قبل الحديث عن الدستور ومشروع تعديله والدولة المدنية الموعودة بصلاحيات أفلاطونية، هناك سؤال يمكن لكل مواطن أن يجيب عنه: من هي الجهة التي دأبت على انتهاك الدستور في كل مرة بطريقة فجة وجسيمة؟ أليست هي ذاتها التي صاغت هذه الدساتير على مقاسها ورغم ذلك راحت تمعن في خرقتها دون حسيب أو رقيب؟ إذن ما الجدوى من الدستور وتعديله حتى ولو جعلوه يحاكي دستور النرويج وينافس الماغنا كارتا؟ إذن هل المشكلة في الدستور ومواده، أم في الحكامة والحكام، ونظام الحكم؟

بصراحة لم أفاجأ بخطاب أويحيى ترويجا لمشروع الدستور ولا بسياسة التضليل الفج والافتراء التي عوّدنا بها هذا الكائن البريء من كل شيم وقيم الضمير، لكن ما لم أفهمه هو موقف وتفاؤل مدرسة “الواقعية السياسة”، تفاؤل لم تنفع معه دروس التاريخ، إلى حد وجدتُ نفسي أتساءل هل فقدوا ذاكرتهم بعد فقدانهم صوابهم؟ وهل الواقعية أضحت تعني بالنسبة لهم الجري وراء سراب، أطلقوا عليه اسم التريث والحكمة؟ بكل أسف هذا ما شعرتُ به وأنا أطلع على بعض نصائح رسل الواقعية وتحذيراتهم للـ”متسرعين” وحثهم على عدم الحكم المسبق على مشروع الدستور المزمع إطلاق سراحه، وعلى ضرورة معرفة بنوده قبل الحكم عليه، تحذيرهم من مخاطر الرفض “العدمي” الذي سيقتل حسبهم الأمل وسط المواطنين.

أذكّر هؤلاء أنهم كانوا في كل مرة يطالبون غيرهم بعدم الحكم المسبق على “مشاريع” فرضتها السلطة ولم تطرحها للنقاش الجاد، ثم ما تلبث أن تسقط عنها ورقة التوت ويتضح أن حس المواطن البسيط كان أصدق أو أحنك من حس الساسة “الحكماء”؟ إلى متى يظل خفي عنهم أن رفض مشاريع السلطة ليس موقفا عدميا أو حكما مسبقا على النوايا وإنما هو موقف مبني على منطلقات وسوابق ودراية بطبيعة نظام تفتقت عبقريته فقط في المناورات لاستدامة نفسه من خلال حبك مسرحيات تغيير لا تغير قيد أنملة من حقيقة الوضع؟ هل غاب عنهم مرة أخرى أن المشكلة (والحلّ أيضا) ليست في نصوص الدستور وبنوده مهما كانت (سيئة أو أفلاطونية) وإنما في آلية تحضير هذه الدساتير وطريقة عرضها وهوية القائمين عليها ونظام الحكم الذي تقوم عليه؟

بالفعل كثر الحديث منذ أشهر عن تعديل الدستور الذي طال أمده، بين متوجس ومرتاب لِما يعلمه من مناورات السلطة، وخشيته من تلاعب إضافي لاستدامة الوضع القائم، وبين متفائل ومروج لما يعتبره انفتاحا ديمقراطيا واعدا، وطرف ثالث يرى بضرورة التأني وعدم الحكم على الشيء قبل ولادته. موضع اهتمامنا في هذا الورقة هو الطرف الثالث، لأنه يبدو وكأنه لا يستخلص الدروس من ألاعيب السلطة التي دأبت على إفراغ كافة المشاريع و”المصطلحات” من معناها.

بادئ ذي بدء هل يجهل أحد أن صياغة وتعديل الدساتير في دولنا تكون دائما على مقاس السلطة القائمة، ولو كانت النية صادقة والعملية جادة لتمت هذه العملية عن طريق تشكيل جمعية وطنية تضم جميع مكونات الشعب، من أحزاب، سواء المعترف بها أو الممنوعة والمثقفين والحكماء، بحيث يسمح ذلك لكافة فئات الشعب من الإدلاء برأيهم والتعبير عن طموحاتهم، لتتمخض العملية عن دستور توافقي يعرض على الشعب للتصويت عليه، الأمر الذي من شأنه أن يمهد الطريق أمام التأسيس لدولة القانون وعدالة مستقلة ونزيهة، ومحكمة دستورية تنظر في دستورية القوانين.

بدل ذلك، يخبرنا بيان الرئاسة الصادر مؤخرا بأن مشروع الدستور سيمر عبر غرفتي البرلمان الفاقد للشرعية والمصداقية، الموالي تماما للسلطة الفعلية، بما يدل بشكل جلي على غياب النية في إحداث تعديلات عميقة تمس التوازنات الكبرى للسلطات، وفرض على الشعب مسرحية هجينة لا تلبي أدنى مستوى مما يطمح إليه المواطنون ويستجيب لتطلعات الأجيال القادمة.

