاج على الحكومة – عبد الحميد بن باديس والمؤتمر الإسلامي – وفد المؤتمر الى باريس – شبح الحرب الأخيرة وأثره في نفس عبد الحميد – تفكيره في الثورة – طريقته في العمل – صموده وثباته الى أن مات.  

مكانة « الشهاب » المرموقة في الشمال الإفريقي: 

و قد أفرد الأستاذ المحامي حمزة بوكوشة، مجلة « الشهاب » (الجزائرية)، دون غيرها من إصدارات الجمعية، بالذكر والتفصيل، حيث وضعها في فصل خاص، تحت عنوان : مكانة « الشهاب »، وقال :” للشهاب مكانة مرموقة في الشمال الإفريقي ، فما زلت أذكر أن الشيخ مصطفى بن شعبان بتونس رحمه الله، كان يكتب في جريدة « الشهاب » ويعمل على نشرها. كان يكتب فيها من المغرب الأقصى ويعمل على نشرها علال الفاسي والفقيه غازي وغيرهم من شباب الأمس وشيوخ اليوم، وأذكر أن مما نشرته « الشهاب » اذ ذاك للشاب السيد علال قصيدة  طالعها : أبعد مرور الخمس عشرة ألعب ؟ ..  

وذلك في سنة 1927 “وقد استحالت الشهاب من جريدة أسبوعية إلى مجلة شهرية فكانت سجلا لتاريخ الجزائر العلمي والسياسي في عصر الانبعاث أو في الفترة التي كانت بين الحربين الحرب الكبرى والحرب الأخيرة، وكان يحرر فيها فصل 🙁في المجتمع الجزائريأحمد توفيق المدني غالبا و يحرر فصل (الشهر السياسي) دائما، و يحرر عبد الحميد (ابن باديس) القسم الديني والقسم العلمي من المجلة وأهمهما مجالس التذكير التي تسعى وزارة الأوقاف (الجزائرية) حاليا في جمعها ونشرها كما تولت طبع ونشر مجموعة دروسه في علم التوحيد على الطريقة السلفية”..   

صمود الامام بن باديس و ثباته الى أن مات: 

وقد كتب الأستاذ المحامي حمزة بوكوشة، في الفصل “حول محاولة اغتيال الامام بن باديس“، حيث كتب:” في سنة 1928 بينما هو متجه الى سكنه بعد خروجه من درس التفسير ليلا، إذا بأحد الجناة يحاول اغتياله، فاستغاث الشيخ، فألقى الناس القبض على الجاني قبل إتمام الجريمة، فهنأ الشعراء الشيخ بالنجاة ما زلت أذكر، طالع قصيدة محمد العيد (آل خليفة): حمتك يد المولى وكنت بها أولى … فيا لك من شيخ حمته يد المولى.  

و في المحور الأخير من الملف حول “صمود الامام بن باديس و ثباته الى أن مات“، كتب الأستاذ المحامي حمزة بوكوشة، رحمه الله : ” حاول الفرنسيون أيام الحرب أخذ مدرسة التربية والتعليم وإحلال اللغة الفرنسية فيها محل اللغة العربية فقال لهم:” لا أسمح بهذا حتى أموت دونه، فحاولوا الحصول منه على كلمة يشم منها رائحة تأييد في حربهم مع الألمان فما استطاعوا. حتى أسلم الروح لباريها يوم 16 أفريل 1940، اثر مرض لازم فيه الفراش أياما معدودات، وحامت الأقاويل حول موته. فمن قائل مات مسموما ومن قائل انه مات موتة طبيعية – ولا يعلم الحقيقة الا الله – و ذلك شأن الناس عند موت العظماء” ..   

من تاريخ “الرجال”: 

و في ذات المصدر سالف الذكر، أي مجلة «المسلمون » السويسرية، و تحديدا في العدد السابع من/ شهر ابريل 1964، تطالعنا خاطرة بقلم رئيس التحرير ” الدكتور سعيد رمضان، زوج أمنا الحاجة بنت الامام حسن البنا”، الذي عاصر الامامين بن باديس وحسن البنا، رحمهما الله، كتب تحت عنوان (من تاريخ “الرجال”)، يذكر فيها بإنصاف كبير أولوا الفضل من عمالقة الرجال، و فضل أسبقية أقلام مجلة شهاب الجزائر على شهاب مصر، حيث كتب يقول:  

تاريخ المسلمين- حتى في أحلك عصوره- عامر بسير “الرجال” الذين جددوا لهم أمر دينهم، ووهبوا لهذا الدين خالصة نفوسهم وزهرة حياتهم، وبقيت سيرهم نماذج من أعز التراث للعالمين من بعدهم: يستوحونها، ويتعزون بأخبارها، ويصلون جهادهم بجهادها.  

ومن هؤلاء “الرجال” من كان مجيئهم على موعد مع ظروف تاريخية مواتية أحسنوا فهمها، والتفاعل معها، فاستطاعوا ركوب مدها الصاعد الى حيث أعزوا الإسلام  وأهله. ومنهم من قاد معارك التجديد في فترات ” الجزر” – حين استحكم طغيان العدو وفشت روح الهزيمة وانقطعت جمهرة الأمة، أو كادت، عن الشعور بذاتيتها المتميزة في محضن دينها وتاريخها وتراثها، فكانت مهمتهم تحديا كاملا  لتيار العصر، و إصرارا  باهرا على اثبات مقدرة الإسلام على استخلاص كيانه وتجديد شبابه واحقاق حقه رغم زخرف الباطل وصولة المبطلين.  

