النموذج الورقلي في الكفاح اللا عنفي، يقض مضجع أوكار الفساد

بعد انقشاع الضباب تتجلى دائما الصورة.

نظّم أهل ورقلة وقفة احتجاجية عبروا فيها بشكل سلمي حضاري عن تنديدهم بالفساد وإهدار المال العام والإهمال واشتكوا مما يعانونه من حرمان  ضروريات الحياة، واختتموه وقفتهم بأداء الصلاة جماعة، بصفتهم جزائريين، يمارسون حقا من حقوقهم المشروعة. لكن أعين متربصة لم ترض ولم تطمئن لذلك المشهد النوعي السلمي الذي أقض مضجعهم وزرع الهلع وسط صفوفهم، فثارت زوبعة منسقة من جهات عديدة، تلتقي في نفيها الحضاري، ومحاربتها لكل ما يمت بقيم الشعب الجزائري ويخدم مصالحه.

تبديدا لموجة التضليل والافتراء، معروفة الجنس والمصدر، لا بد من الإشارة، بأن أهل ورقة، لم يخرجوا للصلاة في الشارع (وإن كان ذلك حقا من حقوقهم المشروعة كمواطنين مسلمين لا يمنعهم من ذلك مانع)، ولم يكن هدفهم منع حفل موسيقي، أو عرقلة تنظيم الاحتفالات في حد ذاتها أو أنشطة ثقافية، حتى ولو لم تروقهم، ولم يكن هدفهم التعبير عن موقف مساند أو معارض للغناء والرقص أو غيره من الأنشطة، مثلما زعم مروجو الأباطيل، فهذه أذواق ولكل شخص ميوله وأذواقه الخاصة، وأهل ورقلة مثل غيرهم من سكان الوطن، أسمى من الوقوع في معارك طواحين لا تمس بجوهر المشكلة التي تعاني منها البلاد، ولو لم يعجبهم هذا النوع أو ذاك من الغناء، لاكتفوا بمقاطعته وعدم حضروه ببساطة. إن ما أرادوا التعبير عنه، عكس كل أباطيل غربان الظلام، هو رسالة يوجهونها إلى مسؤولي الولاية والبلاد، مفادها: كفى تبذيرا لأموال الشعب، كفى استهتارا بمصالح المواطنين، كفى احتقارا للجزائريين، كفى نهبا، وتحريف وجهة إنفاق أموال خزينة الدولة في احتفالات خارج الزمن والمكان، في وقت يُحرم فيه المواطن من أبسط الضروريات، تلك كانت رسالتهم، التي حاولت شبكة الفساد حرفها وصد أنظار الشعب عنها، فأطلقوا أجهزتهم المختلفة لنهش لحم أهلينا، افتراء وتضليلا.

لم يفت كل مراقب حصيف نزيه أن الهدف الأساسي لجوقة المحرضين على اختلاف مشاربهم ومواقعهم، هو خلط الأوراق لتعفين الوضع وزرع بذور الفتنة، من خلال تحريف مطالب أهل ورقلة وتوجيه المعركة في غير مجراها الحقيقي. لكن إذا خلّصنا المشهد مما علق به من عناصر”التخلاط”، تتجلى لنا الصورة واضحة. ترمي هذه المحاولة إلى صد الأنظار عن لب المشكلة التي تنخر جسم الجزائر من فساد مستشري أصبح النهج المعتمد في الحكم. وتدرك الجهات وراء محاولة التضليل وتعكير الجو وتخويف الناس بالعشرية الدامية (الفزاعة المستعمل طيلة عقود)، أن مطالب أهل ورقلة مشتركة بين مطالب كافة المواطنين في الجزائر، ولذا فهي تخشى من انتقال حراك الاحتجاجات، على النمط الورقلي إلى كافة المدن الأخرى.

تذكير بالحدث: تمت فعاليات وقفة أهل ورقلة، دون المساس بالأملاك، عامة أو خاصة، ودون أدنى عنف أو شغب، كان احتجاجهم نموذجي لا ينكره إلا فاجر اشر، فما كانت إلا لحظات حتى انهالت عليهم أمواج من التهم والشتائم والتجريم، من جهات معروفة، منفوخ فيها إعلاميا، لا تشكل في الواقع أكثر من 1 % من مواطني البلاد، ولا تزال هذه الجزر الهزيلة المنفية فكريا ووجدانيا، تجسد الأقلية الساحقة، التي نفخ من حجمها إعلام الكولون والأقدام السوداء الجدد، فتحولت مطالب أهل ورقلة بفعل فاعل وقدرة قادر، من مطالب مشروعة، بأسلوب راق، يفترض مكافأتهم عليها، إلى “أعمال عنف” تستلزم معاقبة أصحابها كما “نصحت” به بعض الأقلام.

