لم تعد مسألة الديمقراطية في الجزائر مجرّد ضرورة سياسية واجتماعية بل أصبحت أولوية أمنية حيوية. فلو كان ثمّة منتخبون من الشعب، بطريقة ديمقراطية، وكانت لديهم سلطة المساءلة فيما يجري في مؤسسات الدولة وفي الجيش، ما كنا لنرى عددًا هائلًا من الضباط من أمثال الجنرال بلقصير، يجمعون ثروات هائلة وينهبون بلا عقاب، بل ويحصلون على ترقية سريعة، وبالتالي يفتحون ثغرات تتسلّل من خلالها القوى الأجنبية. لأنّ الرقابة الشعبية، وإن كانت لا تمنع وجود هذا النوع من الضباط، فإنها تستطيع أن تكتشفهم من البداية وتضع حدًا لفسادهم وتحول دون أن يكوّنوا عصابات كما هو حالهم اليوم.

إن الأمن القومي وأمن الجيش بحاجة إلى ديمقراطية. إننا نحتاج إلى ثقافة ديمقراطية، فعندما لا نلقن كبار موظفينا في الدولة وضباطنا الولاء للدولة، بل ندفعهم إلى الولاء لمن يمتلك عصا السلطة، وعندما نعلمهم لعق الأحذية للنجاح والوصول إلى المراتب العليا، فكيف لا نهيئهم بذلك للعق أحذية الأجانب الذين لهم امتيازات وقوة أكبر؟ إننا نحضرهم للخيانة.

إن بعض الإطارات،مثل بلحيمر، الذين تربّوا في كنف السلطة، لا يستطيعون أن يتصوروا الاستقلالية الأكاديمية للجامعات الأوروبية عن السلطة السياسية. إنهم يعتقدون أن ما يحدث في فرنسا هو نفسه ما يقع في الجزائر من التصاق بأصحاب القرار لتجنّب صعوبة المسار الأكاديمي. وهم بذلك يضعون خبرتهم بخصوص خبايا النظام الجزائري كمكسب يوظفونه حيث يرون السلطة العلمية. مثل هؤلاء بلحيمر الذي اجتهد في التعريف بنفسه وعرض خدماته إلى درجة أن أصداء مساهماته وصلتني، ولو كان حذرًا لما وصلني شيء   منها.

إن قضية الوزير السابق سمير شعابنة إضافةً إلى قضية الوزير بلحيمر تبين ان خدعة الخطاب الوطني المزيف للنظام، ونفاق أعضائه تجاه فرنسا والتقلّص الخطير لقاعدة النظام المتهالك الذي يدفعه إلى الاختيار العشوائي بدون حتى معرفة من يختار. كان سمير شعابنة موظفًا في التليفزيون الجزائري ومبعوثا كمراسل للقناة الجزائرية (Canal Algérie) في فرنسا، يتقاضى أجره من الدولة الجزائرية بالعملة الصعبة لمدة عقدين، وكان منتخبًا كبرلماني عن الجالية الجزائرية في مرسيليا، خاصة باعتباره الداعم الهيستيري والمقزّز لكل عُهَد بوتفليقة ومن بعده قايد صالح، والمروّج لـ “الوطنية النوفمبرية  الباديسية” و”ضد أعداء الجزائر”.

ثمّ علمنا، بعد تعيينه كوزير–ما لم تكن لتعرفه أجهزة الأمن الجزائرية لولا تنبيه المواطنين الجزائريين المقيمين في مرسيليا–أن شعابنة تمكّن، خلال تواجده في فرنسا كموظف يتقاضى أجره من الدولة، من الحصول على الجنسية الفرنسية التي فضّل الحفاظ عليها على حساب منصب وزير. هذه هي الوطنية وهؤلاء هم الوطنيون المزيفون الذين يدعمهم النظام. إنها فضيحة تستدعي على الأقل استقالة الوزير الأول. لكن لا… إنّ خالد درارني هو الذي يُسجن!

