الملاحظ عن مالك بن نبي رحمه الله، أنه حريص على صياغة أفكاره في شكل صيغ رياضية، وكأنها خلاصات صاغها من خلال قراءته للتاريخ تشبه القوانين الثابتة، وهذه القوانين، قد يكون جوهر أفكارها موجود عند غيره، وقد لا يكون، وإنما الثابت أن ما أنتج من أفكار مبثوثة في كتبه، تتسم بهذه الصفة، وهي أنه يحرص على صياغة الفكرة في شكل منتوج مركب من أجزاء، قد تكون هذه الأجزاء منتوجات مركبة هي أيضا من أجزاء، والسر في ذلك فيما يبدو طبيعة تكوينه العلمي الذي غلبت عليه النزعة الرياضية الفيزيائية، وهي صيغة من صيغ البيان التي يستحسنها مسلم القرن العشرين الذي تتقاذفه النزعات العلمانية الإلحادية الداعية إلى استبعاد الدين والتخلي عن القيم الثقافية والأخلاقية، وتسهيلا على الناس ليفهموا الأفكار العميقة والمعقدة بسبب العمق حينا وبسبب الترجمة آخر، بأساليب سلسة في جمل بسيطة ممزوجة بروح رياضية يقينية أو تكاد.

والعجيب أن فكرة الصياغة الرياضية هذه لم تقف عند الاستعانة بالرياضيات وحسب وإنما كانت أفكارا بصيغ رياضية، في شكل ثلاثيات، أي أن الفكرة ينتجها، ولكنها متكونة من ثلاثة عناصر، فلا هي أربعة ولا هي إثنين، وقد تتبعت هذه الثلاثيات، فوجدت منها حوالي 8 ثلاثيا أساسية على الأقل، والاستقراء ليس تاما، وإنما هذا ما اهتديت إليه إلى الآن، نعرضها في هذه الصفحات، وهي ثلاثيات تكاد تحيط بكل ما أنتج مالك بن نبي من أفكار، خلاصات في تقديري مهمة تمثل جملة أفكار بن نبي ومكوناتها.

الإنسان والتراب والوقت

صاغ مالك بن نبي هذه الثلاثية في معرض كلامه عن نشأة الحضارة، وفي معرض الكلام عن المنتوج الحضاري، حيث قال: الحضارة = إنسان + تراب + وقت، وكذلك المنتوج الحضاري، فكل منتوج حضاري، هو: ناتج حضاري = الإنسان + تراب + وقت.

من الناس من اعترض على هذا التعريف [أنظر: الحضارة الإنسانية في القرآن، للدكتور البوطي]، على أنه تعريف تغلب عليه النزعة المادية، وفضلوا أن تكون العبارات، الإنسان والكون والحياة، بدل الإنسان والتراب والوقت، وقريب من هذا الاعتراض، تساءل آخرون عن دور العقيدة الدينية في هذه التركيبة، لكون الإنسان لم يخل من عقيدة في حياته، فأضاف بن نبي في طبعة أخرى لكتابه شروط النهضة، أثر الفكرة الدينية في تكوين الحضارة أيدِ الناس اليوم. لا شك أن المرء قد يلفت انتباهه في هذه الإضافة، قوله أثر الفكرة الدينية ولم يقل دور الفكرة الدينية، وهو فرق ما أظن بن نبي غفل عنه!!

