ككل الأعياد ترى هل سيرضى ابن باديس بيوم واحد للعلم، والباقي للجهل والجهلاء؟ قد تختلف الأجوبة  لكن الفكرة التي يجمع عليها الكثيرون أن نحن العرب معروفون بالتنكر لرجالاتنا وتراثهم، فإذا جاء يوم ذكراهم ذرفنا الدمع السخين وقرأنا أشعار الرثاء، ثم عدنا إلى تنكرنا وإهمالنا، نُقل إلينا أن الشيخ الغزالي رحمه الله ذكر الأمير عبد القادر في مجلسه بسوء حين كان مديرا ومدرسا بالجامعة الإسلامية في قسنطينة فبكى وقال قولة عميقة مؤلمة في معناها أن في الغرب الأوربي يذهبون إلى منجم الفحم ليجدوا قطعة فحم بها شيء من الذهب فيلمعونها ويجعلون منها تاريخا مقدسا، أما عندنا نحن فنذهب إلى منجم الذهب الخالص لنسوده ونسود تاريخنا ورجالاتنا.. ولا عجب فهذا واقعنا وحالنا.. من هذه الفكرة أردت أن أتكلم عن رائد النهضة الفكرية والسياسية في الجزائر ورمز من رموزها هو الإمام عبد الحميد ابن باديس رحمه الله، وعن محاولات التشويش والتهم التي تناله وتنال جمعية العلماء المسلمين، والطعن فيها وفي جهودها من جهة فلم يسلم الشيخ ولا الجمعية منذ بداية التأسيس من تهم ومحاولات تضليل كثيرة، قامت بها جهات تتباين فيما بينها لكنها توحدت على هذا العمل والهدف، فمن أصحاب الطرق الصوفية ومحاولة الاغتيال إلى التشكيك في خذل ثورة التحرير، إلى تهم التغريبيين والشيوعيين وحتى أصحاب النزعات القومية والعرقية، ومن جهة أخرى محاولة الاحتواء والتي لا تقل خطورة عن سابقاتها من الفكر القادم من  صحراء نجد ودعونا نسمي الأسماء بمسمياتها ونقول المداخلة، هذا المصطلح الذي أراه يفي بالغرض بصفة دقيقة.. فهذا الفكر الغريب عنا كان ولا يزال يبحث عن موطئ قدم بأرض الجزائر، ويحاول إعطاء صفة شرعية له من خلال تبني بعض آراء ابن باديس العقدية في كل فرصة تتاح لهم، فهل حقا يوجد توافق بين البينين؟ الجواب بسيط تظهر بوادره عند محاولة بسيطة لقراءة تراث الرجل سواء المطبوعة أو الشفهية والتي تتمثل في شهادات معاصريه وتلامذته، وأيضا يتجلى جليا فكر ابن باديس في أقوال رفيق دربه ومتمم قصده أمير البيان الشيخ البشير الإبراهيمي عليهم سحائب الرضوان أجمعين، فلطالما وصف الإبراهيمي رفيق دربه “برائد النهضة الفكرية والثقافية والسياسية في الجزائر” وهذه المفارقة الأولى، في هذا الوصف تتجلى شمولية فكر ابن باديس وعمقه فمثلا في شقه السياسي لم يكن موقفه موقفا رافضا للسياسة بإطلاق، وإنما كانت له رؤية خاصة متعلقة بحالة المجتمع فقد رأى أن الكفاح السياسي والعسكري يجب أن يسبقه إصلاح للفرد فكريا ودينيا، لأن الاستعمار الفرنسي نجح إلى حد بعيد في تدمير الشخصية الجزائرية، يقول الإبراهيمي في هذا الصدد : “إن من الغفلة والبله أن نقيس أحزابنا بالأحزاب الأوربية، فإن تلكم الأحزاب ظهرت في أمم استكملت تربيتها وصحت مقوماتها بدعوة دعاة جمعوا الكلمة، وعلماء أحيوا اللغة، ومعلمين راضوا الأجيال على ذلك، وأين نحن من أحزابنا من ذلك”. يتساءل الإبراهيمي ونتساءل نحن أين هذا الكلام من فتاوى تحريم السياسة وإنشاء الأحزاب والتظاهر ووسائل الحكم المعاصرة، بحجج ساذجة؟

