لله ما أعطى ولله ما أخذ، مصابنا جلل في فقدان أحد مشايخنا ورئيس فيدراليتنا الإسلامية في سويسرا، مصابنا جلل في وفاة الشيخ الدكتور هشام أبو ميزر تغمده الله بواسع رحمته، حقا لقد رزئت الأمة والوطن بوفاته، نعم الرجل كان، ونعم العلماء كان، ونعم الدعاة كان ولا نزكي على الله أحدا.. الرجل لم يهدأ له بال على حال الدعوة الإسلامية في أوروبا وعظا و إرشادا وكتابة بلغات عديدة ونصحا وحوارا وبحثا علميا وترشيدا لمسيرة الدعاة في سبيل الله في ديار الغرب هذه..

ما عسانا أن نقول سوى ما علمنا المصطفى عليه الصلاة والسلام “لله ما أعطى ولله ما أخذ وإنا لله وإنا إليه راجعون”، أراده الله إلى جواره سبحانه، فارتقت روحه الطاهرة إلى أعلى عليين تبتغي رضوان ربها، يوم الخميس الماضي  14 ماي، وهو يوم عطلة في أوروبا كلها تقريبا، لكي يصل الخبر إلى الناس كافة وإلى أفراد جاليتنا خاصة وهم في بيوتهم يمرحون و يفرحون، فيأتي الموت هادم اللذات ليذكرنا بأن “الموت كأس و كل الناس شاربه”، أو كما قال الشاعر الحكيم:

كل ابن انثى و إن طالت … سلامته يوما على ألة حدباء محمول.

نعم رحل الدكتور هشام  ذاك الرجل العارف المؤمن، الذي عمل على إحياء أثر القرآن و السنة المطهرة في النفوس تطبيقا لا كلاما مع ثلة من إخوانه في فيدراليتنا الإسلامية، فكانت  تنقلاته لتوحيد صفوف المسلمين بين الجاليات الإسلامية المتنافرة والمتناثرة في ربوع سويسرا على تعدد لغاتها ومدارسها ومذاهبها وأجناسها من ترك وعرب وألبان وسويسريين و أوربيين كلها تأكيد على وحدة الصف وضرورة إعادة الارتباط بالمسلمين بعضهم ببعض رغم إكراهات السياسة حينا وموروثات الأوطان أحيانا..

رحل الدكتور هشام  ذاك الرجل العربي الفلسطيني الذي يُسلم عليك بكلِّيته، يده ولسانه وأسنانه وعينيه، فإن كنت له صديقاً وبه عارفاً أيقنتَ أن وراء ذلك كلّه قلباً نابضاً بحب الخير والناس، فقلبه إلى السلام والوداد أسرع من جوارحه .. متواضع إلى درجة أنه لا يرى نفسه، وصادق إلى حدّ مجانبة الكذب في التصور والتخيّل، لا يحب المظاهر ويخاف من عواقبها، أمين على الصداقة حتى مع غير المسلمين، بل على صحبة ساعة، وهو على من يصادق ويصحب حريص وحانٍ وله مُواصل.

إنه ديدن أخونا الدكتور هشام، ذاك الرجل الطبيب الذي أخذ على عاتقه أن يداوي القلوب والعقول المكلولة من وباء تمزق الهجرة  التي عاشها هو بمرارة و هو لازال طفلا في مشرقنا العربي، لما فقد والده في مسقط رأسه بالقدس الشريف في فلسطين السليبة وعمره 12 سنة، كما ذكر لنا ذلك في حوار  مطول (َ1)، أجراه كاتب هذه السطور معه في الصيف الماضي لأسبوعية “البصائر”، جاء فيه على الخصوص قوله، لنا عن سيرته الذاتية:”عندما بلغت العاشرة من عمري، مرض والدي مرضا عضالا، توفي على إثره رحمه الله و عمري 12 سنة.  لقد حزنت حينها حزنا شديدا، فكرت بعدها في دراسة الطب، لأكون مثل هؤلاء الذين يضحون بأنفسهم وأوقاتهم في سبيل الآخرين.. ولما كانت يومها ظروف عائلتي المادية صعبة، يسر الله لي أن  حصلت على منحة للذهاب  للدراسة في يوغسلافيا، بمدينة سرايفو بلدة بوسنية جميلة جدا، جل سكانها كانوا من المسلمين. لذا لم أشعر هناك بأية غربة.. بعدها نصحني أحد أساتذتي أن لا أبقى طويلا في يوغوسلافيا حرصاً على عدم ضياع الوقت ونصحني بالذهاب الى أرقى الجامعات، أي الى مدينة هايدلبارغ الألمانية، وبعد دراستي للغة الألمانية بإتقان، بدأت دراسة الطب.. بعدها انتقلت الى مدينة انسبروك النمساوية، وتخرجت منها بتقدير جيد جدا. ثم أتيت الى سويسرا للتخصص في الطب الباطني، المتعلق بأمراض الكلى. حيث عينت رئيسا للأطباء في المركز الطبي في مدينة سانت جالين. بعد سبع سنوات في ذلك المركز قررت فتح عيادتي الخاصة، حيث بقيت أعمل فيها لمدة ثلاثين سنة. كان عمري آنذاك  قد قارب السبعين سنة. عندها فضلت التقاعد وجئت الى مدينة سانت-قالين حيث أقطن الآن”.

