لمّا اعتقلوا الشيوعيين التزمتُ الصمت لأنني لم أكن شيوعيا
وعندما أوقفوا الاشتراكيين لم أقل شيئا لأنني لم أكن اشتراكيا
وحينما جاء دور النقابيين لم أحرك ساكنا لأنني لم أكن نقابيا
ولما عادوا لاعتقال اليهود لم أتفوه بكلمة لأنني لم أكن يهوديا
وعندما جاءوا من أجلي لم يبق أحد للتنديد سوى الامتثال كليا

نُظمت هذه الأبيات الأسطورية في سجون ألمانيا النازية في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي من طرف القسيس مارتن نيمولير وأصبحت لاحقا أنشودة إجلال للضمير الحي وتُرجمت إلى عدة لغات.

لا يمكن للضمير أن يبقى يقضا إلا إذا تصدى كالزنبرك النابض لانحرافات الأهواء وأضاء كالمصباح المنير سبيل التمييز بين الخير والشر، والضمير الحي هو المستشار الأول والبطانة الرئيسية للنصيحة الصادقة بدون خيانة ولا مجاملة، والمنبه الفوري للأخطاء والداعي إلى تفاديها أو تصحيحها.

مارتن نيمولير كان من المقرّبين لهتلر والمؤيدين لسياسة تطويق دور اليهود والشيوعيين ولكنه لما انكشفت حقيقة النازية تحول إلى أشرس معارضيها واعتُقل قبل الحرب العالمية الثانية في 1937، وللتصدي للأصوات الدولية المنادية بتحريره صنّفه هتلر كمحبوسه الشخصي. وبعد خروجه من السجن في 1945 واصل نيمولير تلبية نداء الضمير وترأس المبادرة الشهيرة المعروفة بـ”إعلان شتوتقارت للتصريح بالذنب” وهي خطوة جريئة أقر فيها مثقفون ومفكرون بتقصيرهم الجماعي، وكان لذلك النقد الذاتي الشجاع تأثيرا عميقا ساهم في تحقيق المصالحة وإعادة تماسك وبناء الأمة الألمانية.

كان بالإمكان لهذا المعارض للنازية أن يسلك مع أمثاله الحقيقيين أو المزيفين منهجا انتهازيا يستغل مسيرته لإرساء شرعية ريعية لجمع التعويضات والمنح والأوسمة، ولكن أصحاب القيم النبيلة والهمم العالية ينأون بأنفسهم عن ذكر تضحياتهم ويفضلون مراقبة هفواتهم لتداركها ومن ثم تجنبها. لا يسمو الإنسان إلا بالاعتراف بأخطائه وضعفه، والخوف من الوقوع في الخطأ يكون أردع كلما كان ذلك الخطأ متبوعا باعتراف علني جريء ولكن مؤثر. ومن شأن هذا التفاعل أن يدعم حيوية الضمير وكل منظومة الأخلاق التي كُرِّم بها بنو آدم، مما يعطي رؤية جديدة لضعف الإنسان المتنوع والمتفاوت كرحمة خفية وبالتالي كجزء مهم من ذلك التكريم الإلهي.

عجز القانون وورطة توريث الحكم

لا يمكن لأي عدالة بشرية التصدي للهفوات كالتي أقر بها نيوميلر أو مثلها كالأنانية وعدم الاكتراث بمعاناة الغير، ولكن كم كانت الإنسانية لتكون سعيدة لو توقف الإفلات من القانون عند هذا الحد، إذ أن الدول المتطورة التي تتمتع بقانون فوق الجميع هي قليلة، ولا تُسقط ذلك العدل على الشعوب الأخرى، فما بال الأنظمة الشمولية المتخلفة التي يتحول فيها جهاز العدالة لأداة قمع تجرم الأبرياء وتمجد المفسدين والمجرمين. “ما من طغيان أبشع من ذلك الذي يمارس في ظل القوانين وتحت ألوان العدالة”، هكذا كان يردد منتسكيو فيلوسوف النهضة السياسية في القرن الثامن عشر وصاحب مبدأ فصل السلطات الذي تبنته كل الدساتير العصرية. ويضيف: “كل من يملك سلطة يميل إلى الإفراط ولذا يجب وضع ترتيب يُمكّن السلطة من وضع حد للسلطة”. ومهما كان ذلك الترتيب سيستحيل صموده في ظل غياب التناوب الحقيقي على الحكم، وباستثناء الأنبياء والرسل لا يمكن تنزيه الإنسان من الميول للإفراط مع الحكم المستمر واللاعقاب.

التناوب الفعلي على الحكم بات مبدأ معاصرا لا سبيل لتطور أي مجتمع بدونه حتى وإن تأسف هذا المجتمع كل حين على حاكم يخلفه من هو أقل أهلية. قد يتحفظ ويستشهد البعض بنماذج كالخلفاء الراشدين ولكن دليل الاستثناء الذي لا يمكن القياس عليه هو أن توريث الحكم في الحضارة الإسلامية بدأ مع الخليفة الخامس معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ولا يزال العالم العربي الإسلامي يعاني من هذا التقليد. والتحفظ عن الاعتراف بهذا الخطأ الذي لا يلغي فضائل الصحابي يستغله دعاة الشيعة ويشكل مع مصيَدة زواج المتعة أهم بوابات التشيع في المجتمعات السنية. هذا الانحراف الذي تُروِّج له قوة إقليمية يبدأ بتظلم واستعطاف لصالح الإمام علي كرم الله وجهه ولأهل البيت عليهم السلام قبل الانزلاق في الافتراء الشِّركي برُكن الإمامة المعصومة ثم الطعن في خير البشر بعد الرسل.