ما يهم بن نبي في هذه الثلاثية، ويريد إبرازه لأبناء العالم الإسلامي المتخلف، هو رأس المال الأولي الذي انطلق به الإنسان عندما كان لا يملك شيئا، فالإنسان من حيث هو إنسان، منذ سيدنا آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، بقطع النظر عن مكتسباته التي اكتسبها بفضل اجتهاداته عبر التاريخ، والتراب من حيث هو مادة أولية لكل منتوج يظهر في الوجود، والوقت من حيث هو قطعة زمنية صالحة لتقييم كل شيء. فهو لم يرد بذلك البحث في مادية الإنسان أو روحيته، وإنما أراد أن يذكر ما عرف عن الإنسان وتفاعله مع الكون ليكون ذلك قاعدة للإنسان أينما كان وحيثما وجد ومهما كانت قدراته العلمية والروحية ومكانته المادية، وكأنه يقول لأبناء العالم الإسلامي المتخلف، لا تغتروا بما انتهى إليه الغرب من خلاصات وما تفوق فيه اليوم، فأنتم أيضا تستطيعون ذلك؛ لأن الحضارة وأية حضارة، تنطلق من ثلاثية كرأسمال أولي وهو: الإنسان والتراب والوقت، وكل منتوج حضاري لا بد له من هذه الثلاثية، فحظ المتخلف من الزمن كحظ المتحضر، وما سخر للمتحضر من الكون هو نفس القدر الذي سخر للمتخلف تماما كما قال الله تعالى (كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً) [الإسراء 20].

وهذه الثلاثية موجود بوجود الإنسان، وليست ميزة لشخص دون آخر، ولا لمجموعة دون أخرى، ولا لدين دون آخر، وإنما هي موجودة متى وجد الإنسان، فلا وجود للإنسان خارج الزمن أو خارج الكون، في هذه الحياة طبعا، وذلك من عدل الله، وإنما الإنسان هو الذي يجني على نفسه بالجهل والقعود واللافاعلية، وينهض بالعلم والحركة والفاعلية.

اما مسألة الروحية او موقع العقيدة الدينية التي أراد بن نبي أن يظهرها في شكل أثر وليس في شكل دور؛ لأن أثرها موجود، فلا توجد حركة للإنسان إلا وأثر الدين فيها واضح، أما دورها فيظهر في شكل طاقة وفاعلية، وليس في شكل إيجاد وعدم، وهذا هو جوهر الخلاف بين بن نبي وسيد قطب في تعريف الحضارة، حيث أن سيد قطب يرى أن المسلم متحضر بالضرورة، اما بن نبي فيرى أن المسلم يمكن ان يكون متخلفا إذا فقد الدين إشعاعه في الحياة [انظر: معالم في الطريق لسيد قطب، والفكرة الأفروآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ لمالك بن نبي] .

وهذه الحضارة التي تنشأ بتفاعل هذه العناصر الثلاثة، الإنسان والتراب والوقت، فإن سيرورتها حسب حركة الإنسان في التاريخ تمر بمراحل ثلاث، وهي مرحلة الروح، ومرحلة العقل، ومرحلة الغريزة، وهي الثلاثية الثانية.

الروح، العقل، الغريزة

تُصَوِّرُ هذه الثلاثية مستوى التفاعل الذي تكون عليه المجتمعات في دوراتها الحضارية، حيث أن كل دورة حضارية تمر بمراحل ثلاث، مرحلة الروح وهي مرحلة العطاء والنمو والتطلع للغايات بأقوى ما تكون عليه المجتمعات في عطائها، حيث أن المجتمع المنشئ للحضارة يكون في هذه المرحلة، في تفاعله مع الواقع مثل مرحلة الشباب في الطبيعة البشرية التي تمثل طاقة متدفقة، تبحث عن مواقع في المجتمع لصرفها.

إن الشباب مرحلة عمرية تمثل أعلى مستويات الطاقة، بحيث يكون الإنسان فيها الأقوى من جميع مراحله العمرية السابقة لها واللاحقة، وكذلك المجتمع المنشئ للحضارة يكون في هذه المرحلة –مرحلة الروح- باحثا عن ساحات في الواقع للقيام بالواجب على أفضل وجوهه. وقد ضرب بن نبي مثالا لمرحلة الروح هذه بالفترة التاريخية في المجتمع الإسلامي بفترة النبوة والخلافة الراشدة، أي من البعثة إلى واقعة صفين، التي تسلل فيها إلى مجتمع الصحابة أول خلاف في طبيعة النظام الاجتماعي والسياسي. هنا توقف إشعاع الروحّ، بجميع أبعاد التوقف، انقطاع الوحي وكمال الرسالة، انتهاء مرحلة التأسيس واكتمالها، توقف غلبة التوجيه والانتقال إلى استثمار المخزون المادي والمعنوي، أي مرحلة العقل. هنا دخل المجتمع مرحلة جديدة سوف تكون مختلفة عن المرحلة السابقة لها.

