رفض البعض الدولة المدنية، بحجة أن العديد ممن يرفعون شعارها يريدون في واقع الأمر، فرض الدولة العلمانية بمفهومها اللا ديني، تحت ستار الدولة المدنية. صحيح ولا يمكننا إنكار أنه يوجد فعلا من يتستر بالدولة المدنية، للدفع نحو الدولة اللا دينية، بل هناك أشد تطرفا من يرمي صراحة إلى استغلال غطاء للدولة المدنية، لتكون حصان طرودة لمحاربة الإسلام تحديدا وليس للأديان عموما. لكن، هل التستر بغطاء الدولة المدنية، عذر مقبول لنرفض الدولة المدنية بمفهومها الأصلي؟ أليست العبر بالجوهر، لا بالقشور والدعاوى المزيفة؟ ثم، إذا وجد مثل هؤلاء المزيفين، هل ننفي وجود من يطالب بالدولة المدنية بمعناها الحقيقي، أي دولة المواطنين، دولة تعود السيادة فيها للشعب لتقرير مصيره وتحديد سياسات بلده، دون وصاية من أحد، في ظل دولة الحق والعدل؟ وهل حجم أدعياء الدولة المدنية يساوي حجم المطالبين بها حقا؟ كلا وألف كلا، ولا وجه للمقارنة بينهما مطلقا.

ثم لماذا نفترض دائما أن هذه الأقلية المضخمة إعلاميا، والمستخدمة كمخلب ضد المواطنين هي بالضرورة من ستفرض إرادتها وتفرض منظورها، على حساب الأغلبية من المواطنين الذين يعملون حقا وصدقا من أجل دولة لكافة مواطنيها؟ ألسنا أمام صراع إرادتين، تكون الغلبة فيها لمن هو أكثر عزيمة وثقة بقضيته، لماذا نفترض عزيمتها أكبر من عزيمة المواطنين، وثقتها أقوى من ثقة الشعب قي قضيته؟ لماذا هذا الاستصغار دائما والانتقاص من قيمة المواطنين، وافتراض الغلبة لأقلية الضاغطة، كتحصيل حاصل؟ ألا يقال أن الحروب تخسر (أو تربح) في الأذهان قبل مسارح الأحداث؟ أليس في ذلك، تمكين لهذه الأقلية السرطانية، وتثبيط عزيمة الأغلبية وإجهاض مفعول جهودها وإرادتها وحظوظها في النصر؟ ما المانع في النضال الجاد ورص الصفوف وشحذ العزائم من أجل دولة مدنية حقيقية، ولماذا لا تتضافر جهود الجميع، بكل ما أتيت من قوة، بدل من الإعلان عن الهزيمة حتى قبل بداية المعركة ونُمَكّن بذلك الأقلية من الانتصار دون خوض المعركة؟

من نافلة القول التذكير أن هذه المجموعات المتناثرة التي تستغل شعار الدولة المدنية لتحقيق مآربها، لم تتمكن يوما من العيش والنمو، خارج فضاء ومنتجعات دولة الاستبداد العسكرية، قبل 92 وبعدها، وإلى يومنا هذا، وفي كل مرة، تمكن فيها الشعب من التعبير عن نفسه والإدلاء بصوته، وفُتِح أمامه المجال، يسمح بقدر من الشفافية والحرية، سقطت ورقة التوت عن جسم هذه المجموعات وتعرت تماما لتكشف عن زيف دعواها وضحالة حقيقتها على الأرض. لماذا إذن لا نعمل من أجل توفير مثل هذا الجو، الذي سيمكننا من التخلص من دولة الاستبداد التي عمرت عقود من الزمن، وكشف في الوقت نفسه أدعياء الدولة المدنية المزيفين، الذين اتخذوها مطية ورداء لبيع بضاعتهم الرخيصة. هل يعقل أن نتصرف بهذه الغفلة، بحيث نرفض، برد فعل، الدولة المدنية، فقط لأن هؤلاء يرفعون شعارها ويتاجرون باسمها؟ وهل من الحكمة مخالفتهم “تلقائيا” و تبني دولة عسكرية، على غرار ارتماء البعض في أحضان دولة قيادة الأركان، مناكفة لعصابة توفيق، بدلا من الانتصار للشعب والوقوف إلى جانبه دعما للحراك، فقط، بسبب تواجد بعض هؤلاء المزيفين وسطا لحراك.

