الكل يتذكر مبررات دعاء إقصاء الإسلاميين من الخريطة السياسية والمحرضين على الانقلاب عليهم بعد أن زكتهم الصناديق، بحجة أن “الإسلاميين سيستعملون الديمقراطية سلّما للوصول إلى الحكم ثم يأخذون السلم معهم”، كانت تلك الذريعة التي على أساسها أجهضوا عدة تجارب وتسببوا في وديان من الدم. كانت تلك الذريعة عن مخاوف مفترضة. وماذا كان الواقع؟

بادئ ذي بدء، لم يشهد تاريخنا العربي المعاصر أن وصل حزب إسلامي عبر الصناديق ثم بقي متشبثا في الحكم، لا في الجزائر ولا في مصر ولا في غيرها، والسبب بسيط، لأن في كلا البلدين رغم فوز هذه الأحزاب في انتخابات شفافة وتعددية لم تتح لهم أصلا الفرصة لملء مقاعدهم المشروعة في البرلمان الذي انتخبوا له، حتى تم الانقلاب عليهم من قبل من تم إقصاؤهم من طرف الشعب، فكيف لهم إذن التشبث بحكم لم يمكنوا منه ابتداءً، ناهيك عن التمسك به عنوة بعد انتهاء ولايتهم والانقلاب على الديمقراطية. في حين، يثبت الواقع أن العكس هو ما حدث، مثلما تبرهن عليه تركيا اليوم، وليبيا قبلها عندما خسر التوجه الإسلامي الانتخابات بعد الثورة، فقبِل بالنتائج ولم ينقلب على الصناديق رغم توفر السلاح، على عكس ما جرى في تونس التي قلب العلمانيون الدنيا لإجهاض تجربة المرحلة الانتقالية بالتحريض على حزب النهضة الفائز في الانتخابات بعد الثورة.

لقد جاءت تجربة تركيا لتبين أن كل ما كان يروج بأن الديمقراطية سلم يستعمله الإسلاميون للوصول إلى الحكم ثم يأخذونه معهم، ادعاء باطل فندته الوقائع على الأرض. انتخابات تركيا نجحت نجاحا باهرا لا يمكن أن ينفيه إلا جاحد، والنجاح الذي اقصده لا يتعلق بفوز أو هزيمة هذا الطرف أو ذاك، تلك مسألة أخرى. النجاح المقصود هنا هو العبرة التي يمكن استخلاصها من هذه التجربة التي قدمت بحق درسا حري بكل أنصار الحريات والشفافية الحقيقية الاتعاظ به، ومن أبرز ملامح هذا النجاح، أنها أثبتت بأن المواطن هو من يحدد فعلا لا قولا من يحكمه وطبيعة نظام الحكم، وليس لغيره أن يقرر بدله، وليس من حق أي كان أن يحجر عليه بحجة “قصوره” مثلما ألفنا سماعه في مناسبات عدة في أوساط معروفة بتقمص مبادئ والسقوط عند امتحان الواقع، كزعمها الدفاع عن حقوق المواطنين وكرامتهم، وما أن سنحت الفرصة لترجمة هذه المزاعم حتى سقطوا بشكل مروع، مثلما كشفته التجربة المصرية وقبلها الجزائرية. ومن بين الإنجازات الأخرى التي تمخضت عن التجربة التركية الأخيرة أنها كشفت زيف البعبع الذي طالما أشهره أنصار التخويف من مخاطر ترك الشعوب الاختيار بحرية، كما بينت التجربة أن المحرضين على الشعوب في الوطن العربي يشكلون نسيج الدولة العميقة، أي جميع المنتفعين من النظام القائم الذين دأبوا على تبرير ودعم الدكتاتوريات العسكرية، بصفتها الحصن المنيع لحماية الوطن.

جرت إذن انتخابات تركيا، ومثلما كان متوقعا فاز فيها حزب العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى لكن دون الحصول على الأغلبية التي كان ينشدها رغبة منه في إرساء نظام رئاسي، ورغم ذلك لا زال يمثل الرقم الصعب، إذ تعد هذه الانتخابات الحادية عشرة التي يكسبها خلال ثلاثة عشر عام، سمحت له بالحصول على ثقة واسعة بين المواطنين من مختلف الأطياف، ليس بالشعارات وإنما بفضل وفائه بالوعود التي قطعها على نفسه حينما بدأ حياته السياسية، بنقل تركيا إلى قوة اقتصادية كبيرة، وإحداث نقلة نوعية في التحول نحو المزيد من الديمقراطية خلال تلك السنين الثلاث عشرة، وإعادة الجيش خلال تلك الفترة إلى ثكناته، وإشراك الأكراد في العملية السياسية وتبوء موقعهم وحقهم المشروع بعد ان أقصتهم الكمالية العسكرية العلمانية طيلة عقود وشنت عليها حربا شرسة. لقد قاد حزب العدالة والتنمية، الطريق باتجاه وقف لإطلاق النار وتحقيق انفتاح غير مسبوق على الأكراد، في حين كان الجيش التركي قبل واحد وعشرين عاما يضرم النيران في قرى الأكراد، وكان إنكار المسألة الكردية هو سيد الموقف في تركيا بأسرها. وكانت اللغة الكردية محظورة. وشهدت تلك الفترة اختفاء ثلاثة آلاف قرية.