وما تتميز به مرحلة العقل في المجتمع، هو الانتقال إلى العطاء واستثمار الجهد البشري،  فانتقل المجتمع الإسلامي إلى منطق العقل وهي مرحلة الاستقرار والتوقف عن الاستزادة من المادة الخام، والانتقال إلى الإنتاج وتنويعه، فتوقف إشعاع الروح ليسلم مشعله إلى العقل ليعمل منطقه على الموازنة بين العطاء والأخذ، وبين الكم والنوع، وبين الإسراع والبطء، وبين الركود والحركة، والحق والواجب. وإذا شبهنا مرحلة الروح بمرحلة الشباب وما تتميز به من طاقة وعلو الهمة والتفاعل والعطاء، فإن مرحلة العقل تشبه مرحلة الكهولة التي يغلب عليها التردد بين الأخذ والعطاء وغيرهما من المقابلات بين الإقدام والإحجام، والمقياس في ذلك هو القيد العقلي الذي يمثل الرقابة على الفعل وتقييمه سلبا وإيجابا، فلا عطاء مستمر ومتنام ولا توقف مفضي إلى الركود.

أما المرحلة الثالثة وهي مرحلة الغريزة فتشبه إلى حد بعيد مرحلة الشيخوخة، حيث لا يصبح للعقل سلطانا كاملا على الحركة والفعل، فتفقد الحضارة والمجتمع والفرد مستوى الفاعلية الذي يطمح إلى الارتقاء؛ بل يتحول إلى انفعالات وردود أفعال لا تسمن ولا تغني من جوع، وما تتميز به مرحلة الغريزة، هو توقف الروح عن إنارة الطريق، واختفاء العقل عن الرقابة والتأثير والتوجيه، فتصبح الحركة مثل الفعل غير الإرادي الذي لا هدف له ولا غاية، وإنما جملة من الانطباعات والأوهام تعرض في محل الأفكار، فيظن المجتمع أنه على هدى وهو على غير الطريق السوي.     

لكن السؤال المطروح هل هذه المراحل الثلاث حتمية ام يمكن تجاوزها والقفز عليها؟ فمالك بن نبي رحمه في تقديري، صاغ الفكرة في إطار ما فطر عليه البشر، كما صاغها عبد الرحمن بن خلدون في عمر الدولة التي شبهها بعمر الإنسان، الذي يولد ويقوى فيستوي على سوقه ثم يهرم فيشيخ ويموت، وقدر عمرها بمائة عشرين سنة في مجموع ثلاثة أجيال، جيل يبني الدولة، وجيل يرثها ولا يحافظ عليها كما حافظ عليها الذين بنوها، وجيل يضيعها لأنه يفقد روح بانيها بالمرة، فلا يشعر بمعاناة بناتها، فيعيش البذخ والسهولة واستهلاك الثمار فيضيع الإرث. ولكن الفرق بين ابن خلدون وبن نبي، ان ابن خلدون صاغ الفكرة وكأنها حتمية، بينما بن نبي أورد الفكرة بطبيعتها التي تجري عليها الفطرة والطبيعة البشرية إذا ما تركت على سجيتها، لكن تأكيده على أهمية عنصر الإنسان وفاعليته في البناء الحضاري على بقائه واستمراره، توحي بأنه لا يرى بحتمية ذلك؛ بل ترى أن إمكانية تمديد عمر مرحلة من المراحل وارد، وهذا لأمر لم يذكره في عرضه للدورة الحضارية وإنما يستفاد من مجموع طرحه لمشروع النهضة وآلياته، وإنما اكتفى في عرضه للدورة بالتأريخ لها في مراحلها الثلاث، بوقائع تاريخية معينة في التاريخ الإسلامي، فمرحلة الروح بدأت مع ولادة الرسالة بالبعثة النبوية في مكة واستمرت إلى معركة صفين سنة…، ليتسلم العقل المشعل ويستمر إلى غاية عصر ابن خلدون أو عصر ما بعد الموحدين، لتقتحم العاطفة الحياة وتشرع الأمة في فقدان مواقعها، موقعا موقعا إلى عهد استيلاء الخرافة على جميع مناخي الحياة. وما يوحي بأن بن نبي لا يرى ذلك حتميا في الدورة الحضارية بمدد محددة ومعينة، أنه يرى عملية التغيير بيد الإنسان (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد 11]، بحيث يستطيع الإنسان بتغييره لنفسه، ان يمدد في مرحلة على حساب مرحلة أسوأ أو أفضل.

