بمناسبة الذكرى الـ61 لاندلاع الثورة التحريرية المجيد، هذه شهادة ديبلوماسي سعودي زامل إبان الثورة وبعدها، رموزا أمثال العقيد محمدي السعيد، الدكتور الهاشمي التيجاني و غيرهم، رحمهم الله جميعا

ما إن أنتهى إلى علم أخي السعودي الدكتور أحمد فهد المارك، أني  من أصول جزائرية ومهتم بكل ما يكتب عن تاريخ ثورة الجزائر المباركة، خاصة من خارج دول المغرب العربي عموما وبأقلام عربية خليجية خاصة من باب وشهد شاهد من أهله، حتى أسرع ليحدثني يومها عن مجاهد أمازيغي كتب عنه والده، اسمه العقيد محمدي السعيد المدعو سي ناصر. فقلت له، لا أسمع عن هذا العقيد فحسب، بل أعرفه معرفة شخصية رحمه الله، و ألتقيته وهو في كامل لياقته البدنية و هيبته الرجولية، وكنت من المرشحين لكتابة مذكراته، أنا وزميل لي صحافي أمازيغي هو أيضا الأستاذ خالد، كان يشتغل في جريدة المساء الجزائرية في تسعينيات القرن الماضي، و أردفت أحكي له هذه القصة ، حول كتابة مذكرات هذا المجاهد الجزائري الفحل، و تحديدا لما أحضر لنا الكولونال سي ناصر رزمة من الوثائق والصور والمطبوعات وقصاصات الجرائد عن حياته و سيرته الذاتية و بعض إخوانه، وأعطيت للزميل الصحفي خالد عن طريق الأخ نذير –حفظه الله–، الطالب حينها من مسجد جامعة الجزائر، ليبدأ فيها زميلنا الإعلامي على عجل في عملية التنقيب والترتيب في هذه الأكوام من الورق والوثائق التاريخية الهامة من تاريخ جزائر الثورة، وكان حينها العقيد سي ناصر ينتظر أن يباشر معه هذا الأخ الصحفي في حوارات أولية لترتيب خطة العمل المستقبلية.. ومرت على الملف أشهر في أدراج مكتب الزميل الصحفي ولم يحرك فيه أي شيء تقريبا.. ورغم حرص المجاهد سي ناصر على الانطلاق في العمل إلا أن زميلنا الصحافي أنهكه العمل اليومي فلم يستطع التفرغ، وسوف الأمر مرات ومرات. فما كان على العقيد سي ناصر، إلا الحزم، وآخر الدواء الكي كما يقال. فطالب بإرجاع الوثائق فورا و بالتالي ضاعت فرصة ثمينة علينا بل ضيعنا جزء من ذاكرتنا التاريخية برواية أحد قاداتها .. فحدثني بعد أيام العقيد سي ناصر متأسفا وقال لي بلغة فرنسية فصحة صارمة متهكما و بلكنة أمازيغية” قل لزميلك الإعلامي يرد لي وثائقي و أوراقي، ويكون بالتالي قد أسدى خدمة جليلة للوطن المفدى”.. وما إن أوشكت على إنهاء سرد هذه الحكاية، حتى قاطعني محدثي الدكتور أحمد بقوله أن والده الديبلوماسي السعودي رحمه الله، تعرف على العقيد سي ناصر أثناء الثورة الجزائرية ووصفه في كتابه بهذه الأوصاف الرزينة الطيبة الشجاعة، كما تفضلت..  و قد تعرف أيضا على مجموعة من رجال ورموز الثورة الجزائرية بقصص مهمة للغاية، خاصة لأجيال الحاضر والمستقبل، و قد افرد ذلك في فصل تحت عنوان “من وحي الجزائر الثائرة” مع سيل آخر من قصص و مآثر المجاهدين في الجزائر وفلسطين وغيرهما، جمعت كلها في كتاب نفيس في أربع مجلدات، عنوان الكتاب “من شيم العرب”، تأليف الوالد الشيخ المجاهد فهد المارك.. وطلبت يومها من الابن البار أخونا الدكتور أحمد فهد المارك والححت عليه أن يعيرني النسخة الوحيدة بحوزته لأطلع لأول مرة على عصارة جهد كاتب وديبلوماسي من أرض الحرمين، عايش الثورة الجزائرية وخدم بعض مجاهدي ثورتنا المباركة وما إن فتحت المجلد الثالث حتى وجدت ضالتي، بحيث يذكر الكاتب تفاصيل ذلك، تحديدا في الصفحات 731–751 ، وتحت عنوان “من وحي الجزائر الثائرة”، يحكي الشيخ فهد المارك تفاصيل غاية في الاهمية عن انبهاره بشجاعة مجاهدي الثورة الجزائرية منها قصة وقعت له معهم في أحد لقاءاته في طرابلس الغرب، ليبيا الفداء و التضحية التي يقول شيخها عمر المختار للمستعمر الايطالي “نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت.. وهذه ليست النهاية.. بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه.. أمَّا أنا، فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي”، كانت تلك الكلمات التي قالها المجاهد الليبي عمر المختار والملقب بشيخ الشهداء، وشيخ المجاهدين، وأسد الصحراء، قبيل تنفيذ المستعمر الإيطالي حكم الإعدام في حقه.. هي نفس الروح التي دفعت المجاهد الجزائري العربي بن مهيدي لترويض المستكبر الفرنسي بشهادته متبسما على المقصلة.. و التي جعلت الجنرال بيجو الفرنسي يقول عنه” لو كانت لي ثلة من أمثال العربي مهيدي لفتحت العالم أجمع”

