مع إعلان  بعض دول العالم رفع الحجر الصحي تدريجيا، أو التخفيف منه – حسب المناطق والجهات الأوروبية – نشطت وسائل التواصل الاجتماعي بتصريحات المشرفين على العمل الإسلامي في الغرب حول قضية فتح المساجد والمراكز الإسلامية في أوروبا من عدمها، والعودة إلى صلاة الجماعة والجمعة  هذه الأيام. علما أن سلطات جل الدول الاوروبية أمرت بتحمل مسؤولية المشرفين عن الفتح التدريجي من عدمه بشروط معقدة وضوابط عسيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر: تسجيل أسماء المصلين في قائمة قبل الدخول للمصلى وأن يترك المصلون أرقام هواتفهم تحسبا لتتبع الموقف في حالة حدوث عدوى، وألا يقل سن رواد المساجد عن 12 عاما، مع احضار سجادة خاصة بكل مصلي من بيته، إبقاء مسافة لا تقل عن مترين بين مصلي وآخر، لبس الكمامة القماشية إجباري مع القفازات، الوضوء في البيت وعدم استعمال دورات مياه المساجد ولا حتى أماكن الوضوء، تعقيم مكان الصلاة قبل وبعد الاستعمال، وغيرها من الشروط  التعجيزية الصحية التي يعاقب على الاخلال بها أو ببعضها القانون المدني بغرامات مالية متفاوتة فما بالنا من العقوبة من الناحية الشرعية  كمسلمين، نلقي بأنفسنا للتهلكة لا قدر الله ..

ضف إلى ذلك مشهد الدخول من باب والخروج من باب في طابور طويل يعيق سير المارة و السيارات، والحرمان من عادة المصافحة والمعانقة والمؤانسة قبل الصلاة وبعدها، والتحفظ من كل عاطس وساعل، وذي حساسية مرضية، واضطرار المصلين لجلب سجادات صغيرة أو مناديل خاصة من بيوتهم  لكل صلاة ونسيانها أحيانها في المصليات بعد الاستعمال، مع ما يتبع ذلك من تعقيد وتعقيم، ووسوسة ووهم، دون أن نغفل احتمال تسرب مصلي مريض إلى الصفوف، لا تظهر عليه أعراض المرض، ولا يعلم حتى هو أنه مريض، أو يخفي ذلك، ولا يرضى أن يُعامل كمريض، مما يفتح على المصلين بابا من أبواب التنازع والتنافر والفتنة، لا قدر الله، وهم في وقت عسرة ومحنة..

مما دعا بعض المشايخ  والأئمة في العديد من الهيئات والمؤسسات الإسلامية في أوروبا لدراسة النازلة دراسة فقهية مقاصدية، شاملة متأنية، بعيدا عن كل العواطف والأهواء الضرفية، مشفقين مرشدين واعظين لإخوانهم بالتي هي أقوم كما جاء ذلك في بيان المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة و قبله بيان المجلس الأوروبي للإفتاء و البحوث و غيرهما..

كما صدرت فتاوى و تنبيهات أخرى من هيئات الإفتاء المعتمدة في العالم الإسلامي بوجوب إغلاق المساجد مرحليا، وقاية من انتشار الوباء ومحاصرة له؛ و ضرورة التزام المسلمين بالقرارات الصادرة في هذا المجال من دولهم، دون جدال أو إشكال .. لكن بعض الاخوة سامحهم الله، أرادوا إكراه المشرفين على المراكز بفتحها مهما كانت العواقب، متحججين بأعذار أوهن من بيت العنكبوت، منها أن الله هو “الشافي و الواقي” و “البيت بيت الله ونحن نلبي نداء الله بالذهاب للمسجد” و غيرها، متناسين العديد من الأمور الشرعية، أخرها إنَّنا ” نَفِرُّ مِن قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله” كما جاء في الأثر عن سيدنا عمر رضي الله عنه..

ولو تريث هؤلاء القوم بضعة أسابيع وادوا صلاتهم في بيوتهم مؤقتا (عملا بالرخصة الشرعية) لما وقعوا في هذا الاستعجال، أو الارتجال، ولما كلفوا أنفسهم هذا العناء، لا لشيء إلا  قصد إرضاء بعض المتحمسين الشباب من معتنقي الإسلام الجدد خاصة، أو تأثرا بكلام بعض الوعاظ  المتهورين وطيش بعض الجهال المتدربين، الذين لم يقدر الأمور حق قدرها.

ومن القواعد الفقهية التي يمكن استحضارها والاستدلال بها – كما جاء في بيان الهيئة – في دعم رأي سد الذرائع، وترجيح الانتظار، وعدم المغامرة بفتح المساجد حاليا، قاعدة: “درء المفاسد أولى من جلب المصالح “، وهي قاعدة كلية ذهبية جامعة مانعة، صالحة لكل عصر ومصر، لا غنى عنها في باب الموازنات والأولويات (حتى لغير المسلمين)، وخلاصة معناها: أن الشرع اهتم بالمنهيَّات أشدَّ من اهتمامه بالمأمورات، خلافا لما يعتقده البعض، فتعريض النفس والغير للضرر المحقق أو الغالب على الظن مفسدةٌ منهي عنها مطلقا شرعا، أي دون تقييد باستطاعة، وأما صلاة الجماعة أو الجمعة أو العيدين فمصلحة مأمور بها ومرغب فيها؛ ولكن هذا الأمر مقيد بالاستطاعة أو القدرة، لقول الله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ – التغابن:16

وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “… فإذا أمرتُكم بشيء، فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتُكم عن شيء فانتهوا” وفي رواية للبخاري ومسلم:” إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم”.

