لم أزر قسنطينة، ولو زرتها لنزعت حذائي ولتمشّيت على رؤوس أنامل قدمي، وأنا أعبر جسورها المعلّقة، وقد تحسّست قبل كلّ شبر فيها، حتى لا أدوس قلوبًا مجندلة هناك.. فهناك كما هنا.. حيث أجلس، حيث تجلس، حيث تجلسين، حكايات وحكايات وحكايات، قد تختلف لكنّها تلتقي جميعها في مصبّ نهر الأحزان والأوجاع والأشجان..

وأنا أقلّب وريقات صفحات الحياة، تسمّرت أنفاسي وسمّرت معها قرطاسي وقلمي، حين طفت في كبرياء صفحة خطّ يراع التاريخ فيها رواية مرّة عن ظلم عائلة حرّة اسمها آل ساكر..

جاء في الصفحة رقم 29 ماي 1994 أنّه في بيت من بيوتات قسنطينة، وتحديدًا في شقّة من ثلاث غرف كانت حركات أنفاس ضحكات آل ساكر تملأ المكان: زكريا، لقمان، خولة، إسحاق، يعقوب، هبة الله، كلّ البراءة كانت مجتمعة هناك تحت عريش دفء محمّد صالح وظلال حنان أمّ زكي..

هبة الله ساعتها لم تنتظر مؤذّن الحيّ يكمل نداء الصلاة كي تهرع وتقدّم لنور عينها محمّد صالح البُلغةَ كي يتوضّأ للصلاة ولا والدها كي يسبغ الوضوء لتفرش له السجّادة.. أحسب أنّها فعلت كلّ ذلك، وبسمتها الصغيرة تضاهي طيف الألوان جمالا..

ولا أخالها فوّتت فرصة استراق السمع ومحمّد صالح يسبّح بحمد ربّه، لا أخالها فوّتت فرصة سماع لحفظ ما يقول.. كانت مبتهجة فرحة مسرورة، كفرح وابتهاج وسرور خولة.. لخولة قصّة عشق مع البطاطا الحلوة، عشق لا يبقي من البطاطا الحلوة شيئًا حين يضعها محمّد صالح بين يديْ خولة الصغيرتين..

فرغت العائلة من صلاة العصر، محمّد صالح جمع من حوله أبناءه زكريا واسحاق ولقمان للمراجعة والحفظ فموعد الامتحانات على الأبواب.. عين أمّ زكي تملأ المكان، عين على أبنائها وهم يراجعون وعين على خولة وهبة الله وأصغر الأكباد يعقوب، وعين الزوجة الصالحة وهي تزرع السكينة والهدوء لزوجها ورفيق عمرها محمّد صالح.. فمحمّد صالح مهموم بوضع أسئلة الرياضيات لطلبته الذين هم مع موعد ولقاء معه في الثانوية غدًا صباحًا، إذ لم يعد يفصل بين اختبارات البكالوريا التجريبية سوى سويعات قليلة.. لكنّ ذلك الغد لن يأتي لمحمّد صالح، فخلف باب الشقّة موعد آخر ينتظره.. غد آخر يشرق عليه..

وتكسّر الهدوء الذي كان كما تتكسّر المرايا.. وها هو باب الشّقة يضجّ ألمًا من وقع الطرقات عليه.. جاءوا، دخلوا، ضاقت الشقّة بما رحبت.. إنّهم رجال ’الأمن‘.. يتقدّم كبيرهم ’الصغير‘.. أمّ زكي ما زالت تذكر ما قاله ’الكبير الصغير‘: “يا أستاذ الرياضيات 1+1=2 وأنت رجل فحل جئنا لنأخذك”.. جاءوا ليأخذوه.. إلى أين؟ السؤال لا يحتاج إلى جواب إذ السؤال هو الجواب.. بكاء الصغار ’الكبار‘ اسمعه أعيشه لحظته الآن..

