كانت مجرد أحلام، بل كانت أضغاث أحلام،  ومن صميم ذاكرة المحتل الغاصب الذي تخيل فرنسا تحتضن البحر الأبيض المتوسط،  وتصل إفريقيا بأوروبا ، مما يعني أن الجزائر أرض فرنسية، وأن الأتراك غزاة و طامعون؛ تصوروا المشهد بكل تفاصيله، بداية بحادثة المروحة، ووصولا إلى أحداث 08ماي 1945 ! فبعد أكثر من قرن على الاحتلال الاستيطاني، حفظت ذاكرة الجزائريين كل تفاصيل المشهد، ولم تنس عالمها و تاريخها وعقيدتها التي حفظتها من الانسلاخ أو الذوبان ! و تبين للعام والخاص أن الثورات التي قامت في وجه فرنسا، والأرواح التي حصدتها آلة الغدر، لم تشفع للجزائريين في تغيير وجهة نظر الرسميين الفرنسيين وساستها المغامرين، على الأقل، بخصوص الجزائر،  أرضا، وتاريخا، وحضارة! 

ولم تتحرك عاطفة الغرب الأوربي تجاه الأبرياء،  وفيهم الذين جندتهم فرنسا في وجه النازية، حيث دافعوا عن أرض فرنسا وشعب فرنسا، وتمنوا أن ينالوا حريتهم وينعم أبناؤهم أيضا بقليل من الأمن والأمان؛ و كأن مجازر  خراطة،  قالمة،  سطيف، في الجزائر، هي جزء من الترتيبات الأمنية التي اتخذتها فرنسا ضد النازيين! فداست فرنسا، ومن ورائها الحلفاء، على قيم الحرية والكرامة، و تنصلوا من كل الوعود التي قدموها للشعوب التي ذاقت مرارة الاحتلال لعشرات العقود، بدمها و لحمها و عظمها ! 

واندلعت ثورة نوفمبر المجيدة (حرب التحرير الخالدة) التي فاجأت المستعمر البغيض، وفتحت عيون العالم على صحائف من التاريخ، أرادت فرنسا محوها من ذاكرة الإنسانية؛ فدامت المنازلة سبع سنوات ونصف، و تدعمت قافلة الشهداء بالملايين؛ وظن كثير من الناس، داخل الجزائر، وخارجها، أن فرنسا ربحت المنازلة، خصوصا، مع نهاية العقد الخامس من القرن العشرين، و تحديدا في 1959 – 1960 تزامنا مع إحكام عمليات إغلاق الحدود بالأسلاك الشائكة، واستشهاد أبرز القادة النوفمبريين، صانعي الملاحم والبطولات عبر جبال وأرياف و مدن الجزائر الصامدة ! لكن، هيهات، فالثورة لم تمت؛ والسنوات العجاف هي جزء لا يتجزأ من المحنة التي مضى عليها أزيد من قرن، وربع القرن! والذاكرة باتت أكثر قوة،  أكثر تجذرا، من ذي قبل، و الوعي، بالرغم من شدة وطأة الصراع الفكري وضحاياه، هو في تجذر وتفرد، أكثر من أي وقت مضى ! 

 واحتفل الشعب الجزائري بالإعلان عن الاستقلال، وخروج عساكر فرنسا؛ وتنازع رفاق السلاح، ورفقاء النضال، بدل أن يجتمعوا، وكان الأجدر بهم أن يستكملوا مؤتمرهم الذي لم يكتمل في طرابلس، ويكونوا في مستوى الأحداث، وآمال الجزائريات والجزائريين، وكل الشعوب التواقة إلى الحرية؛ وكانت الكلمة للغة المدفع والدبابة، وسادت أجواء من الترقب، وغلب عليها انعدام الثقة؛ وضاعت جهود الذين فكروا فعلا في بناء دولة المؤسسات! نعم، ذلك هو المناخ الغالب الذي ميز الأيام و الأشهر الأولى لإعلان الاستقلال؛ ولم يفلح القوم، لأن فرنسا بقيت قريبة جدا منهم، بل أكثر مما كانوا يتصورون! و للأسف الشديد، فقد ميز سلوك القوم الذين وقفوا على حكم البلاد آنذاك بميزتين، أو شائبتين، اعتبرهما من أشد أدوات الهدم وأسباب الضعف، بدل القوة والبناء ، ألا وهما: الإستئناف والاستثناء ! وهو ما اجتهدت فرنسا على ترسيخه من البداية، بل هو ما تكفلت بزرع بذوره قبل الإعلان عن الاستقلال، وتأكدت من فعاليته خلال لقاءات “اتفاقية إيفيان”؛ أما الاستثناء، فحينما تتصور نفسك، أو تنظيمك، أو يعمل طرف معين على تجسيده فيك، من باب أنك على صواب، و كل من سواك هم أعداء! و أما الإستئناف فهو غمط أجيال،حقهم ودورهم في مسار البناء ! ذلك هو الداء الذي تحكم من البداية في عقول رفقاء النضال، ومنعهم من بناء رؤية كلية متوازنة بخصوص الجزائر، شعبا، تاريخا، دولة، و حضارة ! 

