منذ انطلاق الحراك، في 22 فبراير، وجد بعض المواطنين أنفسهم أمام مأزق، على مفترق طرق، بين خيارين حاسمين، تحفهما مخاطرة جمة، أحلاهما مر، من جهة خيار دعم سلطة عسكرية بحكم الأمر الواقع، سلطة تدعي الوطنية وتجسيد قيم نوفمبر، وتسوّق لنفسها وجها يختلف عن سابقتها بل وتزعم محاربتها، ومن جهة ثانية، خيار مشاركة جماهير الحراك، رغم وجود بين صفوفهم بعض الأشخاص المعروفين بسجلهم القاتم وانخراطهم في جرائم العشرية الدامية. هذا المشهد الملغم دفع فئة من الناس إلى خيار يعتبرونه “أقل الضررين”، أو فضلوه تفاديا “للمجهول”، من خلال دعم “متحفظ ” للسلطة العسكرية ومنحها “سبيل الشك”، والانتظار لتثبت مصداقيتها، بدلا من الوقوف في صف الحراك، جنبا إلى جنب من يدعي الدولة المدنية في حين لم يتردد من قبلُ في ركب ظهر الدبابة، لإسقاط خيار الشعب المعبر عنه بحرية وشفافية، فضلا عن تلطيخ يديه أثناء ذلك، بدماء المواطنين.

الخيار المطروح ليس بين أخيار وأشرار، أو بين وطنيين وخونة أو بين مَن هم على صواب ومن هم على ضلال، بل هو خيار قائم على خلاف في القراءة والخروج بموقف بناء على تقييم وضع معيّن. الطرفان يدركان خطر الدولة العميقة، بإدارتها وإعلامها والمحيطين بها من رجال المال الفاسد واستئصاليها، عسكريين أو مدنيين، محليين أو امتداداتهم في الخارج، وسعيهم الحثيث إلى فرض أنفسهم  وخداعهم بشعارات من قبيل الدولة المدنية ودولة القانون والحريات، وهم الذين شكلوا أكبر معول هدم ودمار، من خلال وقوفهم الثابت إلى جانب الاستبداد بكل أطيافه، ومن ثم ليس ثمة خلاف حول هذا الطرف المندس، لكن الخلاق قائم حول مَن يراه البعض “أخف الضررين”، ويعتبرونه بوابة الإصلاح ولو كان منقوصا، والسؤال المطروح، هل يمكن حقا ومنطقيا وواقعيا الوثوق بهذا الفريق، وتوقع منه تحقيق  جزء من مطالب الشعب، لمجرد تقديمه وعود أمام الشعب؟

لا يمكن لعاقل أن ينخدع بذلك،  لسبب بسيط، لأن هذا الفريق “المعول عليه” لم يقدم أي ضمانة ملموسة تؤكد إرادته في تمكين الشعب من استعادة سيادته، وإنه لمن الغفلة الاتكال على إعلان النوايا دون ضمانات ملموسة قابلة للتحقيق، حتى إن كان هذا الطرف، ممن لهم سجل ناصع لا تشوبه شائبة، فما بل بمن تحوم حوله شكوكا كبيرا، حتى لا نقول تثبت في حقه المشاركة في تلك الجرائم، كيف الوثوق به؟ ومن السذاجة أن يعتقد المرء بناء الدول على أساس الوعود والتعبير عن حسن النوايا، الدول القوية تبنى على مواثيق مكتوبة تضمن مبادئ مشتركة بين الأطراف، يشارك فيها الجميع، وفق خطة طريق يتفق حولها عبر حوار ونقاش يلزم جميع الأطراف، لكن للأسف، هذا ما رفضه الطرف صاحب “اقل الضررين” رفضا مطلقا، في حين، لم يكن ما يطالب به الحراك، أكثر من ضرورة الجلوس حول طاولة حوار شفاف لا يقصى منه أي فئة من المجتمع، ويكون على رأس المشاركين، الطرف المعني، قيادة الأركان، كونها الحاكم الفعلي اليوم. لكن للأسف، الواقع يثبت غياب هذه الإرادة، فمنذ 22 فبراير، تستمر قيادة الأركان في تمنعها فرارا من واجب الالتزام بما يتفق حوله، مما يجعلهم محل ريب وتوجس.

