منذ انطلاق الحراك (الانتفاضة، الثورة السلمية، كل حسب وجهة نظره)، بل وحتى قبل انطلاقه، تباينت المواقف إزاءه، بين متحمس للخروج تعبيرا عن سخطه من الوضع المزري السائد طيلة عقود من الزمن، وخاصة منذ مجيء بوتفليقة الذي تميزت فتراته الرئاسية الأربع بدمقْرطة الفساد على كافة الأصعدة، وبين متخوّف من مثل هذه الهبة الشعبية، خشية انفلات الوضع الأمني وتوظيفه من قبل جهات متربصة لإدخال البلاد في وضع لا يحمد عقباه. شهدنا في الأسابيع الأولى (الثلاثة الأولى) انخفضا في حدة التخوّف لدى جزء من الطرف المتوجس، مع تعديل موقفه ومباركته للطابع السلمي الحضاري لهذه الانتفاضة وتثمينه أسلوب المشاركين فيها. لكن بعد ذلك مباشرة، وإلى يومنا هذا (مع مرور 14 أسبوعا)، أصبحنا نعيش فرز جديد في المواقف، لم يعد “مع أو ضد” الحراك، بعد أن فرضت حركة الشعب نفسها ولم يعد بإمكان أحد مواجهتها أو تجاهلها، كوسيلة من وسائل النضال السلمي من أجل التغيير. يرتكز الفرز اليوم، في الاختلاف حول سبل “تجسيد” مطالب المواطنين، مع بروز مواقف وأطراف متباينة، تكاد تصطدم مع بعضها البعض، لكل منها وجهة نظره بناء على قراءته وتحليله للأوضاع، وتقديرا للمصلحة والأولويات كما يراها كل طرف.

يمكننا إجمالا رصد اتجاهين رئيسيين، موقف يدعو عموما إلى تبني خطة طريق قائد الأركان، أي الالتزام بنص الدستور وخاصة المادة 102 منه والذهاب نحو انتخابات رئاسية في موعدها (أو تأجيلها إذا اقتضى الأمر بعد أن تأكد استحالة إجرائها في الموعد)، خشية “الوقوع في فراغ دستوري” من شأنه أن يفتح الأبواب على مخاطر جمة لا قل لنا بها. يقابل هذا الموقف، قطب يعتبر أن ما تام حتى الآن لم يرقى إلى التغيير المنشود وأن الشعب لم يخرج من اجل تغيير في الديكور مع إبقاء منظومة الفساد كما هي، ولم يرفع المواطن صوته طيلة هذه الأشهر الثلاثة ليقبل باستنساخ النظام الفاسد واستبدال فاسد بأخر، من خلال انتخابات ستجري بنفس المنظومة ونفس الآليات وبمسؤولين فاسدين على رأس مؤسسات الدولة، تم تعيينهم أصلا من قبل العصابة التي يوجد كبارها في السجن، ويعتبر هذا الطرف أنه طالما لم نقض على المنظومة الفاسدة التي أنجبت هؤلاء المسؤولين الفاسدين، فمن العبث إجراء انتخابات. وفي ظل هذا التجاذب تعمقت الفجوة بين الطرفين ونشأت حالة من الاحتقان وانعدام الثقة، تكاد تصل إلى تهم التخوين. هذا الوضع المتشنج هو نتيجة غياب الهدوء الذي يسمح لكل طرف بأن يسمع من الآخر، ويجنب الجميع الاستقطاب الأعمى. ما هو الحل؟ أولا تجنب الثنائية التبسيطية الإقصائية، من قبيل “إن كنت مع، فأنت ضد”، والدخول في حوار رصين، متزن بالموضوعية،  كفيل بإنهاء جو التخوين وإجهاض محاولات تفجير الوضع من كل الجهات، وتعبيد الطريق للخروج من الأزمة، حوار مفتوح لا يفرض فيه أجندة من أي طرف، مع دراسة المقترحات والمبادرات المطروحة، التي تلتقي في عدد كبير من بنودها،  حتى إذا اقتضى الأمر تأجيل مكامن الاختلاف لاحقا عندما تتوفر أجواء أكثر هدوء وشفافية.

