قد يعتبر البعض أن “الخوض” في النزاع المحتدم في الخليج العربي وما تتعرض له دولة قطر من حصار ومحاولة زعزعة أركانها، أمر لا يعنينا أو هو ثانوي في أحسن الأحوال. هل الأمر كذلك حقا؟ في ضوء المؤشرات المتوفرة وإرهاصات مخاض الساحة العالمية، أعتقد أن الأمر يعنينا بالفعل وبالدرجة الأولى، وليس فقط من باب تآزر أعضاء الجسد الواحد ضمن الوطن الواحد والأمة والواحدة، بل من باب أن ما تتعرض له قطر ما هو إلا لبنة ضمن خطة تشكيل المنطقة وفق رؤية صهيونية، بشقها العربي والإسرائيلي الغربي، للقضاء على كل إرادة التحرر من الاستعباد بأوجهه الحديثة ولكسر شوكة كل من يرفض الاستبداد وإطفاء كل شعلة تروم استعادة كرامتها وسيادتها، ولا اعتقد أن عاقلا يجهل أن القضية تتجاوز هذه الدولة الصغيرة، كما لا يجهل أحد، من الأصدقاء والأعداء على حد سواء، أن قطر لا تشكل خطرا حقيقيا على أي جهة، ولم تقدم على أي اعتداء أو تهديد ضد أي جهة، وهي أصلا لا تستطع ذلك حتى لو رغبت فيه، مما يثير السؤال البسيط، ما الذي فعلته قطر إذن حتى تستحق هذا الحصار وتفتح في وجهها هذه الهجمات المتلاطمة، أو ما هي الرسالة التي يرغب الثلاثي السعودي المصري الإماراتي، تمريرها لجهات بعينها من خلال محاصرة الحلقة الأضعف، قطر؟

إذا نظرنا إلى جسامة حملة هذه الدول الثلاثة (ولا تعدو كونها رأس حربة تتحرك نيابة عن تحالف عربي وعجمي أوسع)، يتخيل إلى المرء وكأن قطر اقترفت جريمة مهولة، لكي تستحق مثل هذا الرد المفزع، لكن كل الوقائع الميدانية تدحضان ذلك، ولا دولة واحدة من هذا التحالف أو غيره تستطع أن تقدم واقعة واحدة موثقة تثبت اعتداء قطر عليها أو على غيرها، كما ليس هناك أي “عملية إرهابية”، يمكن ربطها مباشرة أو بشكل غير مباشر بقطر، في حين لا تقل الدلائل التي تشير إلى الصلة، المباشرة وغير المباشرة، التي تربط “أعمال إرهابية وجماعات إرهابية”، من منفذي هجوم 11 سبتمبر ونشأة القاعدة ثم داعش، بدولة آل سعود، ومن ثم طالما أن التهم تتعلق بمزاعم رعاية الإرهاب، فكان حري بتوجيهها إلى السعودية، لا قطر، بناء على القرائن التي تملكها الجهات المعنية، بما يذكرنا، قبل 15 سنة، بسلوك مماثل من قبل الولايات المتحدة التي بعد أن تأكد لها هوية منفذي عمليات 11 سبتمبر (معظمهم من السعودية)، جاء ردها سريعا ومفزعا… صوب العراق باحتلاله وتدميره وأفغانستان لدكه!

ماذا وراء حملة الثلاثي السعودي المصري الإماراتي ضد قطر؟

الملفت للنظر أن التهم المعلنة السخيفة، بصرف النظر عن كونها لا تصمد أمام الواقع، لا تناسب حجم وخطورة التحرك الثلاثي، بما ينم عن أجندة أخرى، ويفتح الباب للتساؤل عن المآخذ الفعلية التي أفقدت هذه الدول الثلاثة صوابها وجعلتها تقدم على فعلتها الذميمة، في محاولتهم كسر شوكة قطر بغية إجبارها على تغير مواقفها بشأن عدد من الملفات الثقيلة والانصياع للسكريبت المعد لهذه المنطقة بتنفيذ سعودي.

“الخط الأحمر” الذي تجاوزته قطر في نظر الثلاثي وحلفائه من إسرائيل إلى ترامب والغرب عموما، والذي استوجب أشد العقاب هو ما صرح به اليوم وزير الخارجية السعودي من باريس عندما قال: “يتعين على قطر وقف دعمها… لحماس” وأن حماس، “تقوض” السلطة الفلسطينية! تصريح بمقام ومستوى بلد “خادم الحرمين وناصر قضايا المسلمين”!

