الحوار التالي يبيّن ما ينبغي أن يكون عليه حال المؤمن الصادق التقي على مستوى قلبه وعقله وسلوكه ، وقد دار بين شيخ من العارفين بالله ( شقيق البلخي ) وتلميذ نجيب ( حاتم الأصم )  قبض قبضة من أثر معلمه الصالح ، أورده حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في الإحياء ، وما زال المربون يروّجونه جيلا بعد جيل لجلال قدره.

فقد سأل الشيخ تلميذه عمّا تعلمه منه وقد صحبه أكثر من ثلاثين سنة ، فأجاب أنه حفظ ثماني مسائل فتعجب الشيخ من قلة التحصيل لكن التلميذ عرضها عليه فتبيّن أنها مسائل لخصت الاسلام كله لم تُبق ولم تَذر ، قال:

1. نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوبا فهو مع محبوبه إلى القبر فإذا وصل إلى القبر فارقه ، فجعلت الحسنات محبوبي فإذا دخلت القبر دخل محبوبي معي.
2. نظرت في قول الله عز و جل ” وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ” فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله.
3. نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه ثم نظرت في قول الله ” ما عندكم ينفد وما عند الله باق ” فكلما وقع معي شيء عنده قيمة ومقدار وجهته إلى الله ليبقى عنده محفوظا.
4. نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب فنظرت فيها فإذا هي لا شيء ثم نظرت إلى قول الله ” إن أكرمكم عند الله أتقاكم ” فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريما.
5. نظرت إلى هذا الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض ويلعن بعضهم بعضا ، وأصل هذا كله الحسد ثم نظرت إلى قول الله ” نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ” فعلمت أن القسمة من عند الله فتركت الحسد وتركت عداوة الخلق عني.
6. نظرت إلى هذا الخلق وهم يبغي بعضهم على بعض ويقاتل بعضهم بعضا فرجعت إلى قول الله ” إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ” فعاديته وحده واجتهدت في أخذ حذري منه وتركت عداوة الخلق غيره.
7. نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يطلب هذه الكسرة فيذل فيها نفسه ويدخل فيما لا يحل له ثم نظرت إلى قول الله ” وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ” فعلمت أني واحد من هذه الدواب التي على رزقها فاشتغلت بما لله عليّ وتركت ما  لي عنده.
8. نظرت إلى هذا الخلق فرأيتهم كلهم متوكلين على مخلوق ، هذا على ضيعته وهذا على تجارته وهذا على صناعته وهذا على صحة بدنه ، كل مخلوق متوكل على مخلوق مثله فرجعت إلى قول الله ” ومن يتوكل على الله فهو حسبه ” فتوكلت على الله فهو حسبي.

فاطمأن الشيخ وعرف أن تلميذه أصبح عالما عارفا بالله.

أليست هذه هي الربانية ؟ أليست هي التربية الروحية وتزكية النفس ؟ ماذا تركت هذه الموعظة من شُعب الخير ومدارج الرقي الإيماني ؟

 كيف يكون شأن من اشتغل بالاستزادة من الحسنات والمحافظة عليها من الضياع لتؤنسه في قبره أكثر من اشتغاله بأعراض دنيوية ، هي ضرورية للحياة لكنها فانية ؟
وكيف يكون شأن من كان يقظا يستحضر خوف الله فيغالب الهوى ورغبات النفس الأمارة بالسوء حتى يقودها قودا إلى طاعة ربها ؟
وأي حياة مريحة يحياها من أنف أن يكون عبدا للأشياء ، لأنها مهما غلت أشياء واختار أن يجعلها وديعة عند الله ؟
وقل مثل ذلك عمّن تعالى عن الموازين الأرضية واعتمد المقاييس الربانية ، ومن
طهّر قلبه من الأمراض الفتاكة كالحسد والبغضاء فترك عداوة المسلمين ووضع نصب عينيه عداوة الشيطان ، ومن عاش مطمئنا على رزقه ، يعمل ويكدّ ويسعى وقلبه معلق بالله لا بالأسباب ، أليس يعيش حرا مطمئنا عالي الهمة ثم يقبل على الله وهو أدنى إلى النجاة من العقاب والفوز بمقعد صدق عند مليك مقتدر ؟
هذا شأن من  عاش للأفكار لا للأشياء وللمبادئ قبل المصالح وللآخرة وهو يمشي على الأرض ويعمرها ، قال تعالى ” أولئك هم المؤمنون حقا “
فهل انت منهم ؟
 
عبد العزيز كحيل
14 ماي 2017

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version