لكن من أجل الإنصاف والتوصيف الدقيق، من المفيد التمييز بين مختلف الفئات التي انتقدت (ونددت أو جرمت) طريقة احتجاج أهل ورقلة التي انتشرت لاحقا وانتقلت إلى مناطق أخرى من البلاد.

  • أولا هناك فئة “أيديولوجية” رهينة أغلالها النفسية، لا تستطع الانفكاك عنها، تعرف أنها منبوذة، ويخنقها الجو الذي يتنفسه الشعب الجزائري، وتحلم باليوم الذي تستفيق فيه لترى البلاد خالية من أهلها، تماما مثلما يحلم الصهاينة بخلو فلسطين من أهله، ويخلو لهم الجو، وهذه الفئة المنبوذة الغريبة عن طينة الجزائر ونسيمها، لا وجود لها سوى في ظل وحماية الدبابة، التي سمحت لها بالبقاء، ولا عجب أن تثير ثائرة وهلع هذه الفئة، مشاهد وقوف أهل ورقلة في صلاة جماعية، لأنها تتوجس وترتعد من الصلاة وكل ما يرتبط بها، تماما مثل هلع إبليس عند سماعه آيات الذكر الحكيم؛
  • هناك أيضا فئة انتهازية، تعرف أن مصيرها مرتبط ارتباطا وجوديا بمصير السلطة القائمة، وبالتالي لا ترى بدا من إدانة واتهام كل من يعترض على الوضع القائم ويهدد أركان صاحب النعمة، ولهذا شعرت هذه الفئة هي الأخرى، بأن احتجاجات ورقلة خطر عليها، ويوشك حرمانها من العلف من موائد السلطة، وكانت ستتصرف بنفس الطريقة لو عبر أهل ورقلة أو غيرها بطريقة سليمة من نوع مختلف، طالما أنه قادر على تهديد أركان السلطة المفروضة على الشعب؛
  • فئة ثالثة، لها أحكام مسبقة، وتستمر في النظر برؤية ضيقة متحيزة عاف عليها الزمن، اعترضت على صلاة المحتجين، لأنها تعتبر ذلك تسييس للصلاة، وتعتقد أن الاحتجاجات لا بد أن تبقى بعيدة عن ذلك، فهذه الفئة، رغم نضالها، على ما تقوله من أجل حقوق المواطنين ومحاربة فساد السلطة، حمّلت الصلاة مسؤولية ما يحدث، وتجاهلت جوهر المطالب التي من أجلها نظم أهل ورقلة احتجاجاتهم، وفات هذه الفئة أن أهل مدن الجنوب، سبق أن نظموا وقفات احتجاجية بطرق سليمة أخرى (من غير الصلاة)، ومع ذلك، لم ينجوا من ألسنة دعاة الفتنة (أصحاب اليد الخارجية) ولا من قمع السلطة، والسؤال الذي يجب على هؤلاء الذين يطالبون بالتغيير، أن يطرحوه على أنفسهم، كيف يريدون للشعب أن ينتظم للتعبير عن مطالبه، في مكافحة الفساد، واستعادة سيادته وكرامته، إذا كانوا هم من جملة من يتهمه دون تمحيص، ويخونه ويجرم طريقته؛
  • فئة اتهمت المحتجين بأنهم سلفيون، وكأن هذه تهمة تكفي لوحدها لإخراجهم من حق المواطنة والتعبير، هذا إذا افترضنا أنهم فعلا كذلك، رغم أن الواقع يثبت أنهم مواطنون من ورقلة قبل وبعد كل شيء. وفيهم من لمّح إلى أنهم من سلفية خاصة ( يقصدون المدخلية)، وجهل أو تجاهل هؤلاء أن هذه السلفية لا تؤمن أصلا بالتغيير ولا بمكافحة الظلم ولا حتى بالاحتجاجات التي تكفر تنظيمها، وتقف دائما إلى جانب الحاكم المتغلب حتى لو جاء على ظهر الدبابة ووديان من الدماء، والأمثلة على ذلك أكبر من أن تخصى؛
  • لوبي المال الفاسد، سواء على الصعيد الحكومي (من مجالس منتخبة ووزارات) أو قطاع خاص من رجال نهب المال، كل هذه الأطراف تستخدم المناسبات كالحفلات للتغطية على استحواذها على ملايير الدينارات التي يفترض أن تخصصها للمشاريع البناءة، في حين يتم استنزافها في مصالح خاصة ثم التستر على تلك الثغرات بحملات غنائية وما شبهها.

