كل ثورة شعبية تنتج مفردتها الخاصة، تتحوّل إلى عنوان تتميز به عن غيرها. عندنا في الجزائر أصبحت عبارة “تتنحاوو قاع” المنتشرة في ربوع الوطن، عنوانا لثورة 22 فبراير، شعارا يُرفع كل يوم جمعة وحتى في أيام الأسبوع الأخرى، إنه شعار بارع يلخص جوهر الأزمة ومطالب الثائرين ضد النظام الفاسد المستبد الذي احتكر الحكم طيلة نصف قرن من الزمن، وجثم على صدر الشعب بالحديد والنار.

بهذا الشعار المختصر والمبتكر أجهض الشعب اليقِظ كافة مناورات السلطة التي حاولت الالتفاف عليه عن طريق استبدال وجوه فاسدة عتيقة بأخرى تعتقد أنها ستُخمد ثورته وتعيده إلى البيت، لكن ثبات الشعب وعزيمته الصلبة نسف كل المحاولات، خلال الجُمعات المتتالية، وبفضل وعيه وتجربته المتعاظمة، قدم الشعب دروسا في روح الوطنية والحضارية والحس السياسي، وأخرس المتربصين الذين احتقروه على مدة عقود من الزمن، وأبهر العالم بتلك الصورة الأسطورية التي قلّ نظيرها وأصبحت بمثابة أيقونة ترمز للنضال السلمي الراقي في الجزائر.

يعتبر البعض، منهم عن حسن نية، والكثير عن مكر وخبث، أن مطلب ” تتنحاوو قاع”  مطلبٌ تعجيزي كونه لا يقبل أي تسوية أو حلولا وسطى أو التفاوض بشأنها، وأن هذا الشعار يرفض الجميع، ومن ثم لا يقدم حلا موضوعيا واقعيا، مثلما جاء في تصريح قايد صالح في حطابه من وهران. لكن هل معنى هذا المطلب هو كما يدعون؟ كلا.

أولا، شعار “ينتحاوو قاع” لا يعني نصب محاكم تفتيش وتصفية حسابا للقضاء على هؤلاء المسؤولين، بل يعني فقط أن الفاسدين الذين ثبت فسادهم وأوصلونا إلى هذه المحنة لا يعقل أن يتوّلون إدارة المرحلة الانتقالية وتحمّل أي مسؤولية فيها، لأنهم ببساطة فاسدون وفاشلون ولا يثق فيهم أغلبية الشعب، ومع ذلك، عندما تقوم دولة القانون والعدل، لهم أن يتقدموا إلى المواطنين  ليقول رأيه فيهم بكل حرية وشفافية، هذا، في حالة عدم ثبوت جرائم بحقهم.

ثانيا “تتنحاوو قاع” لا يعني مثلما يرّوج له المغرضون، أن الشعب يزايد من خلال رفضه جميع الوجوه المقترحة للخروج من الأزمة، الجميع المقصود في “قاع”، هم الذين عاثوا في الأرض فسادا، لدى توليهم مراكز عليا، سواء في الحكومات المتعاقبة أو المجالس المنتخبة (بالتزوير) أو الإدارات، على مر العقود الماضية، وتورطوا في فضائح جمة ومهولة، ومن ثم لا يمكن للشعب الثائر الذي يطالب بالتغيير الجذري أن يقبل بمن كان سبب محنته ومآسيه، ولا يعقل تحقيق الإصلاح بأدوات الفساد.

معنى الشعار أن الشعب لا يرفض الواجهات الفاسدة فحسب، لأنه يدرك أنها مجرد أدوات منفذة، توظفها دكاكين تحت أرضية متوارية، إن ما يرومه الشعب هو تنحية من يعيّن ويحرك هذه الواجهات ثم ينهي مهامها عند الاقتضاء ليستبدلها بأخرى، أي باختصار الشعب يريد من خلال “تتنحاوو قاع” استعاد حقه في التعبير والاختيار والتمثيل دون وصاية وبشفافية، ومعناه أنه لن يقبل بعد اليوم أن تُتَخذ القرارات نيابة عنه وباسمه زورا وبهتانا، من وراء الستار.

“تتنحاوو قاع”، معناه أننا لا يمكن أن نبني دولة القانون والعدل بأدوات الاستبداد والدكتاتورية، ولا يمكن للشعب الذي خرج عن بكرة أبيه رافضا لفساد والمفسدين الذين تسببوا في وضعنا المزري، أن يقبل بأن تسير مرحلة انتقالية نفس الشلة التي هلكت الحرث والنسل. “تتنحاوو قاع” تعني أن الشعب قرأ الرسالة قبل أن تكتبها العصابة، وأنه من العبث أن يعوّل الأفاقون على سلاح المماطلة (وحرف الثورة عن مسرها أو شق الصفوف) وعلى توظيف فترة 90 يوما لإخماد ثورته والضحك عليه بتغيرات فولكلورية، لقد صبر الشعب نصف قرن على حكم العسكر ومافيا نهب المال العام، فما هي 90 يوما؟ إنها بمثابة فسحة له ومدرسة بل وجامعة مفتوحة يطبق فيها عبقريته، ولن يعود إلى بيته قبل أن “يتنحاوو قاع” وهذه المرة لن تجدي كل مناورات الدجالين، بشقيها الترغيبي والترهيبي.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version