صحيح أن ابن باديس والإبراهيمي لم ينشئا أحزابا سياسية ولا دعوا لهذه الفكرة، لكن هذا لم يمنعهما من المشاركة في السياسة العامة التي تهم أبناء الجزائر وقضيتهم المصيرية ألا وهي الاستقلال، فقد أنشآ جمعية العلماء المسلمين ووضعا مبادئها وأهدافها.. هذه الفكرة في حد ذاتها (إنشاء الجمعيات والأحزاب) فكرة غير مرغوب فيها عند أصحاب  الفكر المدخلي لأنها تحمل أهدافا حزبية في نظرهم، إن حرية النظر والتفكير واحترام الرأي عند ابن باديس لا نكاد نعثر على ما يقابلها عند هؤلاء غير تعطيل العقول وإقصاء الآخر و الأحكام المسبقة المضللة والمبدعة، فقد كانت جمعية العلماء تضم في مكتبها العديد من الرموز والأعلام، يكفي أن نذَكر بأن نائب أمين المال :إبراهيم بيوض كان إباضيا مثل قومه في هذه الجمعية كجزء لا يتجزأ من شعب الجزائر،  ونلاحظ هنا أن ابن باديس كانت فكرته الوحدة ولم الشمل لا الفرقة والتشتت، فقد أدرك أن أهم شرط لاستقلال الجزائر هو وحدتها، ويشرح ابن باديس في مقال رائع أسماه “لمن أعيش: للإسلام وللجزائر” العلاقة بين الهوية والإسلام والإنسانية، يخلص فيه إلى أن خدمة الوطن الإنساني العام لا يمر إلا من خلال السعي لرفعة الوطن الخاص، حيث يقول: “ولن نستطيع أن نؤدي خدمة مثمرة لشيء من هذه كلها إلا إذا خدمنا الجزائر، وما مثلنا في وطننا الخاص- وكل ذي وطن خاص- إلا كمثل جماعة بيوت من قرية واحدة، فبخدمة كل واحد لبيته تتكون من مجموع البيوت قرية سعيدة راضية، ومن ضيع بيته فهو لما سواه أضيع” فهذا القول يهدم كل دعاوى الولاء لغير الوطن الأم مهما كان لون صبغتها.. أما إذا جئنا إلى موضوع العقيدة الذي يعول عليه أصحاب هذا الفكر في ربطه بابن باديس، فنجد أن باديس نعم كانت عقيدته سلفية بسيطة أوضحها في كتيب بسيط لكنه لم يتحامل على الأشاعرة ولا غيرهم ولم يشغل جموع الناس في ذلك الوقت بمعارك وهمية بل نأى عن ذلك كله ..وجسد هذه العقيدة على أرض الواقع فكانت عقيدة سلفية بحق تهتم بالعمل وتترفع عن الجدال الذي لا يفيد قريبا ولا يقهر عدوا، ولم يدفعه ذلك إلى  تصنيف الناس و تقريبهم وإبعادهم  من دائرة الإسلام، بل فعل عس ذلك فقد أثنى على محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وإبراهيم أطفيش الإباضي..،  ورثى شيخ الطريقة القادرية بواد سوف بعدما وقف من الاستعمار موقفا بطوليا واستشهد ..ولم يشهد ابن باديس نشوء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين لكن رفيق دربه الإبراهيمي أرَقته القضية وأخذت من وقته وماله وقلمه الكثير ومما قال عن ذلك: “والله يمينا بره لو أن هذه القوى –روحيها وماديها– انطلقت من عقلها تظاهرت و تظافرت، وتوافت على فلسطين وتوافرت، لدفنت صهيون ومطامعه و أحلامه إلى الأبد”. فأي من هؤلاء قال مثلا هذا؟

إن البون بعيدا جدا وأحسب نفسي قللت من قدر العظام حين قرنتهم مع هؤلاء في هذه الكلمات، فقد قيل قديما:

ألا ترى أن السيف ينقص من قدره *** إذا قيل أنه أحد من العصى

لكن اللغط الحاصل يستوجب ما كتبت وإن لم أوفق فالقضية أكبر بكثير مما كتبت.. مما يضاف أنَ ابن باديس أنه كان محبا للحياة مشاركا في تفاصيلها ذواق للأدب والفن، فقد بارك تأسيس الفريق الرياضي “مولودية قسنطينة” وأطلق عليه هذا الاسم بمناسبة المولد النبوي الشريف. وشجع على استثمار كل ما من شأنه أن يكون وسيلة لنشر الخير والجمال والنفع.. ولم تكن دعوته ولا جهوده يوما دعوة إلى هامش الحياة والبعد عن مراكز التأثير والزهد الممقوت، ولا أدري كيف يحاول من يحاول تقزيم الشيخ وجهوده ووضعه في خانة واحدة مع أصحاب شرعنة الاستبداد، ودعاة الصبر والرضا –بسيف الآية والحديث– ورد كل ما تعانيه الأمة من ذل وهوان إلى التهاون في الدين وفقط ن أما الإفلاس في الدنيا والمعاصي السياسية والاقتصادية والاجتماعية فليس إلى التوبة منها من سبيل.

نسيم بن علي
4 أبريل 2017

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version