واليوم، بعد مرور سنة ونصف على حراك الشعب الجزائري (  22فبراير 2019 ) الذي توج بإسقاط عصابة بوتفليقة، وكشف المستور بخصوص عمليات الهدم التي سهرت عليها فرنسا الرسمية، وبيان هشاشة شعارات الوطنية وما شابهها، وتنامي ظاهرة المستفيدين من نهب المال العام بغرض توريط الجميع وتعويم المشهد الوطني داخل أتون الفساد؛ لم تبتعد فرنسا عن ساحة الجزائر شيئا !

 و لعل المناخ الغالب اليوم،  ونحن نشهد نهاية العقد الثاني من القرن الواحد و العشرين ، هو مناخ  1959 – 1960 من القرن الماضي ! أجواء ” كورونا ” ، الوضع الإقتصادي و الإجتماعي المتردي ، انعدام الثقة بين الحاكم و المحكوم ، ضحايا الصراع الفكري بالملايين ، أجواء عالمية ملبدة بكثير من علامات الترقب و الاستفهام ، عالم عربي رسمي فاقد للوعي ،و عالم إسلامي مثقل بكثير من الآلام و الذكريات! 

و المصيبة أن الساحة السياسية الجزائرية برمتها غارقة في وحل الاستئنافية و الاستثناء ! 

و ما هو الاستثناء ؟ 

ليس استثناء، يا صديقي،  بل هو الحد الوسط ! 

الحد الوسط هو الحد الإيجابي الفاصل بين نافيتين ، كلاهما تنفي الشعور الديمقراطي ، وفق تعبير الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله،  نافية ال( أنا) و نافية ال( آخر ) ؛ و الحد الوسط يحتاج إلى إنسان حر يجيده ويجسده، وهو المسار الذي دأب عليه أحرار الجزائر جيلا بعد جيل، كل حسب استطاعته . 

و اليوم،  وفي ظل ذات الأجواء المشحونة بكثير من الغموض و الترقب، ليس غريبا أن تقف “حركة رشاد” موقفا وسطا إيجابيا فاصلا؛ وهو ما عبر عنه أمينها العام؛ ويبدو ذلك جليا فيما يلي : 

1 –  حركة رشاد، ليست حزبا سياسيا مهتما بأي استحقاق حزبي أو انتخابي، أو طمع في منصب أو مال.

2 –  الحركة منفتحة على الجميع، فيها ومنها، كما هو من المجتمع أو الشعب الجزائري وفيه، المحسن والمسيء، المخطئ والمصيب؛ يتسع صدرها ورصيدها الفكري والعملي للجميع، مثلما يسع صدر الجزائر الرحب لجميع أبنائها. 

3-  سياقها الفكري و التاريخي و العملي هو البناء، ومنهجيتها هو التغيير الراديكالي السلمي المتفرد في وعي الشعب و إبداعه. 

4-  ليست بديلا لأي تنظيم سياسي أو حزبي أو نقابي، ولا خصما لأي فرد أو جهة بعينها، مهما كان توجهها الفكري، لأنها تؤمن أن الشعب هو السيد في قبول من يريد و صد من يريد. 

5 –  لقد عبر أمين الحركة، ولن نزكي على الله أحدا، عن رؤية متوازنة جادة ورائدة، وترجم ذلك من خلال موقفه من سلطة الأمر الواقع، والوعاء الحزبي، والتوجهات الفكرية، والواقع الحقوقي، سواء تعلق الأمر بالسيد كريم طابو، أو السيدة بوراوي، أو أي إنسان آخر مظلوم؛ وهذا ما تحتاجه الجزائر الجديدة . 

6-  بدا السيد دهينة واضحا بخصوص الدوائر والأصوات التي تعمدت التشكيك والإساءة للحركة بعد الحديث الذي دار بخصوص 19جوان، وعودة المسيرات أو تأجيلها؛ وكان جديرا بالاحترام، لأن الموقف الجاد الذي يصب في مصلحة الجزائريات والجزائريين من دون استثناء، هو موقف المتواضع الذي لا يحبذ الاستئنافية ولا الاستثناء؛ ويؤمن بوجوب تمليك الحراك، كما هي الثورة بجميع حلقاتها جيلا بعد جيل للشعب وللمجتمع الجزائري قبل أي كان،  مهما كان، كيفما كان، وأينما كان . 

تعليقان

  1. al Moghraby بتاريخ

    الله تعالى يعطيك الصحة و يحفظك ,تلخيص موجز و بليغ للحالة في الجزائر , نسأل الله تعالى أن يوفق كل الوطنيين المخلصين إلى ما فيه خير البلاد و العباد.