أنتخب الدكتور هشام، منذ تأسيس الفدرالية الاسلامية بالشكل الديمقراطي وأعيد انتخابه مرتين. كما أختير من بداية عام  2014 رئيسا لمجالس الديانات السويسري لمدة العامين المقبلين كأول مسلم يتسلم زمام أمور هذا المجلس الأعلى على المستوى السويسري بشكل عام.

أما عن نشاطه الإسلامي فقد ذكر لنا أيضا تفاصيل عن تأسيس “فيدرالية الجمعيات الاسلامية بسويسرا” عام 2006، بقوله ” .. ومن المهام الرئيسية للفيدرالية التمثيل الاسلامي لدى المؤسسات سياسية، إدارية أو كنسية، والدفاع عن المصالح الاسلامية وتوضيح أمورنا للجهات المختصة.. بحيث نطالب بحقوقنا كمواطنين مسلمين يريدون التعايش مع الآخرين من السكان الأصلين”.

طبعا، معرفة كاتب هذه السطور بالدكتور هشام تعود لأزيد من عقدين أو أقل قليلا، بحيث كان يحدثني عن خصاله وموقفه، استاذنا الشيخ عمار طليبة أصيل مدينة عنابة، لما كان إماما ومشرفا على مسجد سانت قالن، محل سكن الدكتور هشام. لكننا لم نلتقي إلا بعد تأسيس الفدرالية الوطنية بسنة، ولأول لقاء بيننا اقترحني لأكون ضمن مكتب الفدرالية، فترددت لأن الأمر يتطلب مهام وتنقلات وأتعاب ووقت، فقلت له نترك الموضوع للدورة المقبلة أين يجتمع المجلس للانتخابات وننظر ماذا يفرز الصندوق، فحملني مسؤولية الحضور بقوله لي :” فيدراليتنا في حاجة ماسة إلى ممثل الجهة السويسرية الناطقة بالفرنسية، ولم يعد لنا ممثل منذ سفر أحد الإخوة إلى المشرق، وأنت أنسب لنا خاصة في الجانب الإعلامي”، و كان أستاذنا الدكتور هشام هو الذي رشحني للمكتب، فقبلت من باب مكرها أخاك لا بطل، ومن يومها أصبحت عضوا في المكتب الفدرالي معه، ومن يومها أيضا ونحن نلتقي في لقاءات دورية، ويسر الله لنا أن نظمنا مجموعة مناشط آخرها بمناسبة الذكرى العاشرة لأتحاد الجمعيات الإسلامية في مقاطعة فو الناطقة بالفرنسية صيف العام الماضي، وكان لنا الشرف، أن افتتح  الدكتور هشام الحفل بكلمة أمام مسؤولي المقاطعة وممثلي جاليتنا الإسلامية، وحرصت عليه ليحضر معنا رغم أنه كان خارجا لتوه من عملية جراحية لإحدى ساقيه.

أما أخر تواصل بيننا  فكان منذ أزيد من شهر فقط، كان من المفروض أن نحضر سواء في ملتقى ” البورجي” بباريس، فما إن طلبت منه الاستعداد للذهاب لفرنسا لتمثيلنا في هذا الحفل الأوروبي الإسلامي الذي يدوم أربعة أيام، حتى اعتذر بقوله:” يا أخي فلان، أعتذر للأخوة في فرنسا و قل لهم أن لا ينسونا بالدعاء، فأنا مبرمج لتجر لي 3 عمليات في الساق وأسفل الظهر في المستشفى في نفس الفترة”، فاضطررنا أن نعتذر للإخوة في باريس..  ثم حدثني أنه منذ عودته من الحج و هو يشعر بتعب في ساقه، لكنه ألم عابر بحول الله كما قال لي، ثم تجاذبنا أطراف الحديث حول “مشروع تكوين الأئمة بجامعة فرايبورغ” ، و ملف الاعتراف بالدين الإسلامي في بعض المقاطعات الناطقة بالفرنسية، شاكرا لي  وصول مجموعة أعداد “جريدة البصائر” التي أرسله له دوريا.