عالم الأشياء وعالم الأشخاص وعالم الأفكار

وضرب لهذه العوالم الثلاثة مثالا في علاقة الطفل بها، فمنذ الميلاد يبدأ الطفل في بناء علاقاته بالوجود بعالم الأشياء، حيث تبدأ مع تلقف الشيء ووضعه في فمه ولو كان الملتقط نارا، فكل شيء يراه يندفع إليه بكل ثقله، ويقترب إليه بيده ليقبضه، وهذا يكون في الشهور الأولى ولكنه لا يتجاوز السنة الأولى من العمر، حتى يدخل عليه معيار آخر وهو عالم الأشخاص، عندما يبدأ في التعرف على أفراد الأسرة، ويفرق بينهم هذا أبوه وهذه أمه، ويميزهم عن غيرهم، ويفرق بينهم وبين الأقارب والأباعد من الجيران وغيرهم، ويستمر على هذه الحال لا يتجاوز المرحلتين الأشياء والأشخاص بالتعرف عليهما والتفاعل معهما إلى غاية التحاقه بالمدرسة، حيث ينتقل إلى عالم جديد يلتقي فيه بالأطفال، ويذهب معهم إلى المدرسة، وفي المدرسة يجد المعلم والمدير وحارس المدرسة..إلخ، فيخوض في هذه المرحلة تجربة جديدة في شكلها وفي مضمونها، فيلتقي بعالم الأفكار، هنا تبدأ علاقة الطفل بالأفكار والامتصاص المعرفي الذي لا يجاوز طور التأسيس لمبادئ الفكر التي تشعره بالثقة في النفس والإقدام على تنفيذ ما يراه مناسبا.

وكأن بن نبي بهذا المثل يقول إن علاقة المجتمعات بعوالم الأشياء والأشخاص والأفكار، تحكمها مراحل عمرية، كالمراحل التي يمر بها الطفل تماما، فيكون متعلقا بالأشياء في أولى مراحل تطوره، فيجعلها مقياسا لكل شيء وحكما عليه، فالسيارة الفاخرة والقصر وكثرة الأموال هي الشاهد على قيمة الإنسان ومستواه، ثم ينتقل في مرحلة لاحقة إلى عالم الأشخاص ليجعل منهم نماذج للنجاح والإخفاق، فالأفعال لا تعني له شيئا منفصلة على أصحابها، فلا يقال للشيء حسن أو سيء إلا عندما يقوم به زيد الصالح أو عمرو الفاسد، وفي مرحلة لاحقة هي الأكثر تطورا، يتحول المجتمع إلى مرحلة التعامل مع الأفكار مباشرة لتكون بعد ذلك هي الحاكمة على الأشياء بالصلاح والفساد وعلى الأشخاص بالنجاح والإخفاق.

الجهل والفقر والاستعمار

وهي ثلاثية العدو الذي يقضي على المجتمعات فيمحوها من الوجود مسحا، فيرى مالك بن نبي أن تحالف الجهل الذي هو أخو الجاهلية، والفقر الذي هو أخو الكفر، والاستعمار الذي نعته بالشيطان، هو أسوأ ما يمكن أن تصاب به المجتمعات فتستعبده وتخضعه للتجارب كما تخضع الفئران لعلماء البيولوجيا.