و الاخوة المتسرعون هؤلاء- سامحهم الله-  يعلمون قبل غيرهم، أن الأماكن الأكثر عددا وازدحامًا بالمصلين، والأضيق مساحة، والأقل تهوية، هي الأكثر عرضة لانتشار هذا الوباء ( وباء جائحة كورونا)، وفق ما تؤكده التقارير الطبية لمنظمة الصحة العالمية، وكثيرا ما صرح بها الأطباء الثقات المتخصصون.. و لا يغيب علينا اليوم أن أغلب المساجد والمصليات في أوروبا من هذا النوع، وبعضها يشبه الاقبية الأرضية، كما يعلم الجميع، ومن ثمَّ وجب الاحتياط والحذر للمحافظة على الأرواح، وسد الذرائع لمنع انتشار عدوى الفيروس القاتل، مخافة إيذاء المصلين، وترويع المواطنين  الآمنين وتعريض بيوت الله تعالى لأمور لا تحمد عقباها، لا قدر الله.

ومن أجل دفع المفسدة وتقديم المصلحة و حفاظا على الأرواح “أُسقطت في الزمن الماضي فريضة الحج عن أهل المغرب الاسلامي والأندلس بفتاوى عدة من علماء المغرب، أبرزها فتوى ابن رشد رحمه الله، التي تداولها الناس كثيرا، وعملوا بها قرابة الثمانين عاما، ووافقه في إسقاط فريضة الحج عن أهل الأندلس ابن حميدين واللخمي، رحمهما الله، وذلك كله حفاظا على أمن وسلامة الناس من قطّاع الطرق في البر والبحر، أو حفظا للنفس من حروب استعرت في المشرق، كما هو معلوم”، حسب ما جاء في بيان الهيئة.

ومن القواعد الفقهية الكلية التي ينبغي أيضا الاستدلال أو الاستئناس بها في هذه النازلة قاعدة: “المشقة تجلب التيسير” عملا بقوله تعالى ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾. ويتفرع عن هذه القاعدة الكلية، قاعدة أخرى هي: “لا واجب مع العجز“.

وبالرجوع إلى رأي الخبراء والأطباء – في واقعنا الأوروبي- فإن كلمتهم مجمعةٌ على أن وباء كورونا لا يزال حاضرا، وجاثما، ومتربصا، ومختفيا، والاحتياط منه واجب، والوقوع فيه مهلكة.. كما يؤكد ذلك الخبراء أيضا أن أكثر الناس تعرضا لخطر هذا الوباء القاتل- نسأل الله العفو وعافية – هم كبار السن، وأصحاب الأمراض المزمنة، وهم يمثلون – في الغالب – أكثر عمار المساجد، وخصوصا في الصلوات الخمس وبالتالي فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والوقاية خير من العلاج، وفي الرخصة الشرعية سعة، تجنبا لكل المخاطر في انتظار عودة آمنة مطمئنة إلى مساجدنا قريبا، وما ذلك على الله بعزيز، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.

تعليق واحد

  1. ما جئت به ، من باب التذكير ، و من صميم : ” فذكر إن نفعت الذكرى ” ، هو الراجح ، و الأقرب إلى ما يعيشه المسلمون في أوربا و أمريكا على وجه الخصوص ؛ و هو ما ترتاح له أنفس إخواننا في غالبيتهم ، خصوصا أن المواظبين على الصلاة في وقتها ، مثلما يصبرون و يصابرون من أجل ذلك ، هم كذلك أكثر صبرا في ظل أجواء الجائحة التي ألمت بالعالم ، على تعطيل صلاتي الجماعة و الجمعة من أجل تفادي العدوى الخطيرة و المهلكة من باب درء مفسدة بهذه الجسامة ؛ و مثل هذا الموقف هو بحد ذاته اختبار يقوم على أساس الاقتراب قدر الإمكان من روح مقاصد الشريعة السمحة ؛ و وحدة المسلمين و سلامتهم و أمنهم مقدم على أي اعتبار آخر لا يقوم على دليل شرعي من لدن الجهات المختصة و المخولة شرعا و قانونا ؛ و كان بإمكان إخواننا المتحمسين لعملية الفتح ، أن يفكروا قليلا ، كيف هو المسجد الأقصى ، و كيف هما الحرم المكي و المسجد النبوي الشريف ؟ و كيف هي شعوبنا تتألم تحت وطأة الاستبداد و الفساد ، و غطرسة الكيان الصهيوني ؟ لن ينفعنا ، مهما كنا، كيفما كنا ، و أينما كنا ، سوى الصدق مع الله ، و الصبر مفتاح الخلاص . شكرا للأستاذ .

Exit mobile version