وبعد أن أجريت له العملية وتماثل نوعا ما للشفاء، وأطلع على مقالي حول رحيل الدكتور ماهرحتحوت (َ2) الذي ذكرت فيه كتاب “قراءة في العقل المسلم ” لشقيقه الدكتور حسن حتحوت بالإنكليزية(َ3)، إتصل بي الدكتور هشام وطلب مني نسخة الكتاب بالألمانية، وفعلا طلبت النسخة من أحد الزملاء ووصلتني بعد يومين، وحاولت حينها الاتصال به هاتفيا لأرسل له الكتاب على عنوان المستشفى بمدينة زيوريخ لكن هاتفه لا يرد، فاتصلت بكاتب فيدراليتنا الأخ الشاب ريحة سويسري من أصول تركية في الثلاثين من عمره، لأخذ منه العنوان والمعلومات عن صحة أستاذنا الدكتور هشام،  فأخبرني أن الدكتور هشام في حالة صحية صعبة و يخشى أن تكون العملية الجراحية لم تنجح، وأخبرني أن شقيقة الدكتور هشام جاءت من فلسطين وهي ملازمة له في المستشفى، قائلا لي إن أفراد عائلته يطلبون منكم الدعاء له، فإن كان دورك في الخطبة هذا الأسبوع لا تنساه بالدعاء، فضحكت أنا وقلت له “يا أخي أن لا أدعو للشيوخ بالشفاء فهم أدوا ما عليهم، مهمتي أن أدعو أولا للعزاب أمثالك بالزواج” ، فقال لي متبسما، بلكنة عربية فرنسية “أنا متأسف يا أستاذ مصطفى، لأن عقد زواجي الجمعة المقبلة، وأسفي على الدكتور هشام لا يستطيع الحضور لأنه مريض..” وتشاء الأقدار أن يموت الدكتور هشام يوم الخميس، ويعقد قران كاتبه مساء الجمعة”، و قد حدثني يومها الأخ ريحة، قائلا أن الناس يباركون لي الزواج ويقولون لي:” لم نرى رجلا مقبلا على الزواج وهو حزين مثلك ؟”، فأضطر دائما بالرد للضيوف بقولي:” معذرة أنا حزين لأن الدكتور هشام إنتقل إلى رحمة الله يوم أمس فقط، وسأحاول جهدي لان أكون فرحا بالزواج، لكني لا أستطيع ، فالموت مصيبة و صعبة لرجل مثلي لازم الدكتور هشام سنوات”  ..

نعم الموت كذلك وأكثر، صحيح أن الموت حق، لكنه مصيبة و قد سماه الله كذلك حين قال:” مصيبة الموت”. و لكن المصيبة حين تكون مصيبة في العلماء فإنها شيء آخر، “فليس هلكه هلك واحد ولكنه بناء قوم تهدم، ومكتبة حرقت وأشلاء انتثرت” كما يقال .. و نحن نتألم جميعا لا لفراق الجسد، وإنما نتألم لأن مصباحا انطفأ، ولأن لسانا سكت، ولأن قلبا مفعما بمحبة الإسلام وبمحبة هذه الامة توقف عن النبض،  ولان برنامجا طموحا بالشوق إلى الغد الكريم للإسلام في هذه الديار تعثر.. هذا المنبر الذي توقف وهذه المنارة التي هوت وهذا اللسان الذي سكت هو الذي نتألم له الآن لفراقه ونبكي لبكائه، ونسأل الله له القبول وأن يدخله جنة عرضها الموات والأرض أعدت للمتقين.

أملنا في الصالحين أمثاله من إخواننا الذين يحملون المشعل بعد رحيله، ونعتقد جازمين أن أمتنا ووطننا فيهما من يعوضه، ويواصل المسعى وحمل المشعل، برجال ونساء يدافعون عن القضية ويلوذون عن حماها، بحول الله.. إن الدكتور هشام الذي ودعناه اليوم ترك مهام ومشاريع و ورش مفتوحة يجب أن ننتبه إليها ونرعاها، لأننا مطالبون اليوم وغد بإتمام مسيرة البناء، فالعقول متوفرة والاياد المتوضئة ممدودة والإرادة موجودة والأجواء مناسبة .. بمثل كل ذلك يجب أن نواصل المسير، و الله على كل شيء قدير..

وداعا أيها الرجل الصادق المتصدق بماله و جهده، وداعا أيها الطبيب الذي لم يقعده المرض عن دعوة الناس للخير، كل الناس مسلميهم ومسيحييهم .. نودعك اليوم  يا شيخنا وعيوننا تذرف الدموع، وألسنتنا تلهج بالدعاء ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.. رحلتَ يا ذا النَفَس النفيس، فالله معك وهو وليك وطبتَ حياً وميتاً وملحقاً بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.. كن مطمئناً على أهلك وإخوانك، فاحمد بعد الله لهم ولسائر إخوتك وللوطن العزيز، فعلى هذا عاهدت ربك أمامنا، وإلى أن نلتقي بفضل الله جلت قدرته على حوض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، انعم في روضٍ من رياض جنة الله: “إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدرٍ”.. رحمكَ الله وآنسك الله، وعوضك الله الجنة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، و “إنا لله و إنا إليه راجعون”.

محمد مصطفى حابس
20 ماي 2015

هوامش:

1ـ حوارنا مع الدكتور هشام أبو ميزر (البصائر عدد717، ص: 12- 13)

2ـ مقالنا في دنيا الوطن:” الجالية المسلمة في أمريكا تؤبّن الدكتور ماهر حتحوت “

http://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2015/03/04/672315.html

3ـ كتاب “قراءة في العقل المسلم ” للدكتور حسن حتحوت

Reading the muslim mind / Muslimisches denken vertehen /

© ATP (American Trust Publications)-2011

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version