بشأن هذين الخيارين، كان لي حوارات مع بعض الأفاضل، الذين لا يجهلون ولا ينكرون بأن السلطة الفعلية غير بريئة تماما من الفساد، ويرفضون منحها شيكا على بياض، بل يصرون على دعمها بتحفظ حسب قولهم، باعتبارها “محطة” ضرورية للمرور إلى بر الأمان، وحاولت شرح موفقي وإقناعهم أن خيار الحراك لا يعني أن كل من يشارك فيه طاهر وأبيض ناصع، بل يوجد في صفوفه فئات غارقة حتى أذنيها في جرائم التسعينات، لكن السواد الأعظم منهم براء ومحب لوطنه ويسعى بكل صدق وتفان إلى الإصلاح الجذري، من غير الإنصاف رميهم بجرائم هذه الأقلية، والطعن فيهم بجريرة غيرهم.

إذا أردنا وضع حد لمنظومة الحكم الفاسد المستدام، فلا مناص من مشاركة المواطنين هبتهم، والتلاحم معهم، لأن تضافر الجهود هو وحده من يمكن الجميع من تخليص صف الحراك من كل المتسللين، ومثلما أسقط الحراك على مدار أشهره  العشرة، الكثير من الأفاقين، أسبوعا بعد أسبوع، يمكنه التخلص من الباقي. ورغم تفهمي تخوفات المتخلفين عن الحراك، إلا أنني اعتبر موقفهم غير صائب، لأن هذا الحراك، رغم  (أو بفضل) تنوّعه، وحتى حمله تلك الشوائب، إلا أنه يتيح للشعب، لأول مرة في تاريخه ما بعد الاستقلال، فرصة ثمينة، قد لا تعوّض قبل أجيال، ليأخذ زمام مصيره بيده، ويفرض إرادته سلميا، بعد أن أدرك أن كل الحلول المجزأة الأخرى، من داخل هياكل نظام متعفن، قد باءت بالفشل، ولن يسفر الجديد منها إلا إلى استنساخ منظومة الحكم القائمة، بسبب تعنت الحكم الفعلي وغلق مجال مشاركة المواطنين، في تسيير شؤون بلدهم، مشاركة سيادية، لا مشاركة واجهة.

أميل إلى تصوير الخيار الماثل أمامنا اليوم، كالخيار بين من يوثر علاج مغشوش مطمئن، وبين من يفضل مواجهة مرض حقيقي كامن، فالذين يعوّلون على السلطة الفعلية كمن يتناول دواء مزيف يمنحه شعورا كاذبا بالشفاء ويفوّت عنه فرصة السعي إلى العلاج الناجع، الصعب لكن الشافي، أما الذي يركب صعاب الاحتكاك بكافة فئات الشعب ومشاركتهم حراكهم، بمن فيهم من يخالفه ويحاربه، هو كمن يقبل الإصابة بمرض يعرفه، ويسعى بكل ما أتي، بحثا عن العلاج، مثابرا إلى أن يشفى منه.

خيار القبول بالمرض، ولو بدا مستغربا، هو أكثر موضوعية وواقعية إذا تفحصناه بتجرد، لأننا ندرك جميعا أن المجتمع الجزائري مشكل من فئات عديدة، بحلوها ومرها، بمن نرضى عن تصرفاتهم ومن لا نرضى بها ( وقد ترقى بعضها إلى جرائم فعلا)، لكن لا يمكننا ولا يحق لأحد إنكار وجودها، ناهيك عن استئصالها بطرق غير مشروعة، لذا لا بد من تعلم العيش مع الجميع والقبول بهم كأمر واقع لكن، مع إمكانية مكافحة كافة التصرفات الغير قانونية والمضرة بالوطن والغريبة عن المجتمع، مكافحتهم بكل شفافية وحضارية في ظل دولة القانون التي تضمن ذلك، عكس دولة الاستبداد التي لن تعمل سوى على استدامة هيمنتها وكبت كل صوت لا يناسبها  او يعري جرائمها، هنا الفارق الجوهري.

إن خوف البعض من هيمنة هذه الفئات، المعروفة بالأقلية الساحقة، غير مبرر في ظل دولة القانون، لأن مفعولها لم يكن (ولن يكون) ممكنا إلا بفضل رعاية دولة الاستبداد لها، ومن شأن إقامة دولة القانون، خاصة في الظرف الحالي الذي يعرف تلاحكم المواطنين وزيادة وعيهم وحماستهم للتغيير، أن يحمي الوطن من كل المخاطر بما في ذلك تسلل هذه الأقلية الاستئصالية، التي أصبح حجمها الحقيقي معروف لدى الشعب الجزائري، وأضحى الشعب اليوم، قادرا، أكثر من أي وقت مضى على وضعها في حجمها الحقيقي، بكل ديمقراطية وشفافية وحضارية. إنه لمن المؤسف، أن نفوّت الفرصة، التي قد لن نرى مثلها قبل عقود أو أجيال لو، لا قدر الله لم نستغلها اليوم، وعندئذ لن ينفع الندم ولا التبرير.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version