لما يمعن الاعتداء في تلبيس الحقائق وتزوير الوثائق : 

والتاريخ لهذا الصنف الثاني من ” الرجال” حقيق ان يكون أجل في العبرة، وأصعب في التوثيق :  

 أجل في العبرة لأن المسلمين اليوم في حالة ” جزر” لم يسبق لها في التاريخ مثيل – و ان لوح المسئولون عنها وعن عواقبها بشعارات الإسلام ولبسوا لباس الحريصين على جمع شمل أهله ومدارسة قضاياه، أصعب في التوثيق لأن الحركات التي قادها هؤلاء الرجال – في عهود الانتكاس وغلبة الباطل– قد حيل بينها و بين التحدث عن نفسها ودحض ارجاف أعدائها، بل قد أمعن هؤلاء الاعتداء في تلبيس الحقائق وتزوير الوثائق، كي يطمسوا معالم جريمتهم في الحاضر و المستقبل – كأنما لم يكفهم تضليل الاحياء فأحكموا ربقة طغيانهم حتى لا يفلت منها جيل يأتي من بعد، وكأنما سولت لهم سكرة البغي أن مسامع التاريخ – كمسامع المستضعفين– لا ينبغي ان تسمع إلا منهم، ولا يسوغ أن يبلغها إلا قولهم من دون الناس كلهم، اليوم وغدا و بعد غد !  

وتجلية الحقائق وتمحيص الوثائق عمل ضخم لا بد له من عنصر الزمن مع عنصر التحقيق التاريخي معا، وأصدق ما يصدق ذلك في الحركات الحديثة التي لا تزال ترزح تحت أغلال أعدائها الضارين في التلبيس والتزوير، مهما تسترت هذه الأغلال بغلالات من الشرعية المفتراة كذبا على الله والناس والتاريخ، ولكن عين الله لا يعزب عنها مثقال ذرة، ووعي الناس في مداه الممتد، عبر الزمان لا تحكمه سلطان بشر مهما بغى واستطال، ومرصد التاريخ الشاهق لا يلبث أن يكشف الخبيء ويحصي الشوارد والأوابد ويضيئ المعالم التي طمرها إفك البغاة الى حين.  

فلا عجب أن يعاني العاملون للإسلام من قلة ما أدركته جهود المؤرخين – الأمناء!- في تحقيق سير ” الرجال الكبار ” الذين تحدوا التيار و كابدوا ” الجزر” الغالب دون أن يواتيهم، إبان حياتهم، ” مد” سانح يركبونه إلى ما أرادوا – رغم كل ما بذلوا لإدراك ذلك من الكدح المضني والعرق والدم العزيز. والعجب لا شك أقل حين يتصل الأمر بقادة الحركات الحديثة التي لا يزال أعداؤها يعيثون عيث الضباع الهائجة في غابة تتغشاها غواشي الروع: من شرعة الغدر وهيجة النهم و لغة المخالب والأنياب. 

 و ظلم ذوي القربى أحز في النفس و أشد مرارة وأقصم للظهر : 

وإذا كانت سير هؤلاء ” الرجال الكبار” لا تجد ما هي جديرة به من التحقيق العلمي ولو الى حين، و يتأثر بذلك  جورها في ازجاء العبرة وتركيز الاسوة عند من يأتي  بعدهم من العاملين، فإنه لا يقل عن هذا التخلف آخر يقع فيه كثير من مؤرخي السير حين تشغلهم جوانب المعركة مع أعداء الإسلام ، وما تقلب عليهم فيها من صنوف الأذى والكيد والعدوان،  فيغفلون عما ابتلي قادة  هذه المعركة من اساءات  قومهم وبني دينهم  بل رفاقهم الذين أعطوا بيعة الولاء والجهاد، وهو جانب من الابتلاء  ما أكثر ما يكون  أحز في النفس و أشد مرارة في المعاناة  وأقصم للظهر – ذلك  أن نوازله  تدهم  المبتلين بها من حيث يظنون الحماية والأمن، وتفجعهم  في أعز ما يسكنون اليه – بعد فضل الله – من مشاعر الثقة والتناصر والوفاء بالعهد. وظلم ذوي القربى أشد مضاضة … على المرء من وقع الحسام المهند    

و أشد ما ينكب به ” الرجال الكبار” على أيدي  الذين عولوا عليهم في أمانة البلاغ وفي مكافحة عوادي السوء أمران :  

 أن ينتكس أفق الدعوة الفسيح المشرق في أفهامهم القاصرة فيستحيل الى عصيبات ما أنزل الله بها من سلطان، وأن ينتكس ولاؤهم لله والحق فتخالف بينهم الأهواء ويتنازعون على زيف الجاه و المتاع ..   

هذه خواطر تداعت الى نفس الشيخ الدكتور سعيد رمضان – رحمه الله – و هو يقرأ ، مذكرات من سبقه من مجددي هذا الدين كالإمامين بن باديس والبنا، وهما لا ريب من مجددي الإسلام في هذا العصر وهما من كبار الرجال الذين تحدوا التيار العارم، كل في بلده ضد الغزو الغربي، و ارسلوا في أوصال العالم الإسلامي رجفة لا يكاد يخلو منها مكان، ثم لم يكن استشهادهما الماجد، ومن معهم، الا راية الدم المسفوك تزكي المعركة، أما مستعمر غاشم وتلهب التحدي و توثق سمت الطريق الوعر الذي تأذن الله ألا يقدر عليه غير طلاب الشهادة العلماء الأوفياء الاصفياء.. ولسان حالهم يقول، يا جند الله عبر العصور، هذه أواصركم: بآصرة الروح تبقون اطهارا موحدين، و بآصرة الفكرة تبقون راشدين مسددين، وبآصرة التنظيم تبقون أقوياء متساندين.   أخلص الله الطوية، وألهم الرشد، وكان عليكم نعم الخليفة .. لهذا الحديث بقية، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version