“قولوا لأصحاب البدع بيننا وبينكم الجنائز” مرة أخرى  يجسد الشعب الجزائري بكل صدق وعفوية هذه المقولة المتحدية للإمام احمد رحمه الله ويظهر وفائه واعترافه لفضل المخلصين من أبنائه، ذلك بإقامته تلك الجنازة المليونية لمرافقة ابنه البار الشيخ عباسي مدني إلى مثواه الأخير بمقبرة سيدي أمحمد مثلما أقامها لمن سبقوه إليها من مشايخه  العظماء وقدوته الشيخ البشير الإبراهيمي ومالك بن نبي رحمهما الله. كانت جنائزهم اكبر تكريم لهم وأعظم دليل على تبني الشعب لأفكارهم ومنهاجهم.

         لقد منّ الله على الشيخ عباسي مدني بان يسر له بعد هجرة قصريه أن يدفن في أرضه التي أفنى عمره مجاهدا بالسلاح أولا ثم بالكلمة وبالقلم في سبيلها، فهو احد الرموز الأوائل في الكفاح ضد المحتل الفرنسي البغيض؛ انخرط في أربعينيات القرن الماضي  في ريعان شبابه في حزب الشعب الجزائري ثم أصبح عضوا في المنظمة السرية للحزب كما  شهد لي بذلك المجاهد جاب الله لمين رحمه الله، مسؤول الحركة الوطنية والمنظمة السرية  في مدينة جامعة ولاية الوادي حاليا، والذي اعتقل سنة 1951 وسجن 8 أشهر في حبس الكدية في قسنطينة، حيث  روى لي أن عباسي مداني أتاه إلى جامعة  في أوائل خمسينيات القرن الماضي مكلفا بمهمة من القيادة في الشمال وكان لا يتجاوز العشرين من عمره وكذلك تؤكده مشاركته العملية في “الكومندوس” الذي كلف بنسف إذاعة الاحتلال في الجزائر العاصمة ليلة أول نوفمبر 1954 والذي اعتقل مباشرة بعدها ليذوق من وولاة التعذيب وسجن العدو طيلة سبع سنين ونصف.

        تعرفت على الشيخ عباسي أواخر سنة 1965 في نادي الترقي في العاصمة مقر جمعية القيم الإسلامية التي كان عضوا بارزا  فيها خاصة في اهتمامه المتميز على سائر الأعضاء بالشباب بإشرافه على تنظيم ندوات ورحلات لهم وكان عددنا كطلبة جامعيين من بينهم قليل الأمر الذي يسر لنا التعرف على الجمعية وأعضائها  وبالأخص الشيخ عباسي الذي أصبحت تربطنا به علاقات مودة وتعاون. اذكر من بين الندوات التي حضرتها تلك التي أقامها في فناء – كنيسة السيدة الإفريقية –بأعالي حي بولوغين وكان ضيفها الشيخ محمد الصالح النفر الذي ألقى محاضرة تبعتها اسأله ومناقشة، وأخرى بغابة  “باينام ” كان ضيف الشرف فيها هو الشيخ مصباح حويذق رحمهما الله.

          في صائفة 66 دعاني الشيخ عباسي لمرافقته في رحلة إلى منطقة ميزاب مع الشيخ القرادي أصيل مدينة العاطف والتاجر بالحراش والذي كان على ما أظن عضوا في الجمعية؛  أثناء تلك الرحلة تعرفت عن قرب على شخصية الشيخ التي تتميز بالتواضع وبساطة العيش و طيب المعاملة مع الجِدِيّة والسّمت الحسن، لم أشعر معه ولو مرة بتكلف أو حرج،  كان رحمه الله  مثالا في الأدب والإيثار مع مرافقه حيث كان يحرجني حين يسألني ما رأيك سي محمد عندما يدعوه احد مضيفيه إلى زيارة مكان مثلا، كانت الابتسامة لا تفارق  محياه منصة لمحاوره ولا يتكلم إلا بتأن؛ كما اكتشفت علمه واطلاعه على التاريخ أثناء نقاشاته الودية مع أعيان المنطقة وعلماءها الذين جلسنا معهم كالشيخ بيوض والشيخ ابو اليقضان والشيخ عدون والشيخ المرموري رحمهم الله جميعا.  في طريق عودتنا استضافنا احد أصدقائه في مدينة الاغواط واحتفى به حيث دعي لحضور العشاء والسهرة مجموعة من الأعيان. في تلك الرحلة أدركت بعد ما حضرت كل ما دار فيها من حوارات ونقاشات كذلك بما يحظى به الشيخ من احترام وتقدير أنني بصحبة رجل تاريخي من طراز الرموز الذين كثيرا ما كان يستدل بها كالعربي بن مهيدي وبلوزداد وبن بولعيد وابن باديس؛  كان همه الوحيد نصرة دينه وعزة وطنه بروح المناضل وعزيمة الثائر التي نشأ عليها منذ نعومة أظافره.