يلاحظ أن جميع هذه الأطراف، التي تشكل شبكة أخطوبوطية، رغم عدم تجانسها ظاهريا، تعمل على هدف واحد، يروم إلهاء المواطن في دهاليز حالكة وأتفه الأمور، ومحاصرته بقضايا هامشية تجعل من الصعب عليه التحرر من شراكها، لكي لا يفكر في شؤون مصيرية كتسيير شؤون بلاده وحقه في محاسبة المسؤولين في أداء وظائفهم وفيما ينفقون أموال الشعب ومتابعتهم على نهب أمواله، أو حرف مسار إنفاقها، من المصلحة العامة إلى جيوبهم وحساباتهم البنكية الخاصة، لذا نرى تنسيق كافة هذه الأطراف لمحاربة كل من يعمل على توعية الشعب ولفت انتباهه إلى مكمن الضرر وتسليط الضوء على بؤر الفساد، فيلفقون له التهم التي أصحت نمطية، كالتوظيف السياسي أو اليد الخارجية أو تهديد استقرار وأمن البلاد والعمالة. والغريب أنه في الوقت الذي تصرف أموال طائلة في ما لا يعني المواطن، خرج علينا ساسة السلطة بتصريحات مقيتة تتهم فيها المرضى المصابين بالسكري بالتبذير في استعمالهم وسال قياس كمية السكر في دمائهم، أو اتهام المساجد بالتبذير في استعمال الكهرباء، بزعم ترشيد الإنفاق، في حين حفلة واحدة تكلف ضعف ما يستخدمه جميع المرضى من تجهيزات، وما تستهلكه مساجد الوطن طيلة سنوات من كهرباء.

لكن هذه الشبكة التي انطلقت حبال أصواتها نهيقا وصياحا ضد أهل ورقلة، لم تنطلق بمحض إرادتها، ولم تكن سوى البوق الذي من خلاله تسيّر العصابة في الحكم، حركة “التنديد”، مثلما خططت ونظمت وهيكلت لجنة إنقاذ الجزائر، قبل 27 سنة، لإجهاض خيار الشعب، وفرض سلطتها الفعلية بالحديد والنار. وقد أدركت هذه السلطة اليوم مدى خطورة هذا النوع من الاحتجاجات السلمية على بقائها، كون هذه الطريقة تنزع منها مبرر استعمال العنف لكسر شوكة الحراك، وتجعل سلاحها الأبدي المفضل عديم الجدوى، وأدركت أيضا أن انتشار مثل هذه الاحتجاجات النوعية مؤذن لزوالها، فأطلقت على عادتها، العنان لأبواقها الإعلامية والجمعيات العليفة والشخصيات الوصولية لنهش لحم أهلينا في ورقلة وتشويه كفاحهم المشروع.

خلاصة القول، لقد أسقط أهل ورقلة وسيدي بلعباس وغيرهم من أشراف الوطن، أقنعة الكثير من سماسرة الحقوق والحريات، وأثبتوا نجاعة النضال السلمي الراقي، ولو كانت تلك النتيجة الوحيدة من نضالهم، لكفت وشفت.

تعليق واحد

  1. بشة بتاريخ

    الساحة الجزائرية حبلى والحمل ثقيل ، فإذا كان الحراك اللاعنفي من الوسائل المشروعة التي تؤتي اكلها ولو بعد حين ، فإن الشعار الوحيد المناسب في مثل هذه الظروف والصروف هو الراية الوطنية والمطلب ذي الأولوية القصوى هو وضع حد للفساد ، والجهة التي يوجه لها ذلك هو رئيس البلاد ، كل ذلك لقطع الطريق على المتربصين على اختلاف أغراضهم ، التجار القيصريون حاضرون لإ لحاق الأذى بالجميع من دون حياء ولا شفقة ، المطلوب من أهل ورقلة وكل أبناء الجزائر تفويت الفرصة على الأشرار الحاقدين ، الصلاة عماد الدين ، فإذا كان ولا بد من أن نصلي ونسأل الله فليكن ذلك في السراء والضراء ، مكانا وزمانا ، ولتكن الصحوة ضمن الحراك اللاعنفي اجتماعية وجامعة ، لا حزبية أو انتقائية : ” يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ” الآية 7 من سورة محمد . ” . دعوات الفصل بين الدعوي والسياسي وليدة الواقع العربي ، والثورات المضادة اعتمدت على التضليل والتدليس والتشويه ، ( الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ) ، من الحكمة : أن نجمع ولا نفرق ، أن لا نهدم إلا إذا كان الهدم ضرورة من ضرورات البناء ، أن نفعل عامل الزمن لكونه أحد أهم عناصر المعادلة التي نحن بصدد النظر البحث عن حلولها ، لا يلدغ المؤمن من الجحر مرتين ، … والسلام على من اتبع الهدى .

Exit mobile version