طبعا سيتهمنا البعض بامتهان النقد العبثي الذي يناقض روح التغيير وينفي نية الخير عند الغير رغم ما يحمله (حسبهم) هذا المشروع من إصلاحات واسعة كفيلة بأن تخرجنا من المأزق. لكن الواقع يثبت أن التشاؤم لا هو عبثي ولا قتل للأمل، بل قائم على قراءة موضوعية وتراكم لما خبرناه طيلة أكثر من نصف قرن من المناورات وصرف الأنظار عن جوهر الموضوع، أي التستر على نظام الحكم وآليات التسيير التي أحدثت دمارا منقطع النظر وخلفت تصحر سياسي واجتماعي أدى إلى إفلاس تام، مثلما يقر به حتى الذين يطالبون غيرهم بعدم التسرع في الحكم.

من البديهي أن نجاح أي مشروع تغييري جدي وفعلي لا يمكن تحقيقه بذات الآليات الفاسدة المفضية إلى الوضع المتردي الحالي، وبنفس الرجال، ومن ثَم من العبث اعتقاد إمكانية تحقيق تغيير عميق في نظام الحكم، دون تغيير ظروف وأرضية العملية برمتها.

من أبرز سمات هذه السلطة إفراغ المصطلحات والمقترحات من محتواها المتعارف عليه، مثلما يروج له منذ أشهر، عن ضرورة إقامة الدولة المدنية (وهو إقرار ضمني من أصحاب الدعوة بأن الدولة كانت عسكرية الأمر الذي ما فتئوا يكذبونه)، والغريب أن السلطة تريد تحقيق هذا المشروع في ظل نفس النظام، رجالا وسياسات وآليات، وفق منطق الدولة البوليسية العسكرية، برئيس مطعون في شرعيته، جيء به عن طريق انتخابات مزورة، تفتقد للشفافية والنزاهة، وبرلمان متمخض هو الآخر عن انتخابات مزورة باعتراف المشاركين فيه، وقضاء تابع بشكل مطلق للنظام القائم.

وقبل ذلك، خدعة التعددية الحزبية التي فُرِضت على السلطة بضغط شعبي عقب أحداث أكتوبر 88، فتمّ التحايل عليها من خلال تلغيم المشهد السياسي بتفريخ عشرات الأحزاب في مخابر هذه السلطة، دون أن يكون لها أي وجود حقيقي، لقاء عدد من المقاعد في المجالس عبر تعيين في ثوب انتخابات، وما صحب ذلك من امتيازات مادية ومعنوية في إطار شراء الذمم، الكثير من هذه الكائنات الطفيلية أصبح في خبر كان بعد أن كلف خزينة الدولة الملايير، دون أن ننسى في المقابل محاولات هذه السلطة تفجير الأحزاب الشعبية باختلاق أحزاب مستنسخة لها مثلما فعلته مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ  وجبهة القوى الاشتراكية وجبهة التحرير الوطني.

وكذا “مراقبة الانتخابات”، المطلب الذي ما لبثت تنادي به الأحزاب التمثيلية لتحصين العملية من التزوير، فعمدت السلطة إلى حيلة قل مثيلها، من خلال إحكام قبضتها على كافة مراحلها ابتداء من قائمة المنتخبين إلى نظام الانتخاب، ثم استقدام عشرات المراقبين الدوليين من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية، وتعيينهم في بعض مكاتب التصويت بالعاصمة، لأداء مهمة واحدة ووحيدة: تزكية العملية بما يضفي عليها الشرعية الحقيقية المفقودة.

وهل ننسى أكبر خديعة، “المصالحة الوطنية” التي اعتبرت من أكبر إنجازات دولة بوتفليقة، بعد فرضها على المواطنين بحيل جمة، دون حضور أو استشارة المعنيين، “مصالحة” ظاهرها الرحمة والاستقرار والسلم وباطنها دفن الحقيقة ومنع تحقيق العدالة، من خلال سن قوانين ظالمة مخالفة لكافة المواثيق الدولية، فضلا عن قلب الحقائق، عبر تجريم الضحايا الأموات والأحياء، بل وحتى أسرهم، وفي المقابل تمجيد الجلاد، إلى جانب سن مواد (44 و46) تعاقب بالسجن والغرامة المالية كل من يطالب بالحقيقة ويرفع دعوى ضد مرتكبي الجرائم المروعة! يلاحظ ذلك البون الشاسع بين مصالحة السلطة التي تفرض منطقها بالحديد والقوانين على المقاس، وبين مصالحة دعت لها قوى سياسية لها تمثيل واسع على المستوى الشعبي في 94/95 على رأسها الجهات الثلاث، بمشاركة المرحومين مهري وآيت احمد عن جبهتي التحرير والاشتراكية، والجبهة الإسلامية، وما انبثق عنها من عقد وطني (عقد روما) من أجل مصالحة حقيقية وحل جذري للأزمة، عندما كان عدد الضحايا يومئذ لا يتجاوز 30 ألف. ورغم أن الدعوة لم تستثن حتى السلطة القائمة باعتبارها أحد أطراف النزاع بحكم الواقع، فضلت هذه السلطة مقاطعة اللقاء ورفضته “جملة وتفصيلا” على حد تعبير الناطق باسم الحكومة آنذاك، أحمد عطاف، كما أوعزت إلى أبواقها الإعلامية بنهش لحم المشاركين في اللقاء ووصفهم بأبشع النعوت، ولم توفِر أو توّقِر حتى المرحومين مهري وآيت أحمد، واتهامهما بالخيانة العظمى و”التواطؤ على الدولة”. طبعا ليس خفي أن رفض السلطة المشاركة في مثل هذا اللقاء يعود لإدراكها عدم قدرتها فرض وصايتها مثلما دأبت عليه في مبادراتها وحلولها، وأن لقاء العقد الوطني نتائجه “غير محسومة سلفا”، واجتماعاتها مفتوحة تبحث عن حل توافقي، عبر التفاوض من أجل إخراج البلاد من محنتها الطاحنة، هنا يكمن الفرق.