        استمرت لقاءاتي معه في محاضرات نادي الترقي وفي بعض المناسبات الدينية والفكرية، وكنت كلما التقية ترسخ في ذهني صدق الرجل وإخلاصه في وطنيته وغيرته على دينه وبلده؛ كانت شخصيته تنبض بحيوية الشباب  لم تفت الأيام ولا المكانة ولا ظروف العيش الجديدة ومغريات الحياة المتاحة، من ثورته عن الظلم والفساد الأخلاقي والمادي، كان يرى إن الثورة لم تكتمل ما لم تتحقق أهدافها التي نص عليها بيان أول نوفمبر وان استكمالها يكمن في الدعوة الصادقة إلى الله وإعادة الناس إلى مبادئ الإسلام ولهذا كان كثيرا ما يردد الكلمة الخالدة الذي أطلقها الشهيد العربي بن مهيدي “ارم الثورة في الشارع فسيلتقطها الشعب” ليُدلِّل على أن نجاح الدعوة يكمن في احتضان الشعب لها.                                                                                                              كما اشهد أني ما سمعته يوما يفتخر أو حتى يُذكِّر بماضيه النضالي المشرف ولكنه كثيرا ما يتكلم عن أمانة الشهداء ويمجد إخلاصهم وتضحياتهم.

        كان افتتاح مسجد الطلبة بالجامعة المركزية وإقامة أول ملتقى للفكر الإسلامي تحت إشراف طلبة ندوة مالك بن نبي رحمه الله  فرصه لكي تكون للشيخ عباسي اتصالات مع الطلبة والأساتذة الذين يعتادون المسجد ودور الصلاة التي أقيمت بسرعة مذهلة في الإحياء والمراكز الجامعية وأصبح الشيخ من ابرز مدرسيها. في بداية سبعينيات القرن الماضي توسعت دائرة المهتمين بالشأن الإسلامي من الجامعيين ووقعت لقاءات يحضرها كل من السادة عباسي مدني وعبد الوهاب حمودة ومحفوظ نحناح رحمهم الله وكذلك الدكتور عمار طالبي والإخوة عبد القادر حميتو وعبد العزيز بوليفة ومحمد جاب الله وعبد الحميد بن شيكو ومحمد بوجلخة التي أصبحت تربطه بالشيخ عباسي علاقات صداقة واحترام متبادل كبيرة. كان من المؤمل أن ينتج عن ذلك عمل دعوي موحد نابع من صلب التجربة والواقع الجزائري ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن وللطموحات الشخصية والقناعات دورها فظهرت في منتصف السبعينيات وجهات نظر وانتماءات مختلفة وفشلت المحاولة المشتركة في مهدها ولكن بقيت العلاقات الشخصية واستمر التعاون والتشاور مع الشيخ عباسي حتى اثناء إقامته في بريطانية أين انهي دراسة الدكتوراه في علوم التربية، وبعد عودته  برز الشيخ عباسي كداعية مستقل بأسلوبه الثوري المتميز دون دعوة للعنف ولا التجريح ولكن بصراحة وشجاعة المناضل التاريخي الذي لم تلطخه مغانم ولا امتيازات الحاضر؛ كان رحمه الله يتميز بالثبات في المواقف والثقة في النفس والعزيمة في الدعوة؛ ولقد استمر يتعامل بنفس الأسلوب بعدما أصبح رجل سياسة وقائد حزب وبقيت بينه وبين اغلب الأسماء التي ذكرت علاقات صداقة ومودة رغم الاختلافات في وجهات النضر وتصورات وسائل العمل والمناهج لا يتسع المقام لذكرها الآن.

        لقد تبيّن بعد وفاة الشيخ عباسي مدى المكانة والتقدير الذي يحظى بهما لدى علماء الأمة ودعاتها في كل أصقاع العالم واصدق واشمل ما وصفه به احدهم قوله “كان الشيخ عباسي نموذجا متفردا جديدا للإسلام السياسي يجمع بين النضال التاريخي الثوري والدعوة العلمية والصبر والشجاعة  والإصرار على المبدأ “

        رحم الله الشيخ عباسي مدني وجزاه عنا وعن الإسلام كل خير واسكنه فسيح جنانه مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقا.

                                                                 الوادي في 30/04/2019

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version