قضية حماس تمثل أحد أهم الأسباب وراء الحملة، مثلما توضحه الرسائل الالكترونية المسربة المتبادلة بين يوسف العتيبي سفير الإمارات في الولايات المتحدة وجون هانا كبير مستشاري المؤسسة البحثية FEE وثيقة الصلة بإسرائيل، وما تكشفه هذه المراسلات من سعي حثيث تقوم به الإمارات والسعودية  لتشكيل شرق أوسط جديد يتطابق مع النظرة الليكودية التي تعتبر المقاومة إرهابا وتعمل على إخضاع الفلسطينيين وإجبارهم على قبول حل إسرائيلي يجعلهم “رعايا” محاصرين داخل بضعة كنتونات منزوعة السيادة، يطلق عليها اسم دولة فلسطين برئاسة السلطة الفلسطينية الهجينة، فجاء حصار قطر لابتزازها والضغط عليها وإجبارها على ممارسة ضغوط على حماس وتركيعها للقبول بالحل الذليل. إلى جانب قضية المقامة الفلسطينية، هناك شق آخر أوسع نطاقا، ضمن الخطوط الحمراء التي لا يسمح بها هذا التحالف، يتعلق بموقف قطر من الحراك الشعبي الذي أدخل الهلع في صفوف قبائل آل سعود والإمارات وغيرها، فاستحقت قطر وكل من تبنى هذه المناصرة، من منظمات وعلماء ومنابر إعلامية حملة محمومة واتهامات بالجملة بالإرهاب وإدراج أسمائهم على قوائم سوداء. فبعد الانتقام من شعوب الدول التي انتفضت سلميا ابتداء من 2011  ضد الأنظمة المستبدة في الوطن العربي لاستعادة كلمتها وكرامته وحقها في المشاركة في تسيير بلدانها، خاصة في مصر ونجاح الإخوان في الانتخابات التي تلت، وانتخاب الرئيس مرسي، فبعد انقضاض هذا التحالف الموسع على هذه الشعوب وخيارها، عن طريق حبك وتمويل ثورات مضادة، جاء الدور على الدول والمنظمات والجهات التي ساندت هبة هذه الشعوب ودعمتها، فكانت أولاها محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا السنة الماضية، ويجري الآن محاولة محاصرة قطر لردع وكتم أنفاس كل من “تسوّل له نفسه التطاول على جبروت هذه الدول  وهيمنتها”.

راهن التحالف بقيادة السعودية على مفعول المفاجأة والصدمة (shock and awe!) في تعاملها مع قطر، حتى بدا وكأن المرحلة القادمة ستكون تدخل عسكري، لكن كل الدلائل الميدانية تشير أن لا السعودية ولا الإمارات ولا حتى من شجعهم عن بعد وخبث على ارتكاب هذه الحماقة، ينوون الانتقال إلى المرحلة العسكرية ناهيك عن قدرتهم تنفيذها، لعدد من الأسباب، أولها تورط السعودية في اليمن وما نجم عنه من خراب على كل الأصعدة وتذمر المواطنين السعوديين، نظرا لما انعكس ذلك على مستواهم المعيشي وارتفاع البطالة إلى مستويات قياسية، إلى جانب وجود قاعدة عسكرية أمريكية في قطر لن تحلم دول التحالف الاحتكاك بها أو تحديها، دون أن ننسى أن الراعي الأكبر الذي أخذ المال الوفير قبل أن يشعل فتيل الفتنة ويؤججها ثم يغادر بلاد الحرمين، دونالد ترامب، يوجد هو الآن في ورطة، ومساءلة عسيرة أمام كونغرس بلاده بتهمة التنسيق مع العدو الروسي، بما ينذر بعزله المحتمل والوشيك، ثم تلاه موقف تركيا الرافض للاعتداء على القطر والمستعد لإرسال قوات عسكرية إلى قطر. كل هذه العوامل جعلت السعودية التي صرفت الملايير من الدولارات في حملات إعلامية وشراء ذمم للتحريض على قطر وتعبئة الدويلات الطامعة في فتات آل سعود، تجد نفسها اليوم في وضع لا يحسد عليه، بعد توريطها من قبل أمراء آل روتشيلد المكتوم العربي.

أما موقف أنظمة الدول العربية الأخرى التي لا تريد افتضاح أمرها بالانضمام إلى قافلة السعودية لكي لا تبدو إلى صف إسرائيل وأمريكا، فمعظمها تساند ضمنيا العملية لحصار قطر لنفس السبب، أي تعاطفها مع هبة الشعوب العربية، ومناصرة المقاومة الفلسطينية، مثلها مثل بعض الدول الأوروبية التي تقف نفس الموقف رغم زعمها محاربة الإرهاب الوهابي وعلمها بعنوانه الحقيقي، نجدها تتجاهل هذه الحقائق وتغمز في جهة قطر وتتهمها “بدعم الإرهاب” عن طريق ترك العنان لأبواقها الإعلامية.
 
في نهاية المطاف يبدو أن حكام آل سعود وآل مكتوم وفرعون مصر الصغير، جاهروا أكثر من اللازم في ظلمهم وهم الآن يتحسسون جنوبهم، وليس من المستبعد أن نشاهدهم عن قريب ينهشون لحم بعضهم البعض ويوجهون لأنفسهم سهامهم المسمومة، ليتجرعوا علقمها، وكلّ يحمّل الآخر مسؤولية التوريط في هذا المستنقع، فمن لا عهد له، لا ثقة فيه.

رشيد زياني شريف
9 جوان 2017

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version