لا نزال نعيش على وقع ذلك السيل العرم من الردود المشحونة التي تنذر بحروب كفيلة بتفكيك أوصال المجتمع على نحو لم يسبق له مثيل، الأمر الذي يضع على عاتق كل شريف مسؤولية جسيمة لتجنب الوقوع في شراك طيور الفتن، لأن ما يجري من تمَوقع، بين من “مع” ومن “ضد”، خطير ويستوجب الكثير من التمحيص وفرز الأوراق.

اعتقد أن هذه الحروب على أهميتها وخطورتها، لا تعدو كونها وسيلة لصرف أنظار واهتمام المواطنين عن لب الأزمة، المتعلقة بلا شرعية الحكم منذ استقلال البلاد، وللتعويض عن غياب الشرعية، فقد تفتقت عبقرية هذه السلطة لتنتقي أحسن وأنفذ أدوات صد الأنظار، منها إذكاء نيران الاختلافات الموجودة بين فئات المجتمع، لاسيما اللغة والأيديولوجية. إن مشكلة الجزائر الأساسية ليست وليدة اليوم ولا حتى منذ مجيء بوتفليقة، إنها مشكلة ذات طبقات متنوعة، إحداها تغوّل الأقلية الساحقة التي فرضت على الدوام  إرادتها السياسية واللغوية ومشروعها “المجتمعي” (لأسباب سنذكرها لاحقا) دون الحاجة إلى المرور بصناديق الاقتراع، ودون تحمل مسؤولياتها عن الخراب الناجم عن استزراعها برامج غريبة على الأغلبية المسحوقة من الشعب، على غرار منظومة بن زاغو وما تلاها من مخطط  بن غبريط، وما صاحب هذه الحروب من إرهاب إعلامي فئوي تقوده الصحف “المستقلة”، بدعم فيالق من المثقفين والكتاب والسياسيين المغتربين حضاريا، المعروفين بتعاليهم على الشعب الذي يعتبرونه أميا جاهلا و”غاشي”. هذه الأقلية الساحقة أخضعت، بإيعاز وتشجيع من “الحكم” الفعلي، كافة المؤسسات والوزارات والقطاعات الحساسة لاختياراتهم، في ظل هيمنة اللغة الفرنسية على كافة القطاعات الأساسية، وحصر اللغة العربية في المدرسة في الطور الأول، ثم التباكي على سياسة “التعريب” وتحميلها مسؤولية خراب الديار.

الحرب في الجزائر حروب، على أصعدة متنوعة ودرجات متفاوتة، ومن يعيد نظرة إلى تاريخ الحركة الوطنية (حتى قبل استقلال البلاد) يقف على حقيقة الأزمات التي هزت هذه الحركة وكادت تنسف بها بعد أن بلغت درجة من التطاحن بين النخب، ويدرك المرء عندئذ أن الرهان بالنسبة لهذه النخب لم يكن نفسه، إذا كان سنام الأمر بالنسبة للبعض ينحصر في استحواذهم على السلطة والتحكم في أعلى مستوياتها التنفيذية، إلى حد دفع هذه الفئة إلى إقصاء كل من ينافسها أو يرفض نهجها، سواء عن طريق التصفية الجسدية على غرار العديد من رفاق الدرب، قبل وحتى بعد الاستقلال، مثل خيضر، عبان، شعباني، مسيلي، داخل البلاد وخارجها، فكانت الحرب بالنسبة لفئات أخرى حربا من نوع آخر، حرب حول مشروع الدولة التي تصبو إليها هذه الفئة أو تلك، كل فئة تريد فرض مشروعها دون استشارة  الشعب المعني بالأمر، حتى أصبح هذا الأسلوب هو المعمول به إلى يومنا هذا. وعلى ذكر هذا النوع من الصراع “المجتمعي”، أشير إلى ذلك الشعار الرنان الذي رفعته فئة معروفة بارتهانها للمستعمر ثقافيا وسياسيا وفكريا، أصحاب “الجزائر جزائرية” في مغالطة كبيرة توحي للعوام بأن شعارها له صلة مباشرة بالاستقلال ويقابل أصحاب “الجزائر فرنسية” من غلاة المستعمرين والأقدام السوداء، بينما كان أصحاب الجزائر جزائرية (مثلما يسعون اليوم) يهدفون إلى قطع كل صلة للجزائر بمحيطها الحضاري العربي الإسلامي، وربطها كليا بفرنسا بحجة انتماء الجزائر للحوض الأبيض المتوسط، وفي سبيل ذلك بذلوا قصارى جهدهم لإبعاد كل وطني سواء كان من ضباط جيش التحرير أو الإدارة أو مؤسسات الدولة وتهميشهم، ليخلو لهم المجال حتى صرنا على ما نحن عليه اليوم. لقد سخرت هذه السلطة النخب من شتى الأطراف ووظفتها في عملية تطاحن وتآكل وصد الأنظار، تارة تقوي هذه وتارة تضعفها، لكن مع حرصها الشديد على عدم إنهاء هذه الحرب لصالح طرف بعينه، لإبقاء أرضية الحروب مهيأة لإحيائها كلما اقتضى الأمر، بما يذكرنا بعهد الرئيس الراحل هواري بومدين، وإشعاله نار الحروب بين البعثيين والشيوعيين والبربريست والإسلاميين، إلى جانب توظيفه الفارين من الجيش الفرنسي، ووضعه أمثال نزار وتواتي وغزيل وغيرهم تحت جناحه، كل ذلك لتصفية حساباته مع ضباط جيش التحرير (إحدى أسباب تصفية العقيد شعباني رفضه ذلك!).