تدل هذه التجربة أيضا أن الديمقراطية في تركيا قادرة على لجم طموحات أي حزب أو شخصية من الهيمنة على الساحة السياسة، بما لم يشهده تاريخ البلاد منذ عهد مؤسس الجمهورية التركية كمال أتاتورك، كما أن هذه النتيجة تحمل في طياتها رسالة دقيقة ومزدوجة في الوقت نفسه، فمن جهة يبرهن الناخب التركي أنه لا زال يثق في حزب العدالة والتنمية على ما أنجزه لصالح البلاد على المستوى السياسي والاقتصادي والديمقراطي، لكن من جهة أخرى لا زال هذا الناخب غير مطمئن بعد للانتقال إلى نظام مغاير ويرى في الوقت الراهن سلامة البلاد ضمن النظام القائم على البرلمان.

كما تعد هذه الانتخابات نجاحا باهرا في حد ذاتها لأنها أولا خيبت آمال وفندت مزاعم كل من كان يخوف من حزب العدالة والتنمية باعتباره حزبا “إسلاميا”، ويحذرون منه بوصفه نظام حكم شمولي سيفرض رأيه (حسبهم) بالحديد والنار وأنه سيرفض أي نتيجة لا تحقق له مطامعه، فيلغي نتائجها، ونجحت ثانيا لأنها أثبتت أن صوت المواطن هو وحده الفيصل، ونجحت ثالثا لأنها أثبتت أن الحزب الحاكم وضع مصير ومستقبل البلاد والعباد فوق كل اعتبار عكس ما كان يروج له لترهيب المواطنين.

أكبر نجاح حققته التجربة تكمن في إقرار النتيجة التي تمخضت عنها صناديق الاقتراع مؤكدة سيادة المواطن، ولم يخرج الجيش لكسر الصناديق وسحق المصوتين، ولم يقم النظام الحاكم بانقلاب رغم تمركزه في كل مؤسسات الدولة المنتخبة، ولم يفتح المحتشدات لإيواء المعارضين ولم يزج بهم في غياهب السجون والمعتقلات السرية ولم يحل الأحزاب المنافسة والمناوئة له، ولم ولم ولم… مثلما كان يحذر منه ويهدد أصحاب مقولة السُلّم، عكس ما فعلته الطغم العسكرية والمافيا السياسة المالية (“غير الإسلامية”) التي فعلت كل ذلك فعلا لا افتراضا دون أن يعترضها “الديمقراطيون” داخل البلاد، على غرار ما وقع في مصر، عندما صرح الجنرال السيسي بمعارضته الديمقراطية بحجة أن المصريين ليسوا مستعدين لها، وأن نظامه الانقلابي هو الضمانة الوحيدة للاستقرار، ومن ثم ليس أمام البلاد سوى واحد من خيارين، إما الدكتاتورية العسكرية أو “الدولة الإسلامية”.

تمت انتخابات تركيا وبينت أن حزب أوردوغان، الذي رغم استمرار تبوئه المرتبة الأولى بين الأحزاب، لم يأخذ معه ذلك السُلم، عكس ما فعله “العلمانيون” سواء من العسكر أو من غير العسكر. هل نذكر بمصر؟ وقبلها الجزائر؟ لم يكتف هؤلاء “المستنيرين” بأخذ السُلم معهم بل أخذوا البلاد والعباد وأحرقوا آمال الشعوب وأجسادهم، والوقائع تثبت ذلك وتتحدث عن نفسها، وثمارها المرة ماثلة أمام الأعين، والكل شهد كيف أن الذين يتهمون الإسلاميين باستخدام الديمقراطية للقضاء عليها، اقترفوا أضعاف الجرم الذي كانون يتهمون به خصومهم، وتورطوا في دعم كافة الأنظمة المستبدة العسكرية والمدنية.

وأخيرا، في ضوء تجربة تركيا ومأساة مصر والجزائر، لنا أن نسأل ماذا لو ترك خفافيش الظلام التجربة تجري مجراها وخيار الشعب يتحقق، وتنتهي العهدة الشرعية لتقول الشعوب بعد ذلك كلمتها، سواء بتجديد تزكية الفائز إن أفلح أو إقصائه إن خيب ظنها، ألم تكن جزائر التسعينيات حققت انجازا عظيما وتجربة رائدة كانت ستنتفع بها الدول العربية قاطبة وربما جنبت مأساة مصر وليبيا وسوريا واليمن، وعبدت الطريق لتحول ديمقراطي سلمي وتداول سلس للسلطة؟ لكن للأسف أجندة الاستبداد كانت لها أولويات واهتمامات أخرى، وها نحن نشهد الآن ثمن المغامرين الذين خوّلوا أنفسهم احتكار حق القرار في مصير البلاد، ثمن باهظ في الجزائر مثلا، وبكلل المقاييس، ربع مليون قتيل، عشرات الآلاف من السجناء والآلاف من المختطفين، وعشرات الآلاف من الأيتام والأرامل ومئات الآلاف من السجناء وكذا في المنفى، إضافة إلى السقوط المروع اجتماعيا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا وأخلاقيا حتى كدنا لا نسمع اسم الجزائر إلا في سجلات الكوارث التي تزكم الأنوف.

ألا يحق لنا إذن أن نسأل، من سرق سُلّم الديمقراطية، بل وسرق البلاد وأحرق العباد؟

رشيد زياني-شريف
23 جوان 2015

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version