قبل أيام أوضح لنا أويحيى بأن حرية التعبير لا ينبغي أن تمس بالدولة ورموزها، دون أن يوضح لنا ما هي الدولة التي يقصدها. هل هي دولة غريمه في اللحظة الراهنة سعداني أو دولة المرادية تحت ظل دبابات قايد صالح أو دولة إمبراطورية ربراب وحداد وفيلق أرباب نهب المال؟ ثم شرحت لنا وزيرة الاتصال بأن حجب المواقع الإباحية مناف لحرية التعبير وللقانون، هذا في الوقت الذي كانت قوات نفس الحكومة تداهم مقر قناة الوطن وتشمعها لاقترافها جريمة استضافة “شخصية وطنية” كان له الشرف أن نزل ضيفًا على رئاسة الدولة للاستشارة في موضع ذي أهمية كبيرة، تخص تعديل الدستور! وبين هذا التصريح والآخر، ضاعت حرية التعبير وعمّت الإباحية باسم القانون.

يحدث هذا في الوقت الذي وعدنا فيه البعض بقرب تطهير المؤسسات المدنية بعد التطهير العسكري الذي أخذ بعدًا غير مسبوق، خاصة بعد إزاحة الجنرال توفيق وعدد من كبار المسؤولين العسكريين، ورأى فيه هؤلاء المبشرين دليلًا على تحقيق للوعود المقطوعة من ِقبل السلطة الحاكمة وصدق نواياها في التأسيس للدولة المدنية الموعودة.

بالفعل لم يطل الانتظار حتى جاءت البشرى، هذه المرة تحمل خاتم المرادية من خلال مرسوم رئاسي، يقضي بتعيين “هيئة وطنية للوقاية من الجرائم الإلكترونية” مشكلة من قضاة وضباط مخابرات وأمن لمراقبة المكالمات والاتصالات الالكترونية، وبمقتضى هذا المرسوم ستخضع اتصالات الجزائريين الالكترونية والمكالمات الهاتفية عبر المحمول والثابت، بشكل رسمي لرقابة هذه الهيئة التي ستتولى تجميع وتسجيل محتواها. ومعنى ذلك بالمختصر المفيد: التجسس الرسمي والقانوني على المواطنين. هل ثمة جديد في الأمر؟ طبعا، الجديد هو أن التجسس الذي كان يمارس بطريقة اعتيادية دون ضجيج، سيتم الآن بموجب مرسوم رئاسي من خلال هيئة وطنية توصف بأنها “مستقلة”!

في الواقع ليس ثمة أي غرابة في أن تلجأ كل الأنظمة الدكتاتورية إلى كتم أنفاس المواطنين من خلال رزمة من القوانين والمراسيم، وهذا ديدان كل دولة بوليسية لم تحترم يومًا المواطن ولا خصوصياته من قبيل مداهمات وتفتيش بيوت المواطنين الآمنين وترويعهم ليلًا دون سبب أو مبرر أو أمر قضائي. لكن الذي يتعجب له المرء (مجازًا) أن هذا النظام بعقليته المحنطة لا زال يعتقد أنه يستطيع استغفال المواطنين من قبيل وصفه هذه الهيئة بأنها سلطة إدارية مستقلة! وتنويرًا للرأي العام يشرح لنا هذا النظام طبيعة استقلال الهيئة، من خلال المرسوم الذي يوضح بأن “الهيئة توضع تحت وصاية عدة هيئات رسمية على رأسها وزير الداخلية، الوزير المكلف للبريد وتكنولوجيات الإعلام والاتصال بالإضافة إلى قائد الدرك الوطني، والمدير العام للأمن، وممثل عن الرئاسة، وممثل عن وزارة الدفاع الوطني، اللذين يعينان بموجب مرسوم رئاسي”. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل استقلالية هذه الهيئة تكمن في كونها تحت وصاية هذه الهيئات وعلى رأسها الداخلية؟ فحتى وجود قضاة ضمن هذه الهيئة لا يضمن استقلاليتها نظرًا لما يعلمه العام والخاص عن خضوع القضاة أنفسهم للسلطة التنفيذية وغياب استقلاليتهم بالكامل.

وزيادة في طمأنة المواطن، تشير السلطة بأن المرسوم يقضي “بضرورة عدم استخدام المعلومات والمعطيات التي يتم تجميعها، لأغراض أخرى غير تلك المتعلقة بالوقاية من الجرائم المتصلة بتكنولوجيات الإعلام والاتصال ومكافحتها”، دون توضيح الكيفية والآليات المتبعة من أجل تحقيق ذلك، خاصة مع تجربة المواطن المريرة مع هذا النظام في مجال احترام حقوقه وحرياته، كما أن المرسوم لم يبين الجهة التي سيلجأ إليها المواطن في حالة شعوره بأنه محل تجسس والعبث بمعلومات تخصه، فهل يتجه إلى مصالح الداخلية أو الدرك أو المخابرات وكلها تشرف على هذه الهيئة؟

كيف للمواطن أن يطمئن على خصوصيته بين يدي هيئة تحت إشراف أجهزة أمنية لدولة بوليسية توظف كل وسائل الدولة المادية والبشرية والقانونية للتجسس على المواطنين، وتستخدم كل ترسانتها القمعية لإجهاض كل محاولات التغيير السلمي الحقيقي؟ كيف للمواطن أن يصدق “استقلالية” هيئة تعين بموجب مرسوم صادر عن رئيس نظام يكفر بأبجديات دولة القانون التي من مواصفتها فصل السلطات واستقلال القضاء وخضوع كافة الأجهزة الأمنية والجيش لمراقبة سلطة مدنية منتخبة؟

لكن يبدو أنه مع تراجع مداخيل الدولة التي لا تزال تعتمد بعد أكثر من نصف قرن من استقلالها على واردات المحروقات بنسبة 90% مما يشكل في حد ذاته دليلًا قاطًعا على إخفاق مروع يكفي لوحده لسحب أي مشروعية منها، ونظرًا لشح هذه المداخيل، لن تستطيع السلطة مواصلة سياسة شراء السلم الاجتماعي، مما يفسر عودتها على بدء، وإخراج عصا التهديد والوعيد بحجة ضرورات “استتباب الأمن والاستقرار”، وأخطر ما تحمله هذه الوصفة الجديدة القديمة أن مستقبل الجزائر يظل رهينة مغامرين  سيخربون ما بقي في حالة عدم حدوث هبة جمعية توقف خراب محدق.

رشيد زياني شريف
27 أكتوبر 2015

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version