الملاحظ أن سخونة الجو حرم الطرفين من رؤية أمر جد مهم وخطير في نفس الوقت، وهو أن الطرفين المتناقضين، يضمان في جنبيهما أطياف ذات دوافع متباينة، بل نجد أحيانا ما يجمع بين فئات عريضة من القطبين المتناقضين، أكثر مما يجمع بين الفئات التي يشمها نفس القطب. يمكن تقسيم هذه الفئات داخل القطبين على النحو التالي:

  1. أنصار خريطة الطريق لقيادة الأركان

أ) جزء كبير منهم، إن لم يكن الغالب، لا يمضي على بياض لقائد الأركان وخطة طريقه ولا يثقون ثقة عمياء في قيادة الجيش، وليس من العدل اتهامهم بلاعقي الرنجرس. يعتبر هؤلاء أن مجموعة من قياد الجيش حاليا، تختلف اختلافا جذريا عن قيادة الجيش سابقا، خاصة جنرالات الدم في التسعينيات، وان القيادة الحالية لا تتحمل جرائم نظرائهم في تلك الحرب القذرة على الشعب، ويعود سبب دعمهم اليوم لقيادة الأركان بالأساس، لمواجهة الدولة العميقة التي يعتقدون أن جنرالات التسعينات سواء في الجيش أو المخابرات وراءها، ويخشون أنها تعمل لإدامة الأزمة وإبقاء الجزائر رهينة أتباع فرنسا. بناء على هذه القراءة استقر موقفهم على ضرورة إسناد قيادة الأركان الحالية، وخطتها للخروج من الأزمة، باعتبارها حصنا منيعا كفيل بأن يحمي البلاد والعباد، ويحقق مطالب الشعب ولو كان بالتدريج. جزء عريض من هذه الفئة عاشت مرحلة التسعينات وتعلم حجم الدمار والدم والفساد الذي تسبب فيه جنرالات لاكوست ويرون في ما يجري الفرصة التي لا تعوّض لإنهاء وجود ونفوذ دولة توفيق وتواتي ونزار وقنايزية والعربي بلخير واويحيى ومن على شاكلتهم، ويرون أنه من السذاجة اعتراض طريق قيادة الأركان، لأن مثل هذا الاعتراض يعد ضمنيا وحتما تحالفا ودعما لخندق توفيق، وانتحار وسقوط لن تعود للدولة بعده قائمة. هذه الفئة لها حججها وبراهينها وقراءتها للواقع، وترتيب الأولويات.

ب) هناك جزء انتهازي اعتاد على العلف، يقف دائما إلى جانب “الواقف” ويرى الآن في قيادة الأركان الطرف المتغلب، ومن ثم فمن الطبيعي أن يصطف إلى جانبه، بصرف النظر عن حقيقة ما يفكر فيه أو حقيقة مواقفه، ولن يتردد عن التحوّل إلى القطب المعاكس لو تغيرت الأوضاع، ومعظمه كان أصلا من المتزلفين لبوتفليقة وتوفيق، فأصبحوا بين عشية ضحاها من جنود قائد الأركان، واكتشفوا فجأة انتمائهم الوطني الباديسي االنوفبمري، ليهللوا مع المهللين.

ج) جزء يريد “السلم والأمن” ليس إلا، ولو كان على حساب حريته وكرامته، وهؤلاء يفضلون أمن الدبابة التي يوفرها لهم الجيش على مشقة مسار الحرية، التي تكلف عادة الكثير من الجهد والصبر والعناء بل وحتى الدماء، من أجل الوطن.

