لا يؤلمني شيء كانشغال الأمة المغلوبة المنكوبة المتخلفة بقضايا يفبركها لها أعداء الداخل قبل الخارج لاستنزاف قواها في معارك مع طواحين الهواء وشغلها عن معالجة أدوائها الحضارية المستعصية المتعدّدة، والأدهى من هذا أن يجد الإنسان نفسه مُرغَمًا على خوض هذه المعارك المفتعلة والانخراط فيما يدور حولها من سجالات وهو يعلم أنه بذلك أصبح جزءًا من المشكلة بدل أن يكون حلّا لها لأن الأنظمة الحاكمة بغير شرعية شعبية تتفنّن في تحويل اهتمام الرأي العام والمثقفين من الجوهر إلى القشرة ومن الخطير إلى التافه وتبتدع في سبيل ذلك أزمات تستقطب الاهتمام لتغطي على مشاريعها الحقيقية التي لا تستشير أحدًا في تصوّرها وإنفاذها.

كتبتُ مقالي “انا شاوي لكن…” صرحت فيه بقناعاتي في مسألة ترسيم ما يُسمّى “الأمازيغية” في الدستور المقبل، وقد جرى بشأنه حوار بيني وبين قارئ كريم يتابع كتاباتي منذ زمن بعيد، وإنما تماديتُ في هذا الحوار وألخّصه هنا لأنه بين رجُليْن من أصل بربري، فأنا من الأوراس وهو من بلاد القبائل، وكلانا من أصحاب المرجعية الإسلامية لكنّنا مختلفان حول العربية فأنا أعدّها لغتي الأم الوحيدة وأرفض بالتالي أن تكون لها ضرّة، أما هو فرغم إتقانه للغة الضاد إلا أنه مقتنع ومعتزّ بما يُسميه “اللغة الأمازيعية” وهو مبتهج بترسيمها.

وأوّل سؤال يتبادر العقلاءَ في هذا الشأن هو ماذا يكون مصير ترسيم “الأمازيغية” لو عُرض على استفتاء منفصل حرّ شفّاف تتوفر فيه المقاييس الدولية (أما وفقا لمقاييس الأنظمة الأحادية فالأمر محسوم لأنها قرّرت من أول يوم ألا تخسر أي انتخابات تجريها)؟ يعلم الجميع بدون أدنى شكّ أن أغلبية الجزائريين الساحقة سترفض المشروع وستوافق منطقة واحدة هي بلاد القبائل، فهو إذًا مطلب جهوي وليس وطنيا لأن المكوّنات البربرية الأخرى – الشاوية وبنو ميزاب أساسا – لم تلتفّ حوله في يوم من الأيام، ولا بدّ من التفريق بين طرفيْن يتبنيان الأمازيغية، واحد يقف خلفها والآخر منساق خلفه بطيبة نفس وقليل من الوعي، أما الأول فيتكوّن من غلاة العلمانيين التغريبيين الذين تسيّرهم دوافع إيديولوجية واضحة قوامها معاداة الإسلام والعربية، يريد خلق هوية جديدة للجزائريين يسهل معها فتح الطريق للالتحاق بالضفة الأخرى للمتوسط سياسيًا وثقافيًا بالاستعانة بالتدخّل الخارجي لحماية حقوق الأقليات عند الاقتضاء، أما الثاني فيشمل بعض إخواننا القبائل الذين لم يتخلصوا – رغم إسلامهم الصادق – من بقايا الشوفينية التي تغذيها الدعاية الفرنكو- تغريبية منذ زمن بعيد، ومحاوري من هذه الفئة الأخيرة لذلك استطعنا الدخول في حوار لأن ذلك غير ممكن مع الطرف الأول لغطرسته واحتمائه بمفاصل الدولة والظلّ الفرنسي لفرض آرائه ووضع الشعب أمام الأمر الواقع بدون مناقشة.

يتذرّع محاوري بالذرائع التقليدية معلنًا أن اختلاف اللغات سُنة ماضية وأن الإسلام لم يأتِ لتعريب العالم وإنما لهدايته، وهذا ليس محلّ نزاع بيننا بل هو تهرّب من مواجهة المشكلة المتمثّلة في إحياء “لغة” ميّتة (وهذه ليست كلمة قدح بل هي لفظة تُطلق على لغات مثل اللاتينية والإغريقية والعبرية) أو بالأحرى لهجة محلية جهوية محترمة كغيرها من اللهجات يريدون فرضها على الشعب الذي لا علاقة له بها، ومسعى التغريبيين واضح يبدأ باختراع “لغة وطنية رسمية” ثانية إلى جانب العربية، وبما أن الجزائريين في أغلبيتهم لا يفهمونها فإن الفرنسية هي التي ستكون سيّدة الموقف في النهاية.