التبريرات الواهية

إنّ القلة القليلة من المدافعين عن السيد بلحيمر يقدمونه على أنه قامة من القامات العلمية التي كانت تبحث عنه كبريات الجامعات العالمية. لماذا إذن لم يبرز أيّ اسم، كبيرًا كان أم صغيرًا، من هذه المؤسسات لتزكيته؟

إنّ شهادة السيد يزيد بن هونات، المتواطئ معه منذ عهد بعيد بناءً على علاقات مصلحية، شهادة عجيبة فيما يتعلق بالأخلاق. فبصفته موظف فرنسي عمل في مركز أبحاث تحت وصاية السفارة الفرنسية، التي تموّل الجزء الأساسي من أنشطته بما فيها المقرات التي يمارس فيها نشاطه، وتسيّر كذلك الجانب المالي للمبالغ التي يصرفها السيد بن هونات، يحاول هذا الأخير أن يشرح لنا أن هذا ليس له علاقة بالسفارة الفرنسية. إنه نفاق نخبة النظام الجزائري الذين يعملون حتى داخل المؤسسات الفرنسية.

المشكل ليس في الشخص في حدّ ذاته، بل يتعداه إلى تداعيات ما يحاول أن يقدمه كتبرير ملفّق لإنقاذ صاحبه، والريبة التي تكتنفها مثل هذه المواقف في الأنشطة التي تُقام في الخارج بالنسبة لزملائنا في الجزائر وكأنّعزلتهم غير كافية.

إنه تشكيك في جهود زملائنا هنا في فرنسا الذين يحاولون ربط علاقات مع زملائهم في المغرب الكبير والحصول على تمويلات لهم، أينما كان مصدرها، بما في ذلك السفارات حيث أن ميزانياتها للنشاط الثقافي ليست من مصدر فرنسي، بل قد تحصل عليها من الاتحاد الأوربي. وحتى وإن كان مصدرها فرنسيًا، فلا تُصرف حسب رغبات المسؤول السياسي الذي يعمل في السفارة، لأنّ الجامعيين لديهم حق النظر وعادة هم الذين يسيّرون الميزانية.

أيّ مصداقية يمكن منحها للسيد بن هونات حين يبرّر سكوته تجاه سجن درارني والمساس بالحريات بالقول: “ليس لدي معلومات كافية لأحكم على القضية”.يا للدهشة! ألا ينبغي تذكيره بقصص التاريخ،فمن أكبر الجرائم الاستعمارية إلى المحرقة مرورًا بالتطهير العرقي في فلسطين، الذين لزموا الصمت بجبن، كانوا يقولون نفس الشيء: “لم نكن نعلم”. إنّ زملاءه سيحكمون على سكوته وعلى دعمه الفياض الذي يقدّمه لصديقه الوزير وإلى هذا النظام الجزائري المقيّد للحريات. فبعد رفض جريدة “لوسوار”Le Soir  منحي حق كتابة هذا المقال، وجدت حقي في الكتابة في جريدة  “لاباتري نيوز” (La Patrie News)،الجريدة الإشهارية التابعة لأجهزة مخابرات الجيش.

حتى الدائرة الضيقة لمعاوني بلحيمر لا يستطيعون مساندته علنًا، فهم عادة يلجؤون على استحياء إلى الرسائل الخاصة. أنه دائما النفاق والخوف من الاحتراق في باريس، أين الإشهار بالديمقراطية تجارة مربحة، وأين يتواجد أبناؤهم، وأين يتنقلون أكثر مما أفعل من أجل الدروس التي ألقيها. أنا لا أرميهم بالحجارة، فأنا أرى أنهم يتألّمون بسبب بما آلوا إليه.

لقد نجح النظام في تثبيط من هم أكثر تفوقًا ومن هم أكثر كرمًا، وحتى في إهانتهم. إنها جريمته الكبرى التي هي أكبر من القمع الذي قد يجلب الاعتراف الاجتماعي. فما أسعدك يا درارني، فقد فجـّر ألمك طوفانًا من التعاطف! لكنني أؤمن بالخلاص وبإمكانية البعض أن يجدوا في أنفسهم أفضل ما كانوا عليه.

لم يفت الأوان بعد، فمن بوادر نجاح الحياة أنه لمّا تحين اللحظة، نتمكّن من مغادرة الحياة بنزاهة وكرامة.

علي بن سعد

أستاذ جامعين المعهد الفرنسي الجيوسياسي، باريس

ترجمة لجزء من مقالة للأستاذ علي بن سعد، يمكن الإطلاع على المقال الأصلي على الرابط التالي

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version