2-  أنصار مرحلة انتقالية من أجل بناء دولة مدنية

أ) الجزء الأكبر من هذا القطب يطالب بدولة مدنية، تقوم على أساس القانون والعدل، بمؤسسات قوية وفصل بين السلطات لضمان سير شؤون البلاد بطريقة شفافة وراقية، ويرفض استمرار الحكم العسكري حتى ولو كان من وراء الستار، وهذا الطرح ليس له أي عداء أو خصومة مع مؤسسة الجيش من حيث أنها حامية الحدود والبلاد عملا بالدستور، وليس حتى مع جنرالاتها بصفتهم هذه، ولا يريد هؤلاء استنساخ تجارب الماضي عندنا أو عند الجيران. موقفهم من الدولة العسكرية لا يعني البتة قربهم من خصوم قائد الأركان حاليا، او من فريق توفيق تحديدا ومن يدور في فلكه، سواء من المدنيين والعسكريين، في الداخل أو الخارج، بل يحملّون الدولة العميقة بعسكريها من اليناريين وسياسييها من الاستئصاليين كامل المسؤولية عن الدمار الذي نعيشه اليوم، وكان عدد كبير ممن يطالبون بالدولة المدنية في مقدمة ضحايا هؤلاء المجرمين الاستئصاليين، فلا يعقل إذن اتهامهم بموالاة هذه المجموعة الدموية، لكن عداءهم لليناريين لم يدفعهم إلى قبول خطة تبدو في ظاهرها تستجيب لمطالب الشعب، في حين تكرس وضعا لا يختلف عن وضع 92، إلا من حيث الشكل، وإذا كان الانقلابيون قد استمدوا في 92 حكمهم وسندهم من الأقلية الاستئصالية الساحقة، بحجة محاربة الإرهاب للتغطية على انقلابهم المشؤوم ضد الشعب والدستور والأحزاب الثلاثة الفائزة، فاليوم يتمسحون بالبعد الحضاري العربي الإسلامي تحت شعار النوفببرية البادسية. تكمن الخطورة في تبني مثل هذا التوجه، في الاعتماد على الشعارات والوعود، من دون ضمانات عملية تثبت أن الشعب سيسترد سيادته في نهاية المطاف. وإذا كان من الإجحاف الحكم المسبق على النوايا وبناء السياسات على سوء الظن، فليس من الحكمة أيضا ولا الكياسة وضع مصير بلاد بين أيد مجموعة من الجنرالات يتحكمون في مؤسسة الجيش، لنستيقظ لا قدر الله بعد مدة على كابوس من صنع أيدينا، لهذا السبب يرى هذا الطرح أن السبيل الأوحد الذي يكفل حقوق الشعب ويضمن تفادي المجازفات، ويقطع الطريق أمام كل المتربصين، سواء من جنرالات الدم أو الانتهازيين من كل الأصناف، يمر عبر دولة مدنية، تقوم على القانون والعدالة، ومن المفترض أن لا يشكل ذلك هاجسا ولا خطرا على مؤسسة الجيش التي ما فتئت تصرح بأنها تعمل على تحقيق مطالب الشعب، بل إن تلبيتها هذه المطالب بقدر ما يقوي صف الشعب ومطالبه المشرعة فهو يقوي في نفس الوقت شوكة وموقف الجيش للتصدي لمخططات الدولة العميقة، من بقايا توفيق في الداخل أو الخارج.

ب) يوجد ضمن من يرفع هذا المطلب فئة لا تعنيها دول مدنية ولا دولة القانون، كل ما تريده هو الانتقام من مؤسسة الجيش كونها أجهضت مطامعها وقضت عليها قبل أن تقضي هي على خصومها، وهؤلاء ينتمون لمشارب مختلفة تجمع بينهم المصالح التي استحوذوا عليها في ظل الدولة البوليسية منذ التسعينات وحتى قبل ذلك، وبعضهم يضمر حقدا دفينا للانتماء الحضاري للجزائر وشعبها.

ج) جزء آخر رأى فرصته في ركب موجة الحراك للظفر بمغانم بعد أن استفاد قبل ذلك من مغانم حققها في ظل الحكم البائد، وله نظيره أيضا في الطرف الآخر.

طبعا توجد فئات أخرى لا يسع المجال لتعديدها، لكن الدرس المستخلص من كل ما سلف ذكره، هو ضرورة عدم التسرع في الحكم والاتهام، لأننا في التخوين والشكوك نسهم في تأخير الحل وربما نسفه، وقد نجد بين الفئات العريضة في الطرفين، ما يجمع بينها أكثر مما يفرقها بل وحتى أكثر مما تشترك فيه مع أصناف داخل صفوفها، والحوار الهادئ وإصغاء كل طرف إلى الآخر، كفيل بتلطيف الأجواء المشحونة وتبديد غيوم التوجس، بما أن الدافع الأساسي المشترك يبقى إنقاذ سفينة الجزائر وبناء معا هذا الوطن المنكوب، علما أن الاختلاف كما يقال لا يفسد للود قضية، ناهيك على أنه قد يشكل عامل تكامل نحن في أمس الحاجة إلى تشجيعه وتعبيد الطريق لجعله لبنة من لبنات الحكم الراشد.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version