وما من شر يصيب المجتمع أفرادا وجماعات ويوهن علاقاته ببعضه البعض، إلا وضلع من أضلاع هذه الثلاثية ممتد فيها، ولذلك كان كثيرا ما يركز على محاربة هذه السلبيات التي لا تسمح لمعنى من معاني النهضة والتحضر والتفاعل بالظهور، وإذا ظهر لسبب من الأسباب فإنه لا يستمر ولا يثمر شيئا خادما للإنسان.

قبل الحضارة، الحضارة، بعد الحضارة

يفرق مالك بن نبي رحمه الله بين الحضارة والإنتاج الحضاري، ذلك أن المنتوج الحضاري هو مادة للاستهلاك والاستعمال، يستفيد منها المتحضر والمتخلف، بينما الحضارة هي توفير شروط مادية ومعنوية تمكن الإنسان من القيام بواجباته ونيل حقوقه في الإطار الاجتماعي.

ومن ثم فإن الحضارة هي الوضع الذي يحقق الضمانات المذكورة، والمتحضر هو الذي يتعامل مع الواقع وفق تلك الضمانات، وليس المتحضر من يحمل من المواصفات والمظاهر كيت وكيت وحسب، ولو كانت تلك المواصفات من القيم الحضارية، ولذلك لا يعتبر بن بني مجرد التدين تحضرا، لأن المتحضر في رأيه هو كل من يحقق معاني الحضارة المذكورة آنفا، بحيث يكون متخلفا عندما يفقد تلك الشروط الضرورية للتحضر، وإذا كان مؤمنا لا يفقد إسلامه وإيمانه، وعندما سئل بن نبي رحمه الله عن اختلافه مع سيد قطب في مفهوم الحضارة في دمشق قبيل وفاته، قال: “إن الشهيد سيد قطب كان يتكلم عن الإسلام الذي أنزله الله، وأنا أتكلم عن الإسلام كما يمارسه الناس”، والفرق واضح بطبيعة الحال، فهو فرق بين المطلق والنسبي.

وأما مجتمع ما قبل الحضارة فهو مجتمع الفطرة، أي المجتمع الصافي الذي لم ير حضارة من قبل، بينما مجتمع ما بعد الحضارة، هو مجتمع فاقد للحضارة، أي مجتمع متفسخ حضاريا، كانت له حضارة وضيعها أو فقدها، وبن نبي يفرق بين هذه الحالات الثلاث، ليبرز الحقيقة المطلوبة وهي العمل على بناء الحضارة، التي يختلف بناؤها بين مرحلة ما قبل الحضارة وما بعد الحضارة، حيث أن ما قبل الحضارة يكون بناؤها أسهل من مرحلة ما بعد الحضارة، لأن إنسان ما قبل الحضارة يكون المجتمع عبارة عن صفحة بيضاء معدة لكتابة أي شيء فيها، أي مستعد لاستقبال الفعل الحضاري، بينما مرحلة ما بعد الحضارة فإن ما بقي فيها من مخزون حضاري مشوه، يمنعه من البناء ومن ثم يتعين إفراغه من تلك المحتويات المشوهة وملؤه بالعناصر الحضارية الجديدة.   

الحاضر والتاريخ والمستقبل

لهذه العناصر الثلاثة خصص بن نبي البابين الأول والثاني من كتابه “شروط النهضة”، ليعرض لفسلفة التاريخ في بناء الحضارات وانهيارها، ودور الإنسان في ذلك، ولكن دائما كعادته يقدم الكتلة الكبيرة من الأفكار مفككة إلى عناصر جزئية، بحيث تفهم الكتلة الكبيرة من خلال فهم أجزائها التي أشار إليها.. فالتاريخ أحداث ووقائع ولكن هذه الأحداث والوقائع لولا الإنسان ما كانت، فما دور الإنسان فيها؟ ثم إن لهذا التاريخ منعرجات ومنحنيات لها مدلولها في تحول الإنسان والنظم والدول، حتى أنه تساءل لماذا لم ينتبه المؤرخون المسلمون إلى التحول الذي حدث للمجتمع الإسلامي سنة 38 للهجرة، أي واقعة صفين… ثم إن التاريخ عموما كان واقعا، ما الذي حوله إلى تاريخ بطولات وهزائم؟ وما علاقة هذا الواقع الذي سيصبح تاريخا بالمستقبل الذي يمثل الغاية لكل حراك إنساني، وكأن بن نبي يريد أن يقول من خلال عرضه لهذه الثلاثية ان التاريخ يصنعه الإنسان، ليعالج واقعا ويستشرف مستقبلا، وكل ذلك مهم، فليس هناك أولوية لواحد من هذه العناصر الثلاثة على غيرها كما يتوهم البعض فيقول المهم هو المستقبل وليس الواقع والماضي..؛ لأن مستقبل اليوم واقع الغد وتاريخ المستقبل، وكذلك الواقع كان مستقبلا وسيصبح ماضيا وتاريخا، والتاريخ أيضا او الماضي كان واقعا ومستقبلا.