قد يسأل سائل، ما العلاقة إذن بين فئة “الحكم” وفئة “المشروع المجتمعي” أقصد الأقلية الساحقة؟ العلاقة علاقة توظيف متبادل واستفادة متفق عليها بين اليد التي تعطي والأخرى التي تأخذ، الفئة الأولى لا يهمها في ظل أي مشروع تبسط حكمها، طالما تستحوذ على حقيقة الحكم، هي مستعدة لتغيير جلدها من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال دون أن يرف لها جفن، ألم يقولوا لنا أن “الاشتراكية خيار لا رجعة فيه”، ألم يلقوا به في المزبلة دون حتى أن يشعروا بذلك؟ ومن أجل تكريس هيمنتها واستفرادها بالحكم، تفتعل حروبا هامشية أو تؤجج حروبا حقيقية كامنة تعرف مدى حساسيتها وخطورتها بالنظر إلى ما تمثله وسط فئات الشعب الجزائري، بما يكشف مدى عزمها الشيطاني لاستمرار حكمها دون منازع، وهو ما يفسر لنا طبيعة الحرب الأخيرة الخاصة بمنظومة بن غبريط، وسر المصطفين وراء مشروعها، لما يعتبرونه حربا مشتركة ضد عدو مشترك، أحد أركانه اللغة العربية وعمقها الحضاري.

أشدد من جديد على أن هذه الحرب هي حرب صد الأنظار بامتياز، لكنها مع ذلك حرب حضارية حقيقية وخطيرة لا يمكن التغاضي عنها، نظرا لما قد ينجم عنها من عواقب مدمرة في مواجهة عنيفة بين مشروعين متباينين، أو ما اصطلح عليه بين مشروع باديس ومشروع باريس، بين مشروع يفتخر يقيمه وأصالته يسير دون عقدة نحو جزائر الازدهار والرفاه، وبين مشروع يحتقر هذه القيم ويتنكر لها ويعمل جاهدا وبخبث كبير لإرساء سفينة البلاد على شاطئ المتوسط، فرنسا تحديدا.

ثمة ملاحظة مثيرة للاهتمام، وتؤكد أن مثيري الحروب الحضارية لصد الأنظار عن لا شرعية حكمهم، يتقنون فن صد الأنظار، ويكفي أن نلقي نظرة إلى ما تتداوله وسائل الإعلام الكلاسيكية من قوات تلفزيونية وإذاعات وصحف أو وسائل بديلة عبر شبكات التواصل الاجتماعي للتحقق من ذلك، إذا أجرينا فحصا لما تبثه هذه الوسائل نسجل أن في الجزائر كما في فرنسا، موضوع هذه الحروب “الحضارية” يهيمن على سائر المواضيع الأخرى، حتى يخيّل إلى المرء أن هذين البلدين هما بلد واحد تحكمه نفس الزمرة ويشترك في ذات طبيعة المشكلة، ورؤية خاطفة إلى ما ينشره مستخدمي الفيسبوك وتويتر مثلا يلاحظ أن نسبة كبيرة جدا تتمحور حول هذه المواضيع (موضوع منظومة بن غبريط في الجزائر، والحجاب النقاب، البركيني، واللحم الحلال في فرنسا)، بما ينذر بسُحُب ملبدة بإرهاصات مخيفة كفيلة بتقسيم المجتمع إلى معسكرين متناحرين، يقف قادة الحروب على الضفتين، يتفرجون في صنيعهم وحصد نتائج دهائهم، ويستمتعون بمشاهدة المواطن يصارع طواحين الهواء ويدفع ثمنه دما ودمارا.