  2. فك الله غربتك يا أخي : AL MOGHRABY , و رزقك العافية في البدن و السمع و البصر ، و أنار بصيرتك بنور الإيمان ، و قلبك بأنوار الصدق ، و سدد خطاك ، أما بعد ، فقد تذكرت ، و لا بأس من مراجعة بعض الخطوط ضمن رصيدنا الفكري و المعرفي الموسوم بنفحات البحث الفلسفي في حدود الذاكرة الجمعية و الممارسة الإجتماعية و الحس الحضاري ؛ و لعل الذكرى تنفعنا أكثر في الأوقات العصيبة ، حينما يشعر المرء بشيء من المرارة، بسبب الظلم و الجور ؛ أو بشيء من الغربة ، خصوصا غربة الوطن حينما يؤخذ أو يختطف بين يدي أبنائه ، و تهدر كنوزه و خيراته ، و تؤسر قيمه و أمجاده ! فكم تغنت العصابة بالوطنية ، و تلصصت ، و تهكمت ، و وزعت الأوسمة ، و رهنت التاريخ و الجغرافيا ، و حتى المروءة ! لذلك تساءلت منذ مدة عن فحوى الوطنية و الوطنيين ، على سبيل المثال ، لا على سبيل الحصر ، فأنت عارف ، من دون ريب ، بالاستخدام المغرض لمثل هذه المصطلحات ، خصوصا تلك التي لبسوا لباسها و لبسوها تلبيسهم ، فأخفوا جواهر اللباس ، و أبدوا ، للأسف الشديد ، مظاهر اللبس ، حتى تعسر على الناس تمييز اللباس من التلبيس ، و السياسة من التسييس ! فاستخدمت عبارة ” وطنية ” أسوأ استخدام ، و استغلت سوء استغلال ؛ أما الهوية فقد سيسوها و قطععوها، و الدولة استهدفوها في إجماعها و اجتماعها ، و المجتمع سلبوا منه سكينته و جماله ؛ فكانوا أهل لبس و تلبيس ، و مكر و تدليس ! و إلا فما معنى أن يرفع إنسان صوته في وجه إنسان أخر ، و يقول : أنا وطني ، ثم يكون في المحصلة على رأس كبار المختلسين للمال العام ، و المدبرين لأسوأ ما لحق ببنات الجزائر و أبنائها ! ؟ و كان الأجدر أن نسأل هذا الإنسان، و كل إنسان يرفع مثل هذا الشعار ، عن الميزان الذي يمكن أن نزن به ” الوطنية ” ، و هل هي قابلة للتحويل حتى تترجم إلى كفاءة إجتماعية ، ثقافية ، سياسية ، قانونية ، إبداع أو اختراع ، و ماذا تضيف إلى رصيدك و رصيد مجتمعك في عالم الأمن و الأمان ؟ ثم هل ” الوطنية ” منحة يمنحها المجتمع و الدولة ، أم لقب تمنحه المعاهد و الجامعات ؟ لأن الإنسان الحر الذي يقف حدا إيجابيا ، وسطا بين نافية ال( أنا ) و نافية ال( آخر ) لا يقبل رخصة أو شهادة لم ينصص عليها قانون ، و لا لقبا بلا أساس أو روح ، و لا منحة دون استحقاق و دليل ؛ و عليه : ما هذه الوطنية التي إذا نطقت بها كذبتك ، و إذا تخفيت من ورائها تعريت ، و إذا استهنت بها أهانتك ؟ لعلها بمثابة الأم العذراء ، يسري عليها ما لا يسري على الأمهات ، من ذهاب العذرية و التقدم في السن ، و ذهاب صحة السمع و البصر و البدن ؛ تسع جميع أبنائها و لا يسعونها ، تمنحهم الرحمة و العزة و الحنان و الشموخ و الاطمئنان ،فهي للوطن و الوطن بها ؛ فإذا أردت أن تستدل على الوطنية فتدرك مدلولها فزنها بميزان الحرية ، يمكنك قياسها وقبل ذلك تحسسها من خلال تحسس حرية الديار والأوطان ، نتحسسها وندركها كلما زادت مناعتنا وانتفت قابليتنا للاستبداد ، نستدل عليها في مدارسنا من خلال سلامة ونباهة أطفالنا وحضور ووعي أساتذتنا ، تقييما وتقويما ، علما وبيانا ، أثرا وامتحانا ، نستدل عليها في مزارعنا فنشهد بخيرات الأرض ونشهد بآثارها ، نستدل عليها في جامعاتنا فندل عليها بقيمة الشهادة وأحقية صاحبها ، نستدل عليها بسمعة البلاد والعباد في شتى أنحاء المعمورة ، كسمعة ثورة الجزائر وشهدائها . لاحظ وتأمل معي في عبارة ” المجموعة الوطنية ” ، ماذا تعني ، إذا فقد الشعب أمنه أو حريته أو سكينته أو عافيته أو وحدته الترابية ؟ ماذا تعني ، إذا فقد المجتمع نظامه وتنظيمه ونشاطه وحيويته ؟ ماذا تعني إذا فقد القانون روحه ، أو حتى سمعه وبصره ؟ ماذا تعني ، إذا فقدت الدولة مصداقيتها ، والمجتمع استقلاله ، والشعب سيادته ؟
    هذا شيء من الذكرى لنا جميعا ، و نحن نراجع مسار الثورة و نسترجع يوميات الحراك ، سائلين الله التوفيق و السداد .

Exit mobile version