محمد مصطفى حابس: جينيف/ سويسرا  

لقد عاد رمضان هذه السنة بنكهته تقريبا ككل سنة مضت، لينشر بيننا وأمام أبصارنا وبصائرنا صفحات مما تمَّ فيه من إنجازات أجيال سبقتنا، كما جاء مفصلا في التاريخ والقرآن والسيرة النبوية الشريفة، أنه:   

في رمضان أُنزل القرآن هادياً للناس وبينات من الهدى والفرقان،  

وفي الحادي عشر من رمضان عقد رسول الله ﷺ أول لواء للجهاد،  

وفيه من السنة الثانية للهجرة فرض الجهاد،  

وفي السابع عشر منه في السنة الثانية للهجرة كانت معركة بدر الكبرى،  

وفي الحادي عشر من رمضان السنة الثامنة للهجرة فتح المسلمون مكة،  

وفي رمضان من سنة 92 للهجرة فتح طارق بن زياد بلاد الأندلس،  

وفي رمضان سنة 658 للهجرة كانت معركة عين جالوت التي انتصر فيها المسلمون على المغول فوق أرض فلسطين؛  

وفي ذات الشهر رسمت الثورات الجزائرية المتعاقبة أنصع الصفحات التاريخية للتضحية، أمام عدو فرنسي غاشم متجدد، في مدة أزيد من قرن و 32 سنة.. كما يذكر ذلك في مقال مطول، أستاذنا الكبير، وسيد اللغة العربية دون منازع، العلامة الجزائري الأمازيغي، مازن المبارك حفظه الله، والمقيم اليوم في بلاد الشام.  

لقد كانت أيام رمضان ملازمة في تاريخ أمتنا الإسلامية للتضحية والبذل والسخاء والعطاء، مقترنة بالتوفيق والنصر، فهل تذكِّرنا اليوم تلك الصفحات الغرَّاء ونحن في مستهل أسبوعه الأول من عام 1442 هـ ، وهل يبعث في نفوسنا هذا الشهر الأمل على القدرة والعزيمة على العمل، وهل تحيي لياليه موات نفوسنا بعد ما عايشنا رحيل بعض إخواننا وفقدان أحبابنا جراء وباء كورونا الكاسح، وهل يبدِّد نور روحانيتها ما خيَّم على مجتمعاتنا من ظلم العباد للعباد و البلاد، وظلام الوباء الكالح  الذي لا يزال متفشيا لحد الساعة في أصقاع المعمورة، وهل تجلو روحانيات رمضان ما ران على قلوبنا من صدأ الأنانية وحب الدنيا رغم ما عيشناه من ألم وحصار وقفار و دمار في بعض دولنا الاسلامية !!  

 لعلك يا رمضان تعيدنا في لحظة صدق إلى ربنا، وتصحِّح صلتنا به سبحانه؛ لنعود مؤمنين طائعين بأنه لا ملجأ لنا إلا إليه، ولا شفاء إلا منه، فلا نخاف سواه، ولا نرجو سواه..!!   

لعلك يا رمضان تنقذ منا من اتخذ إلهه هواه، وكان هواه في منصبٍ يحرص على بقائه، أو مال يطمع في نمائه، فيؤمن أنه سبحانه وحده هو الذي يهب الملك لمن يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويُعزُّ من يشاء، ويذلُّ من يشاء، بيده الخير إنه على كل شيء قدير  

أجل يا رمضان لعل كل ذلك سيكون، أو بعض ذلك سيكون، وصدق الله العظيم ﴿والله شديد العقاب﴾[آل عمران:11  

هل لك يا رمضان أن تكون مدرسة لتغيير نفوسنا وأفكارنا كما غيَّرت (كورونا) كثيراً من عاداتنا وسلوكنا  

واليوم والحمد لله، فتحت أبواب مساجدنا، لترحب بضيوف الحمان، وعاد معها رمضان يشع بنور العبادة والتهجد والقرآن  

وعاد رمضان اليوم كما يعود النسغ أو الماء إلى الشجرة ليسقيها، وكما يعود الغيث إلى التربة ليرويها، وكما يعود الشتاء بخيره الفياض، وكما يعود الربيع بزهره الفواح، عاد رمضان بما فيه من خير وسكينة وفلاح.  

عاد ليجعل ظلام الليل مضيئاً يشع بنور العبادة والصلاة والتهجد والقرآن. عاد كما يعود الشتاء ليروي بخيره ما جفَّ ويبس من الأغصان، عاد ليذكِّر بالتسامح والعطف والحنان.  

عاد ليهب النفوس ما تحتاج إليه من سكينة واطمئنان وخيرية، عاد ليعلِّم الصبر والصمود والثبات في قمع العدوان،   

عاد ليخلِّص أبدان الإنسان من أدران وساوس الشيطان!!  