أعيش لحظة خفقان القلب.. لحظة جريان الدمع.. لحظة تعانق مشاعر الوداع والفراق.. يا الله.. يا الله.. يا الله

لم يمض على عودة محمّد صالح، لحضن عائلته عام واحد، فقد طاله الاعتقال سنة 92/93 بجريرة انتخابه من طرف الشعب عام 91.. وها هم اليوم يعودون مثل الخفافيش لكن في وضح النّهار.. يعودون لينتزعوا الوالد من بين صغاره وأم الصغار..

يعودون ليقطعوا فرحة خولة وهي تتناول آخر ما تبقى من البطاطا الحلوة.. يعودون ليسحبوا البُلغة والسجّادة للأبد من يد هبة الله.. ها هم يعودون ليقطعوا رأس آخر متراجحة رياضية اشرأبّت فوق ورقة تحضير أسئلة الغد.. يغدون ويظهرون ليغيّبوا عن زكريا واسحاق ولقمان ما رسخ في أذهانهم من مراجعة..

يعودون ليعيدوا أمّ زكي إلى ممشى البحث والسؤال عن مكان تواجد الزوج والحبيب..

تذكر الصفحة أنّ أمّ زكي التحفت إرادة التحدّي وتبعت رفقة زكريا زوجها.. راحت وراحت وراحت حتّى افتكّت من ’سرّاق الحياة‘ وثيقة إثبات رسميّة أنّهم من بينتها اختطفوه، وعندهم حبسوه، ’وكما رأت عذّبوه‘، وأنّهم بعد واحد وعشرين يوما سلّموه.. لمن؟ لا تسألوني أنا وسلوا الأمم المتّحدة فالجواب عندها تجدوه..

صغار أمّ زكي ’الكبار‘ كبروا.. تحدّوا الصعاب ونجحوا..

رائحة وطعم كَسْرة أمّهم الرؤوم مازالوا يجدونها إلى اليوم.. مازالوا يذكرونها كلّما أطلّت عليهم كسرةٌ من سلّة بائع أو بائعة في أسواق وأحياء قسنطينة وغير قسنطينة، فللكسرة حضور عندنا نحن البشر.. كما البطاطا الحلوة.. لكنّ البطاطا الحلوة التي كانت يومًا عشيقة خولة لم تعد كذلك، تبدّلت مشاعر خولة نحوها وصارت كلّما رأتها يجيئها الغثيان، لأنّ يدًا حاقدةً متوحّشةً عبثت بيد حبيبها الغالي محمّد صالح مُحضر البطاطا الحلوة الأمّ.. ونفس اليد الآثمة لم ترحم فرحة وسرور وابتهاج هبة الله وهي تقدّم البُلغة وتُفرش السجّادة لنور عينها محمّد صالح..

ما لم تذكره الصفحة رقم 29 ماي 1994 هو أنّ هبة الله لم تعد تحتفل بعيد ميلادها مذ ذلك التاريخ وأنّ أعياد ميلادها عاطلة ومتوقّفة عند آخر عيد ميلاد لها رقم 28 ماي 1994، فهبة الله مازالت تشعر بحرّ أنفاس والدها محمّد صالح وهو يقبّلها في عيد ميلادها رقم 28 ماي 1994.. ومن يدري، ربّما يطلع لها في الحلم كلّ عيد ميلاد لها ويقبّلها ويوصيها بالبُلغة والسجّادة خيرًا لأنّه يومًا ما سيعود.. سيعود لها ولخولة ولزكريا واسحاق ولقمان ويعقوب، وللطود الأشمّ التي حفظت وعملت بوصيّة الوداع: “استحضري معيّة الله في كلّ أمورك”.

قصّة أمّ زكي وصغارها ’الكبار‘ لم تنته..

حكيم قاسم
عضو المجلس الوطني لحركة رشاد
10 فبراير 2016

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version