وإذا قيل هذا عن الشهيد العربي مهيدي، فهذا الفريق اول في جيش الاحتلال الايطالي غراتسياني يقول عن عمر المختار: “هذا الرجل أسطورة الزمان الذي نجا آلاف المرات من الموت ومن الأسر واشتهر عند الجنود بالقداسة والاحترام لأنه الرأس المُفكر والقلب النابض للثورة العربيَّة (الإسلاميَّة) في برقة وكذلك كان المُنظم للقتال بصبر ومهارة فريدة لا مثيل لها سنين طويلة.”

وبهذه البسالة و الاستماتة وصف الأديب والديبلوماسي السعودي أيضا بطولات شعب الجزائر  في جلسة له في ليبيا مع بعض القادة والسفراء العرب بحضور العقيد سي ناصر، يقول الكاتب السعودي فهد المارك:”لقد شرفت نفسي بدعوة عدد من رجال المجلس الوطني الجزائري لتناول وجبة الغداء في منزلي، وقد تم لي ذلك وكنت شديد الحرص على معرفة شيء من قصص بطولاتهم ولكنني لم أجد عند أي منهم تجاوبا لرغبتي، والشيء الذي أثار انتباهي هو أنك قل أن تجد فردا واحدا من الجزائر إلا وله من مواقف البطولة والشجاعة ما يملأ صفحات سفر ضخم، الأمر الذي جعلني أصب بحيرة وتردد عن تنفيذ ما كنت عازما عليه.. و الواقع أن الانسان عندما يرى أولئك الرجال خاصة أيام الحرب فإنما يخيل إليه أنه ينظر أسدا في غاباتها، ومما لا شك فيه أن المرء ليشعر شعورا أكيدا لأول وهلة يتحدث بها مع أولئك الفرسان بأنهم مصممون على إحدى الحسنيين إما الشهادة وإما الحرية والاستقلال، ولشدة ما غمرنا جميعا في ذلك المجلس موجة التعجب والاعجاب عندما قال الدكتور مدحت فتفت، سفير الجمهورية اللبنانية في ليبيا، والمعروف بكرمه الذي لا حد لهن، وبسرعة بديهية بالجد وابتكار النكتة معا للكولونيل محمدي السعيد، الملقب بالعقيد سي ناصر: “من يعلم لو أن الله يتجاوز عن ديغول خطيئاته و يدخله الجنة”.. يا الله.. ما أن انتهى الدكتور فتفت من كلمته هذه حتى صرخ محمدي السعيد، ذلك الرجل العملاق صرخة مدوية قائلا :”إذا كان ديغول يدخل إلى الجنة، و الله لن أدخلها”.. ثم يحكي قصة أخرى لمجاهد آخر لا تقل رجولته وشجاعته عن سي ناصر، وهو أيضا عقيد جزائري اسمه السعيد و أيضا من نفس منطقة القبائل، ممكن نخصص له لاحقا موضوعا كاملا مع الصورة، إن يسر لنا الله ذلك..