إن هذه الثلاثية، هي أركان حركة الإنسان، المتضمنة لقوانين الحركة وضوابطها المرشدة للإنسان وغاياته التي يهدف إليها منذ فجر التاريخ.

الفكرة الميتة والفكرة القاتلة والفكرة الصحيحة

وضع بن نبي لهذه التوصيفات المتنوعة للفكرة: فكرة ميتة، فكرة قاتلة، وفكرة صحيحة، ليضع بين يدي قارئه النماذج الفكرية الشائعة في العالم الإسلامي، والتي تتصارع فيما بينها حول ما يصلح للعالم الإسلامي من مشاريع الإصلاح، وبحكم أن الرجل ليس مجرد واصف للواقع وإنما هو ناقد له ولما ينتج عنه، فقد أصدر على تلك الأفكار أحكاما بناء على قناعات ثابتة عنده، رغم أن لهذه الفكرات الثلاث وجود وتأثير وتوجيه، في الحراك الاجتماعي والثقافي والسياسي، وتتبناها مجموعات من الكتل البشرية، الجمعوية والحزبية والأيديولوجية.

ويريد بالفكرة الميتة، هي الفكرة المستنسخة من التاريخ، ولا تستجيب لمتطلبات الواقع؛ لأن متغيرات الواقع لا تسمح دائما باستنساخ التجارب كما كانت في الماضي، أما الفكرة القاتلة فهي الفكرة المستوردة من ثقافة أخرى، غير ثقافة المجتمع ومرجعياته الفكرية والعقدية، مقتلعة من أرضها ومحيطها، فهي فكرة قاتلة؛ لأنها بمثابة العقار الصالح لمعالجة مرض ما، فيقدم لمعالجة مرض آخر، فيكون قاتلا بدل أن يكون معالجا. اما الفكرة الصحيحة فهي الفكرة المطابقة للعلم، والمقصود بالصحيحة حسب رأي بن نبي، هي الصحة النظرية، ويبقى إسقاطها على الواقع، هل هو مناسب ام لا؟ فذلك يحتاج إلى تقدير آخر في تقدير بن نبي، وقدر من توفير الشروط اللازمة وانتفاء الموانع، وإلا أصبحت غير فعالة مع بقائها صحيحة نظريا، كمثل أعلى ينتظر الوقت المناسب.

وإذا أردنا أن نمثل لهذه النماذج للأفكار السائدة في العالم الإسلامي، لا نجد للتعبير عن الفكرة الميتة أفضل من بعض أجنحة التيار السلفي المتطرف من التيار الإسلامي التقليدي، ولا أفضل من متطرفي التيار اللائكي اللاديني للفكرة القاتلة، ولا أصدق من الفكرة الإصلاحية التي ظهرت في بداية القرن العشرين، كفكرة وبديل تحرري مضاه للفكرة الغربية الاستعمارية المتغطرسة.

الفكرة والعمل والمال

يذكر بن نبي أن مشكلات العالم متنوعة ومختلفة باختلاف الإنسان ووضعه، فرجل الاستعمار غير رجل القابلية للإستعمار، وظروف هذا غير ظروف هذا، وحال هذا غير حال هذا، ومع ذلك يرى أن هذا الإنسان هو أهم عناصر المشكلة، ومن ثم لا بد من معرفة تأثير هذا الإنسان كفرد في الإطار الجماعي، فيقول إن  الفرد في القرن العشرين يؤثر في المجتمع بفكره وعمله وماله.