لن يمل المرء من التنبيه والتحذير للمرة الألف أن المشكلة ليست لا العربية ولا الفرنسية في حد ذاتها، كما أن الحل ليس في فرض هاتين اللغتين أو تهميشهما، هذا شطر من المعضلة فحسب، المشكلة تكمن أساسا في لا شرعية السلطة التي أنجبت وتولّد عنها كل هذه الحروب الحقيقية والمفتعلة على حد سواء، والمترتبة عن فشل وفساد النظام كنتيجة طبيعية لعدم شرعيته، ولذا وجب الحذر الشديد حتى لا نجد أنفسنا في حالة غفلة منا مرة أخرى، مدفوعين كالقطيع، تارة بالحماسة والعاطفة، وتارة أخرى بدافع الكراهية والانتقام، فنقدم أنفسنا “طواعية” أضاحي على مذبح غيرنا بينما نعتقد أننا نخوض حربا مقدسة مفصلية، وهي في الواقع حرب غيرنا، تسفك فيها دماؤنا وتتسبب في مآسينا، لتستمر ألف سنة.

مثل هذه المخاطر المحدقة التي تبلورها الأيدي الآثمة من وراء الستار تستدعي من كل مواطن صادق وواع وقفة مع الذات لإجهاض مكائد الكائدين، البارعين في فن توجيه الأنظار في اتجاه غير الاتجاه الذي يتطلب العناية والأولوية، بما يذكرنا بصرخة “حقرونا” التي أطلقها أول رئيس منقلب على شرعية الحكومة المؤقتة، غداة استقلال البلاد، والذي كاد أن يدخل البلاد في حرب مع الجارة المغرب، بينما جراح حرب الاستقلال لم تكن اندملت بعد، كل ذلك لصد أنظار المواطنين المنهكين عن حقيقة مصادرة جماعة وجدة وغرديماو مصير البلاد في حين غفلة ونشوة من الشعب الجزائري.

في الختام أود تقديم توضيح أراه ضروريا: في ظل المحاولات الحثيثة لتزييف الحقائق، و”اختصار” الإشكالية في مسألة اللغة العربية (الظلامية حسب بعضهم) في مواجهة “لغة الحضارة” والتمدن والتقدم،  فلا بد من التذكير بأن الدفاع عن اللغة العربية لا علاقة له بأي نزعة عروبية أو عصبية نتنة منهي عنها أو انتصار لعرق أو قبيلة أو فئة من المجتمع، وإنما ذلك هو دفاع عن إحدى مقومات الشعب الجزائري التي يريد البعض تحميلها كافة المصائب التي ألمت بالبلاد، ويوهم الشعب بأن البديل الأنجع والأقدر هو تغيير “القبلة” باتجاه الفرنسية (دون غيرها!). أشير أيضا أن اللغة العربية ليست لغة الإسلام، الغالبية من المسلمين ليسوا عربا، الإسلام عالمي، وقد بُعِث المصطفى رحمة للعالمين، لا يميز بين عربي وعجمي إلا بالتقوى، بل قدّم سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وغيرهم من العجم على أقحاح قريش وحمالات الحطب، إلى جانب ذلك فقد اختار المولى فوق سبع سماوات اللغة العربية لتكون لغة آخر رسالة وآخر كتاب منزل للعالمين، وهي لغة القرآن الذي يعد مرجعا لكل المسلمين عربيهم وأعجميهم، أبيضهم وأسودهم، رجالهم ونسائهم، وهذا لحكمته عزل وجل ولا راد لحكمه.

رشيد زياني-شريف
19 سبتمبر 2016

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version