والتوريث المعاصر للحكم لم يعد مقتصرا على المحيط العائلي بل أخذ صورة أبشع بتوريث العصابات في ظل انتخابات مزورة، لأن الهاجس المرعب لحاكم فاسد أو مستبد هو أن يكون خليفته أفضل منه عدلا وكفاءة، ولذا يحرص دائما على تسليم المشعل لمن هو أسوأ حتى يتوهم بعودة الحنين لعهده، وقد تكفي هذه الخصوصية الكارثية لتعريف الحكم الشمولي والفاسد.

أزمة القدوة وتراجع نفوذ الضمير

بين الرسوب بشرف أو النجاح بالغش يسير المواطن الجزائري نحو الانضباط بالاقتداء العمودي تأكيدا لتشخيص ألبرت شويتزر الذي يُعرِّف القدوة بأنها ليست مجرد طريقة تأثير بل هي الوحيدة، ضاربا عرض الحائط بمناعة الضمير، أي أن هذه الأخيرة لا تصمد أمام الفساد عندما يكون التفشي زاحفا من أعلى الهرم، وما هي إلا قضية وقت حتى يعم المرض. وأزمة القدوة هذه لم تسلم منها حتى القيم الدينية التي أصبحت تتعرض لانتقاء انتهازي يُبرَز فيه الجانب المظهري ويُعطل الباطني خدمة للمصلحة الفردية. ويكفي الحركة الإسلامية خزيا أن مشاركتها في تسيير البلد صادفت أكبر أزمة أخلاقية عرفتها الجزائر، والذين يتغنون بالمشاركة من أجل التغيير هم الذين تغيروا، وعلامات كثيرة تؤكد ذلك وهم بالترجيح لا يشعرون، مع وجوب ذكر الاستثناءات القليلة التي لم تتغير ولكنها فشلت في التغيير. إذا التحق شُبان مستقيمون فرَضا بالصفوف الثانية لمجموعة مراهقين منحرفين فهل يُرتقب أن تتقيد تلك الفرقة أخلاقيا أكثر؟ أيكون من الحماقة التوقع أن تلك المشاركة السطحية ستزكي نشاط الجماعة وتشجع قياداتها على رفع سقف الانحراف؟

على الضمائر الحية أن تتصدى بشجاعة للهفوات والمواقف التي تنعكس سلبا على الأجيال وعلى صورة النخب الإسلامية ومصيرها ولا تنخدع ساذجة بدواعي التحفظ الأخلاقي، وهذا يشمل هذه الواقعية السياسية المزعومة التي تحركها الانتهازية الشخصية أو ذلك التستر على أخطاء السلف مثل كارثة توريث الحكم.

الانهزامية ومشروعها السياسي

لا شك أن الحروب تهب للمنتصرين غنائم متنوعة بما في ذلك اللغة والمعرفة ولكن التغني بالغنيمة الثقافية هو وقوع في خطأ تحديد الطرف المنتصر، خطأ يسبب أزمة ثقة وشعورا بالتفوق في آن واحد، واحتقارا ذاتيا مصحوبا باحتقار المجتمع. فاقد الثقة بالنفس لا يستغل كل مؤهلاته ويبقى أداءه دائما دون مستواه الحقيقي. الثقة بالنفس بدون إفراط تمكن تجاوز العقبات الوهمية وتوقظ القدرات النائمة وتغير التفاعل مع نجاح الغير من الإحباط إلى التحفيز. وبالإيمان بقدراتها وثقافتها تمكنت دول بقيادات راشدة مثل سنغافورة وكوريا وماليزيا وتركيا بالنهوض بمجتمعاتها، مستفيدة من اللغات الحية بفضل التحصين الثقافي

وكيف إذًا لمجتمع أن يتطور وهو لا يثق حتى في لغته؟ وكيف لبلد استعاد حريته بثمن باهض أن يعتمد على لغة العدو ليتوهم بنهضة عصرية تقضي على التبعية؟ ألا يجب الإقرار بدهاء الجنرال ديجول وأمثاله لأن كثيرا من أهداف الاحتلال تحققت بعد الاستقلال؟ ألم يتم التمكين للانهزامية الحضارية وإيصالها إلى مستويات عالية في صناعة القرار؟ وإذا اقترنت الانهزامية الثقافية بالفساد وتهميش إرادة المجتمع فإنها حتما ستنجب العزة بالإثم وبرنامجا سياسيا تغريبيا، حتى وإن حمل اسم “العصرنة” الجميل.

إن قدر الإنسان مرتبط بحضارته كما يقول مالك بن نبي رحمه الله والالتزام بالانتماء لأمة الإسلام ليس بهين ويُعرِّض صاحبه لابتلاءات شديدة تزلزل الكثير ترهيبا من ذلك الخيار وترغيبا في غيره، والمناعات الضعيفة لا تصمد أمام ذلك الهجوم الشامل فتموت ضمائر أصحابها، ولكن بقدرة قدير نفس الأسباب تلهم قراءات وتأملات مغايرة قد تنعش وتحيي ضمائر أخرى حتى في صفوف العدو.

وسيبقى الإنسان ذلك المخلوق المُكرّم والمُخيّر حلبة لصراعات داخلية متواصلة تديرها تشاورات ومفاوضات مستمرة ويكون الانحياز الظرفي للاختيار الحر هو الحاسم في كل مرة.

عبد الحميد شريف
11 أكتوبر 2016

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version