تلك هي الثلاثية: الفكر والعمل والمال

والمعروف عن بن نبي ان الأولوية دائما للفكر؛ لأن الفكر هو أصل كل حراك اجتماعي ثقافي اقتصادي سياسي، وكل منظومة فقيرة في الإنتاج الفكري فقيرة بالضرورة في جميع المجالات؛ ولأن الفكر هو روح الإبداع والتجديد والإضافة والابتعاد عن التقليد والأبائية والاستنساخ، سواء تكلمنا عن الفكر كمثل عليا أفكارا صحيحة تنتظر الظروف المناسبة لتشق طريقها في الواقع، او كأفكار فعالة قابلة للتنفيذ مباشرة.

اما العمل فهو المحصول الطبيعي للفكر الجاد البعيد عن الأوهام، والعمل هو نقل الأفكار إلى مشاريع استثمار في جميع المجالات خدمة للمجتمع.

أما المال فهو العنصر المكمل للعملية المتعلقة بواقع الإنسان، وليس أصلها. ويعجبني هنا مثال ذكره في كلامه عن مفهوم الاقتصاد في المجتمعات، فتساءل: لو افترضنا أن واشنطن حطمت على آخرها، هل يمكن أن نعيد بناءها بما تملك واشنطن من رصيد ذهبي؟ ثم أجاب لا يمكن؛ لأن رصيد المجتمعات من الذهب قليل عادة، ولكن يمكن ان يعاد بناؤها بما تملك من رصيد اجتماعي، أي أن مخزون جهد المجتمع الأمريكي كمجتمع متحضر، يمكنه من بناء أضعاف مدينته المحطمة، ذلك أن الرصيد الفكري عالي ومستوى العمل عالي أيضا اما المال، فهو كتلة نقدية متنقلة بين أيد فئات المجتمع، يقبضها العامل مقابل عمله، ثم يسلمها إلى المنتج مقابل مواد استهلاكية معينة، والمنتج يوزعها على مورديه من أصحاب المواد الأولية، والجميع –العامل والمنتج والمورد- يدفعونها ضرائب، وربما أودع بعضها في البنوك فَتُقْتَرَضُ لأداء مهمة أخرى…إلخ.

لقد ذكر بن نبي هذه الثلاثية كعناصر يؤثر بها الفرد على المجتمع، ولعله اعتبرها مما تميز به القرن العشرين، ولكن ما أظنه أراد التأثير المنفصل، أي أن واحدا من هذه العناصر لا يكون مؤثرا تأثيرا فعالا إلا وإلى جانبه صاحبه، وبكلمة مختصرة أن كل صاحب مشروع، لا بد وأن يستحضر هذه العناصر الثلاثة لينجح وإلا سيبقى عديم التأثير ومنقوصه.

هذه ثمان ثلاثيات استقرأتها من قراءاتي لمالك بن نبي رحمه الله، وربما وجد غيرها، ولكن ما وقفت عليه من فكر هذا الرجل وجدت أن هذه الثلاثيات عليها مدار أفكاره كلها إلا ما تعلق منها بالصراع الفكري، فلا تلمسه هذه الثلاثيات إلا من التركيز على الفرق بين الفكرة والوهم، وهو المجال الذي يستثمر فيه صناع الصراع الفكري,, وما عدا ذلك أرى أن هذه القراءة السريعة وهذا العرض المبسط لهذه الثلاثيات يكفي قارئ مالك بن نبي كمفتاح لما طرح من أفكار إصلاحية نهضوية، لا سيما بالنسبة لمن يروا ان الرجل تجاوزه الزمن، فهم أحوج الناس لفهم أفكاره ككتلة واحدة تمثل نظرية شاملة لقضية النهضة التي يتطلع إليها العالم الإسلامي منذ قرون.

التهامي مجوري
22 و 29 أكتوبر 2015

المصدر: يومية الشروق

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version