لو عدنا قليلا إلى الوراء، سنلاحظ أن كل من كان يدعو للدولة اللا دينية، المحارِبة للإسلام وحضارته، كانوا رغم هزالة تواجدهم الفعلي، يتحكمون في مراكز القرار في الدولة، في ظل دول الاستبداد، في عهد الحزب الواحد، قبل أن تنكشف سوءتهم وضحالة حجمهم وبعد أكتوبر 88، وعند اعتماد دستور فبراير 89، في عهد التعددية التي استمرت بين 89 و91، وتبين زيفهم بفضل جو النقاش الحر الذي ساد في تلك الفسحة الديمقراطية، وخاصة في أعقاب نتائج انتخابات 90 و91، حيث سقطت آخر أوراق التوت عن حجمهم الضئيل وأفكارهم الهزيلة. وفور الانقلاب، قاموا وفاء لطبيعتهم، بالدعم المطلق للدولة العسكر وتبرير الانقلاب، بما كشف زيف مزاعمهم عن الديمقراطية والحقوق والمواطنة والجمهورية، وعراهم أمام الشعب قاطبة، بحيث لا يمكنهم اليوم مغالطة الشعب الذي خبرهم طيلة هذه العقود ويعلم أنهم من اشد أعداء الدولة المدنية حتى ولو زعموا عكس ذلك.

لا يجب أن نخشى انفتاح مجال النقاش، ومصارعة الأفكار والبرامج والمناهج، لأن جو النقاش في ظل الحرية كفيل من جديد بفضحهم وفضح كل المزيفين، من كل المشارب، فلا يجب أبدا خشية وجودهم ومزاعمهم، بل هم من يخشى الحرية في ظل الدولة المدنية الفعلية، ومثلما سقطت ادعاءاتهم المزيفة في فترة التسعينات، ستفتضح عورتهم اليوم، الشعب قوي بما يؤمن به ويسعى إلى تحقيقه وذلك بفضل قيمه وعزيمته وقدرته غلى إفشال خطط كافة المزيفين.

أكررها في الختام، ليس لأن فيه من يدعي الدولة المدنية، زورا وبهتانا، فيتعين علينا الكفر بها، تماما، مثلما أنه ليس لأن الكثير ممن يدعي الديمقراطية والحرية والحداثة والتنوير، ثم يتصرف عكسها تماما بل ويحاربها فعلا، فيجب علينا أن نكفر بهذه القيم، ونسلك طريقا يخالفها أو يناقضها، لأن ذلك بالتحديد ما يريده أصحابها، بل أذهب أبعد دن ذلك، أليس هناتك من يدعو إلى تحكيم الإسلام ورفع شعاره وشعار الشريعة والسلف الصالح وما إلى ذلك، ثم نراه على أرض الواقع من اشد داعمي الاستبداد والتواطؤ مع المستبدين لسفك دماء المسلمين؟ هل معنى ذلك، أنه يجب علينا أن نكفر بالإسلام وبالشريعة لأن مثل هؤلاء أساؤوا استخدامها وتاجروا بها؟ العبرة بالمواقف لا بالشعارات والمزاعم، ومسرح الأحداث خير امتحان.