و من باب الاعتراف بالجميل لهذا المجاهد بالقلم والسيف، و نحن نحتفل بالذكرى الـ61 لاندلاع الثورة التحريرية المجيدة، فاتح نوفمبر 1954، يطيب لنا تعريف القراء العرب بصاحب كتاب بل موسوعة “من شيم العرب” و التي هي في أربع مجلدات ضخمة.

إنه الأستاذ الأديب الشاعر  الديبلوماسي فهد المارك من أرض الحجاز بالعربية السعودية ولد في مدينة حائل عام 1910، والتحق بدار التوحيد بالطائف عام 1940، وتطوع مع المجاهدين العرب في فلسطين عام 1948، و تعرف على الدكتور الهاشمي التيجاني رحمه الله رئيس جمعية القيم الجزائرية، قبل الثورة الجزائرية المباركة، كما شارك مشاركة فعالة في معارك المالكية شمال فلسطين ونال عدة أوسمة تقديرية لمواقفه العسكرية والحربية. وقد عينه الملك عبد العزيز عام 1950 ملحقاً دبلوماسياً في سفارة السعودية بدمشق، كما كان أول مندوب سعودي لمكتب مقاطعة اسرائيل في مقره الرئيسي بدمشق. بعد ذلك، عمل في عدد من السفارات السعودية في الخارج خاصة في طرابلس في ليبيا أين كانت له لقاءات حميمية مع قيادات الثورة الجزائرية، وعينه الملك فيصل ممثلاً متفرغاً له في الاتصال مع حركة فتح الفلسطينية منذ بداية انطلاقتها عام 1965 واستمر متفرغاً ومكرساً كل حياته لهذا العمل حتى وفاه الأجل عام 1978، حيث ذكر بعض معارفه أنه مات موتة مريبة، إذ كان أيامها يتمتع بصحة جيدة للغاية، ومن المحتمل أن تكون للعدو الصهيوني يد في ذلك، لما لا وهو المعروف عنه كثرة التردد و التنسيق بقيادة فلسطين المحتلة في لبنان و سورية و غيرها من دول المنطقة، و أمر المكيدة للرجل غير مستبعد عن بني صهيون ، لما لا وهو يقاومهم بقلمه و كتبه المقلقة جدا لإسرائيل، و ما أكثرها.. منها على سبيل المثال كتاب “كيف ننتصر على إسرائيل” و  كتاب “افتراها الصهاينة وصدقها مغفلو العرب” و غيرها من المنشورات والمقالات الصحفية..

ومن مؤلفاته المطبوعة – رحمه الله- عدا كتاب “من شيم العرب” و أنا أفضل تسميته من “شيم البشر” كل البشر أي الإنسانية قاطبة، كتاب “كيف ننتصر على إسرائيل” وهناك أيضا كتب أخرى منها: “فهد بن سعد ومعرفة ثلاثين عاماً”، “هكذا يكون الإصلاح”، “هكذا نصلح أوضاعنا الاجتماعية”، “التطور الفكري في جزيرة العرب في القرن العشرين”، “الهدامون والبناؤون”، “سجل الشرف” الذي يسرد فيه قائمة الشهداء.