ثم هناك شبهة ساقها محاوري هي أن معظم المسلمين ليسوا عربًا، وهذا صحيح لكن هل هو منقبة وخصلة محمودة؟ هؤلاء المسلمون عالة على الترجمة لفهم القرآن والسنة والتعامل مع تراثنا الثقافي والعلمي بينما نحن العرب ندخل هذا المجال مباشرة، والفرق شاسع بين الأصل والنسخة المترجمة، فالعربية مفتاح فهم الإسلام وحسن التلقي والتطبيق، ولهذا تجد العربيَّ مبجّلا عند المسلمين الأعاجم، وأوّل ما يفعله أيّ معتنق للإسلام هو الشروع في تعلّم لغة الضاد، أفمن المعقول هجر الطريق المعبّد وسلوك الطرق الملتوية؟

وسأل صاحبي: هل الاحتفاظ بلغة وثقافة وعادات وتقاليد الأجداد حرام؟ قلت: من قال هذا؟ وما دخلُه في ترسيم لهجة معينة كلغة وطنية؟ وهل تحول اللغة العربية دون التمسّك باللهجات والتقاليد؟ والواقع خير دليل لنا، فلجميع المكوّنات من أصول بربرية لهجاتهم وعاداتهم إلى اليوم ما ضايقهم إسلام ولا عربية.

وذكر محاوري أن النظام الأحادي في الجزائر عمل على تهميش وإقصاء الهوية الأمازيغية فصبّ ذلك في صالح التيار العلماني المتطرّف، والحقيقة أن هذا النظام همّش الإسلام والعربية رغم ترسيم الدساتير لهما منذ الاستقلال، وقد فتح للقبائلية قناة إذاعية ثم أخرى تلفزيونية، وهو على كلّ حال أجرم في حق الدين واللغة والإنسان والتاريخ والمستقبل، وانحرافاته ليست حجة علينا.

ويلخّص هذا الأخ الفاضل القضية في أن الأمازيغية هي هوية الجزائر، وسألتُه كيف غاب هذا الأمر الجلل عن الأمير عبد القادر والشيخ ابن باديس ومصالي الحاج وبيان أول نوفمبر وأقطاب الحركة الإسلامية ولم يتفطّن له إلا مولود معمري وسالك شاكر ومعطوب الوناس وأمثالهم من أعداء الإسلام والعربية؟

إن هذه الأمازيغية هي مطلب قبائلي بحت، وحتى القبائل ليسوا جميعا من أنصار هذه الهوية المستجدّة كما يروّج دعاتها، فمنهم رموز الانتماء العربي- الإسلامي مثل عبد الرحمن شيبان وأحمد بن نعمان.

يقول لي صديقي: “أنا اعتبرها – أي الأمازيغية – عنصر أصالة وثراء وتنوع في الثقافة الجزائرية ولا ينبغي تهميشها وإقصائها واعتبارها عدوة وضرة للعربية، مما يدفع الاستئصاليين والمتطرفين الملحدين وأعداء الدين إلى تضاعف حقدهم على العربية والإسلام، فيلجأوا إلى اختطاف الأمازيغية من أيد المعتدلين الوسطيين وتبنيها واستخدامها لمشروعهم الانفصالي والاستئصالي “.

لكن أنا مشكلتي كمحاور ليست مع الاستئصاليين – فمخططاتهم أضحت مكشوفة ومراميهم واضحة – لكن مع من ينخرطون في مسعاهم ويحلبون في أوانيهم ويصبحون أعوانا لهم وهم “أصحاب نوايا حسنة”، هكذا تُغتال القضايا الجوهرية بأيدي أطراف تتنازل باسم الاعتدال عن قدسية هذه القضايا ولا تُبصر أمارات التآمر على المجتمع وثوابته من طرف عبيد فرنسا بل تنكرها وترى فيها من الإيجابيات ما رأته الطرقية في الاستعمار.

وختم محاوري مجادلته بقوله: “ومجمل القول أن الأمازيغية أضحت واقعًا لا مفر منها”، وحذّر أن هذا هو الحلّ أو سيحدث الصدام، لكن أرى تعديل عباراته لتكون دقيقة، فاللهجة التي يُراد ترسيمها هي اللهجة القبائلية، وخلفها اللفيف الفرنسي من الاندامجيّين الجدد، ورضوخ المجتمع لهذا الترسيم يعني بوضوح الانسياق خلف التغريب ومزيد من الفرنسة والتضييق على اللغة العربية وإصابة عناصر الهوية في مقتل لأن هؤلاء لا يغارون على “لغة” بل ينقمون على الجزائريين تمسّكهم بالأصالة… أما النظام الحاكم فهو مخترق من طرف التغريبيين ومستعدّ لكلّ شيء كي يبقى قائمًا.

عبد العزيز كحيل
6 فبراير 2016

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version