تعليقان

  1. و لذلك فقد كانت هبة الشعب السلمية منحة عظيمة ، أسقطت كل الأقنعة ، مهما كان المتخفي وراءها ، كيفما كان ، و أينما كان ! لقد قاربت سلمية ثورة الجزائريين على خط تغيير المنكر على مستوى المجتمع الواحد ( مبدأ اللاعنف ) الذي يحكم فكرة التدافع ، مبدأ الإصلاح : ” إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب ” الآية ٨٨ من سورة هود .
    و مبدأ الإصلاح يبدأ بضبط النفس و التزام الحد الوسط الفاصل بين نافية الأنا و نافية الآخر ، و إلا فإن كلامنا و محاضراتنا و ندواتنا بخصوص سؤال الإصلاح تذهب أدراج الرياح ، و يصدق فينا قول الشاعر : يا أيها الرجل المعلم غيره
    هلا لنفسك كان ذا التعليم
    نراك تصلح بالرشاد عقولنا
    أبدا و أنت من الرشاد عديم
    ابدأ بنفسك فانهها عن غيها
    فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
    فهناك يقبل ما تقول و يهتدى
    بالقول منك و ينفع التعليم
    و لذاك جاء في نفس الآية من سورة هود : ” و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ” . بطبيعة الحال قبل قوله : إن أريد إلا الإصلاح.
    و على هذا الأساس ، إذا كانت الأقلية الاستئصالية قد راهنت على النظام البوليسي إبان تسعينات القرن الماضي إثر الانقلاب على اختيار الشعب ، و بررت سفك دماء الجزائريين بدعوى الدفاع عن الجمهورية ! بهتانا و زورا، فلا يمكن القبول من أي كان أن يأتي اليوم في عز الانتفاضة الشعبية السلمية ، و الوقوف إلى جانب سلطة الأمر الواقع ، و يزايد على الشعب ، كون أقلية مشبوهة تشارك الحراك الشعبي مسيراته يومي الجمعة و الثلاثاء .
    و عليه فإذا كان و لا بد من الوقوف في وجه أعداء الجزائر الحقيقيين، فإنه لا يستقيم مجابهة الشعب بأوزار الاستئصاليين، بل يجب التوجه بالنصح للحاكم و الكشف عن أفكار و أفعال تلك الفئة المقنعة المتسترة، و الوقوف في صف الشعب الذي يريد فقط ، و فقط استرجاع سيادته كاملة غير منقوصة ، و بناء دولة مدنية ، و تعني دولة المواطنة و العدل و القانون . هذا هو مطلب ” مدنية ماشي عسكرية ” ، و لا يجب المناورة بخصوص هذا السؤال الشعبي ، العسكر يجب أن يبتعد عن التحكم في اختيار الرئيس أو نواب الشعب ، هذا هو المطلوب . و إذا تحقق فإن الخاسر الأكبر هو فئة الاستئصاليين المقنعة و المتسترة وراء أكثر من شعار ، بما فيها شعار ” دولة مدنية ” . و الرابح هو الشعب بمؤسساته الجمهورية بما فيها المؤسسة العسكرية .

  2. الحبس أنواع، ليس فقط أن تجد نفسك مسجونا بين أربعة جدران لسبب أو لآخر ، مقيد الحركة و الأكل و الشرب ، و حتى الكلام و ممارسة الرياضة إن كنت تعودت على ذلك و أنت طليق ، لاحظ ، لقد استخدمت كلمة ” طليق ” و لم أستخدم عبارة ” حرية ” ! ببساطة لأن الطليق لا يعني بالضرورة حرا . يمكنكم أن تحبسوا الإنسان بين أربعة جدران ، لكنكم من غير الممكن أن تحبسوا الفكرة ! و على هذا الأساس فإن حبس الأفكار هو الأخطر ، خصوصا في حق المجتمعات و الدول ، أما الأمة فهي قبل كل شيء فكرة و مبدأ و قيمة و منهج حياة ! يمكنكم أن تعطلوا حركة الناس ، و تقطعوا الأنفاس ، و الأرزاق ، لكن أبدا ، لن تستطيعوا حبس الأفكار ! يمكن أن يتبادر للبعض وجود تناقض في الكلام ، إذا كيف يكون حبس الأفكار هو الأخطر ، و في نفس الوقت القول : ” لن تستطيعوا حبس الأفكار ! ؟ بسيط جدا ، لأن حبس الأفكار اختياري بالنسبة للإنسان ، كأن يختار أستاذ جامعي مهمة مدافع أو ناطق رسمي على خط حاكم أو نظام حكم استبدادي ، فهو اختيار ، يمكن أن يتسابق القوم من أجل ذلك ، هذا متاح ، كما أنه في ميزان الحرية خسارة . أما السلطان ، مهما كان ، كيفما كان ، و أينما كان ، لا يمكنه حبس الأفكار ، و بالتالي حبس الأحرار ، حتى و إن قطع أرزاقهم ، و عطل حركتهم ، أو قطع أنفاسهم ! يرحمكم الله ، لا تزايدوا على اختيار الناس في سبيل استعادة الحرية و السيادة في ظل دولة الحق و العدل و القانون ، بوجود قوى الاستئصال و الفساد التي تناور كثيرا على خط السلطان الذي لا يؤتمن جانبه في عالم الإحسان .

Exit mobile version