أما كتبه تحت الطبع فهي عديدة و منها: كتاب “جهاد فيصل الصامت وجانب من عظمته”، كتاب “تاريخ جيل في حياة رجل «محمد العوني»”، كتاب “من تاريخ الثورة الفلسطينية”، كتاب “من الطفولة إلى الكهولة”، كتاب ” كيف هزمنا”، كتاب “جيل يتهم جيلا”، كتاب “لن نهزم اسرائيل عسكرياً قبل أن نهزمها اعلامياً”، والجزء الخامس من كتاب “من شيم العرب.”   

هذه الباقة المتنوعة التي تزخر بها رفوف المكتبة الثرية للأديب الراحل فهد المارك حبذا لو يستفيد منها طلبتنا وكتابنا في المغرب العربي خصوصا و عالمنا الإسلامي عموما، بإعادة نشرها بشكل أنيق و فاخر  متناسق من طرف فريق مختص، يقوم أيضا بغربلة بعض ما وقع فيها من أخطاء مطبعية. أما فيما يخص كتاب “من شيم العرب” الذي اطلعت على مجلدته الاربع، يطيب لي ان أزف في اذن وزارة الثقافة السعودية وعائلة المرحوم ، أن تبذل جهدا مشكورا مباركا، بتكليف فريق متخصص لتلخيص المادة الكثة و الوافرة في كتيبات صغيرة للأطفال، و تكتب أيضا – لما لا – على شكل سيناريوهات أفلام قصيرة هادفة خاصة موضوع فلسطين و الثورة على المستعمر عموما، و حتى القصائد والاشعار لو  تسجل على شكل سنفونيات يتغنى بها الشارع العربي المكلوم اليوم بالحروب الطائفية و العرقية التي لم ينجو منها أحد. بل مناشدة بعض الدول العربية لأطلاق إسم الأديب فهد المارك على مكتباتها و مدارسها، و لما لا، شوارعها كما فعل ذلك إخوانهم في فلسطين المحتلة، إذ أطلق اسم بطل حرب الـ 48 السعودي فهد المارك على مدخل مدينة طولكرم الجنوبي تقديراً لشجاعته في قيادة الفوج السعودي الذي قاتل الإسرائيليين قبل أكثر من 60 عاماً، ليأخذ الشارع اسم “شارع المناضل السعودي فهد المارك.”

وجزى الله الإعلامي عبد الرحيم الأحمدي، الذي علق على كتاب “شيم العرب” مترحما على الأديب فهد المارك و واصفا إياه بـ”النبتة العربية البرية، لم تصرفه حياة المدينة وكواليس الدبلوماسية وبهرجها وتعقيداتها عن العروبة وحياة البادية واستخلاص قيمها الأصيلة، مما هذبه الاسلام وغرسه المعدن العربي، بل زادته هذه الحياة إصراراً على استدراك ما غفل عنه الآخرون من جلاء ثقافة المجتمع العربي وبخاصة ثقافة الجزيرة العربية” مردفا في مقال شيق:” هذا الرجل عاش صِباً مضطرباً كأبناء جيله، فاستلهم من هذه الحياة منهجاً كريماً، وأبان عن أسرارها بل إنه صحح القول الذي يصم المجتمع البدوي بالجهل والتمرد على الفضائل، فكان كتابه”من شيم العرب” مثالاً صادقاً على ذلك. لقد ذكرنا بأيام العرب في الجاهلية وما يحدث في مجتمعهم من صراع يحمل العنف ويجعل من القبيلة دولة تمارس الصراع والعلاقات التي تقوم بين الدول، وما تسعى اليه من وضع أنظمة وقوانين تخفف من حدة التجاوزات والصراعات التي تهدد أمن السكان وتفسح المجال للأقوى، وتعزز قوتها بالتحالفات التي يجدون فيها دعم قوتهم كما يجد الضعفاء فيها سبيلاً إلى العيش الآمن..”

و في الختام لا يسعنا نحن في هذه السانحة، إلا أن نترحم على الأستاذ الأديب فهد المارك على ما قدم لهذه الامة الظالم بعض أهلها، تنويرا لسبيل أمة طال بالجهل ليلها – كما يحلو للعلامة محمد البشير الابراهيمي قوله- ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

محمد مصطفى حابس
10 نوفمبر 2015

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version