من المناورات الأخرى، زعم السلطة تقليم أظافر (وشبه تفكيك) أقسام مديرية لأمن والاستعلام، مثلما قيل قبله عن حل البوليس السياسي، في حين تستمر ذات الممارسات المنتهكة للحقوق والحريات وقمع المواطنين المسالمين، في حين كل ما تم عمليا هو تغيير عنوان هذه الأقسام ولون لباسها ونقلها من مقر الدي آر آس إلى قيادة الأركان، بما يذكرنا بعملية مماثلة تتمثل في حالة الطوارئ التي سنت في عام 1992 في أعقاب انقلاب يناير، واستخدمت لشل البلاد عشرات السنين انتهكت في ظلها حقوق ملايين المواطنين، ثم قيل أنه تم إلغائها (بعد ضغوط)، في حين جرى إلحاق معظم موادها التعسفية في القانون العادي.

والآن  تقدم “آخر” إنجازاتها، مشروع تعديل الدستور، الذي تمت صياغته في غياب أي مناقشته حقيقية، لا من قِبل المواطنتين وممثليهم الحقيقيين، ولا حتى علمهم بذلك، رغم أنهم المعنيون بالدرجة الأولى أو هكذا يفترض، ورغم أن الدلائل تبين أن السلطة تحاول مرة أخرى المناورة، وليس أقلها تمرير المشروع عبر غرفتي البرلمان وتخطي عقبة الاستفتاء، نجد من يريد إقناعنا بضرورة منح المشروع فرصة لأنه يستجيب لطموحات الشعب على غرار تصريح السيد سعداني الذي قال بأن المشروع “يعزز الوحدة الوطنية حول تاريخ هويتنا وقيمنا الروحية والحضارية” و”يعزز الحقوق والحريات المواطنين واستقلال القضاء”، “ويتيح فرصة تعميق فصل السلطات والتكامل بينها” و”يتيح مجالا أفسح للمعارضة في البرلمان”، أي كل هذه الفتوحات ستتم من دون أي تغيير في واقع وحقيقة السلطة!

خلاصة القول، الحكم على هذا الدستور لا ينطلق من الحكم على نصوصه لأن المشكلة الأساسية لم تكن يوما في النصوص كيفما كانت، الدساتير الجزائرية مثلا لا تنص على هيمنة دور الجيش والمخابرات، ومع ذلك لا أحد يشك في سطوة هاتين المؤسستين، اللتين تديران كل شيء، كما أن نصوص الدساتير تنص على “فصل السلطات” وهل يتم حقا فصل السلطات، أم أن السلطة التنفيذية متغوّلة وتتحكم في كل السلطات الأخرى، التشريعية والقضائية. المشكلة إذن في عدم تحديد طبيعة النظام أصلا، وهنا يبدأ العمل.

ودون أن أبدو متشائما، لا أعتقد أن السلطة بتركيبتها الحالية وفي الظروف الراهنة، ومن دون قوة فاعلة تجبرها على التغيير، لن “تغامر” بفتح المجال، في أي عملية سياسية سواء كانت انتخابات أو تعديل دستور أو مصالحة، قبل أن تحبك العملية برمتها، وأقصى ما تسمح به هو “المشاركة” الشكلية للتسويق الإعلامي، لأن قناعة السلطة قد ترسخت منذ انتخابات جوان 90 وديسمبر 91 التي كادت فيها لأول مرة المافيا الحاكمة أن تفقد سطوتها وتضع السلطة الشرعية بين أيدي المواطنين دون وصاية، وما أقدمت عليه هذه المافيا في انقلابها على نتائج تلك الانتخابات يؤكد للجميع أنها غير مستعدة للقبول بشرعية الصناديق وسيادة الشعب وحقه في الاختيار الفعلي. هذه الصورة القاتمة ليس الغرض منها التيئيس بقدر ما تريد أن تضع الأمور في نصابها وتوجيه العمل نحو أنجع السبل لإجبار هذه السلطة على إدراكها أن المواطن لم يعد يقبل باستمرار الخداع.

رشيد زياني-شريف
عضو المجلس الوطني لحركة رشاد
21 جانفي 2016

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version