و قصد أنجاح هذا الموسم الروحي الرباني الجديد المتجدد، الذي نقلنا بعض عباراته بتصرف من مقال أنف الذكر، للعلامة مازن المبارك، حفظه الله، فقد وفق الله لجان مساجدنا في أوروبا على الاعتكاف لضبط صارم لكل خطواتها قصد استقبال محكم و تنظيم رشيد آمن للشهر الفضيل لما هو أهل له، لِكُلِّ يوم على حداه ولِكُلِّ ٱمْرِئٍۢ مِّنْا شَأْنٌ بذاته، بداية بقضية الإفطار الجماعي، هذه السنة خصوصا لأننا حرمنا من الجلوس وتناول الافطار جماعة العام الماضي، حرصت بعض المساجد على أحياء هذه السنة و لو عن بعد، بتجهيز حقيبة الإفطار مغلقة معلبة توزع مجانا قبل الإفطار بساعة تقريبا للصائمين عموما، إلى كل من يرغب في ذلك من طلبة وأصحاب الحاجات، فيها كل ما يلزم  من مشروبات ومأكولات وحلويات للفرد الواحد، يأخذها أصحابها الى مكان إقامتهم وتناولها ولو بعيدا عن الزملاء والاخوة الأحباب، كما توضحه الصور المرفقة الملتقطة  من مسجد المجمع الإسلامي بلوزان، وكذا المركز الإسلامي الإمام البخاري والمركز الإسلامي السلام بلوزان بسويسرا.  

نفس التنظيم المحكم، يتعلق أيضا بصلاة التراويح- حتى ولو أنها سنة وليست فرضا- إلا أن جاليتنا تحن لأدائها جماعة وفي المساجد، وهنا أيضا خصص المشرفون على مساجدنا أوقات محدودة جدا، تصلى فيها التراويح  وفق جماعة أو جماعتين و أحيانا ثلاث جماعات بالنسبة للمساجد الكبرى كالمسجد المشار إليه أعلاه، تؤدى صلاة العشاء والتراويح في مدة أقصاها نصف ساعة، وفي 5 الى 10 دقائق يأتي الفوج الموالي للصلاة، على أن لا يتعدى عدد المصلين في الفوج الواحد خمسين مصليا، حسب القانون السويسري الصحي الخاص بجائحة كورونا.  

طبعا تسبق ذلك، ترتيبات حجز أماكن الصلاة، بحيث يتم التسجيل الالزامي لكل مصلي (ة) يوميا، قبل المجيء للتراويح، عبر الموقع الإلكتروني للمسجد المعني وفق نموذج معين بحيث يترك المصلي (ة)، معلوماته منها عموما البريد الإلكتروني أو رقم الهاتف، وقبل كل صلاة ، يتم التحقق من صحة التسجيلات عند مدخل المسجد لكل فرد، إذ لا يُسمح بالدخول لأي مصلى دون تسجيل مسبق ولا يقبل أي تسجيل أثناء الصلاة، وبالتالي لا جدوى من الذهاب إلى المسجد إذا لم يكن الشخص مسجلاً مسبقا.. 

ويأتي المصلي قبيل الصلاة في هدوء وعلى وضوء لأنه لا يسمح بالوضوء داخل المسجد،  ليذهب لمكانه المعلوم، بعد أن أحضر معه سجادته الخاصة ومصحفه وقارورة مائه إن أراد، واضعا كمامته على وجهه طول فترة وجوده في المسجد، مع ضرورة احترام المسافات في جميع التحركات والتنقلات داخل المسجد، كما يمنع تبادل التحية بالعناق والكلام الذي لا لزوم له مع المصلين أثناء التراويح. بعد الصلاة يغادر المصلي المسجد فورا في سكينة و بسرعة بمجرد انتهاء التراويح،  ليفسح المجال لتهوية المكان وقدوم الفوج الموالي، مع ضرورة الامتثال لتعليمات مسيري التنظيم في المسجد الذين يرتدون السترات الملونة.   

كما تحث لجان المساجد المصلين المرضى أو الذين لهم حساسيات تنفس أو سعال أو اية أعراض مرضية، على عدم التسجيل للتراويح وعدم المجيء للصلاة أثناء الاكتظاظ في المساجد عموما، مخافة عليهم وعلى صحة المصلين.  

كما راقت لي، و أنا أزور هذا المسجد، يافطة صغيرة مرصعة، بهذا الهدي القرآني عن النفس، في رمضان و في غير رمضان، حيث كتب صاحبها ” نفسك، نفسك؟.. للتأمل و العبرة“، قال سبحانه و تعالى في محكم تنزيله: – “من عمل صالحًا فلنفسه” (فصلت، آية 46).   

.((الأنعام، آية  104  “فمن أبصر فلنفسه” –   

–  “ومن شكر فإنما يشكر لنفسه” (النمل، آية 40).  

–  “ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ” (فاطر، آية 18).  

– ” ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه” (العنكبوت، آية 6).  

– ” فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه” (الإسراء، آية 15).  

– ” ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه” (محمد، آية 38).  

–  ” فمن نكث فإنما ينكث على نفسه”  (الفتح، آية 10) .

–   “ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه” –  (النساء، آية 11  

– “قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ” الأنعام، آية 104

‏ من الآيات السابقة تتضح المسؤولية الفردية وتحمُّل نتائجها في أوضح صورة وأقوى عبارة في تأكيده، نجاتك يوم القيامة مشروع شخصي لن تؤاخذ على تقصير الناس معك ، بل ستُعاتَب وتؤاخذ على تقصيرك بحق نفسك لوحدك، فاستعن بالله ولا تعجز أخي و أختي في هذا الشهر الفضيل، قبل أن يباغتك المرض و العجز، ولا يغيب على نباهتنا أيضا قوله عز و جل في محكم تنزيله هذا البلاغ المدوي الرنان في كل وقت و آن :”كل نفس بما كسبت رهينه.”، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.  

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version