“لو كان الغاز الصخري يدخِل الجنة ما قبلته”، تصريح خطير وجريء قد يستغربه البعض، ومما يزيد من غرابته أن قائله مواطن من ورقلة المعروف أهلها بسعة الصدر والحِلم والتسامح، صرخة أطلقها هذا المواطن أثناء برنامج “الجزائر تسمعك” على قناة العصر، بمناسبة وقفة 14 مارس لمناهضة استغلال الغاز الصخري. وقد يسأل المرء ما الذي دفع هذا المواطن الصبور الذي تجرّعت منطقته عقود من الحرمان وشظف العيش إلى أن يصرخ بملء فيه ليعبّر عن يأسه من وعود من وثق بهم دهرًا فأمعنوا في الكذب عليه وازدرائه.

عمى هذه السلطة السافر واستخفافها الفج بالموطنين وإمعانها في ازدرائهم دون أدنى اكتراث هو من فتح أعين كل من حاول جاهدًا تصديقها والذهاب بعيدًا في تحمّل هذا السيل من التضليل والتزييف بجلد حتى فاض الكأس وصرخ مثل هذا المواطن وغيره، كتلك المواطنة من عين صالح التي خطبت السلطة بكلمات من ذهب فخلّدت اسمها واسم هذه المنطقة الصبورة والمنتفضة، ولسان حالهم يقول “كفى! لم نعد نثق بكم ولا بسحركم ولا أباطيلكم، ولو أخرجتم لنا يدًا خضراء ما وثقنا بكم بعد اليوم”، هذه هي الرسالة التي أراد تمريرها هذا المواطن، ردًا على صلف هذا النظام المنطوي على نفسه الذي اعتقد انه يمكنه مواصلة كذبه دون نهاية ودون تبعات، هذا الصلف قد استفز أكثر مواطنينا حِلما، فجعلهم يكفرون به وبكل ما يأتي على لسان سحرته والعالفين من فتات موائده.

في واقع الأمر لم أكن أنوي التطرّق إلى موضوع الغاز الصخري، أضراره المحتملة ومنافعه المزعومة، ليس لأنّ المسألة غير ذات أهمية، بل أجزم أنها تستحق بالفعل هذه الفورة والنقلة النوعية من المواطنين لكشف مرامي الساسة وأهدافهم الخبيثة، لكنني اعتبرت أنّ المسألة الأكثر أهمية وخطورة تكمن في النهج المتبع من قِبل هذه السلطة طيلة عقود وتمريرها المشاريع الضخمة خلسة دون علم المعنيين المتضررين منها ومن كافة القرارات المتّخذة باسمهم ورغمًا عنهم. إنّ قرار السلطة وإصرارها المستميت على استغلال الغاز الصخري ليس القرار الأوّل من هذا النوع الذي يُتّخذ في تجاهل تام لحق المواطنين في معرفة ما يحدث في محيطهم ويؤثر على معيشتهم، فضلًا عن إنكار حقّهم في المشاركة، باعتبار أنّ أصحاب القرار يعتبرون أنفسهم أصحاب “تفويض مقدّس” دون سواهم. لب المفسدة وركنها الركين يتجاوز إذن مسألة الغاز الصخري ويتعلّق بآلية اتخاذ القرار بشكل انفرادي متعجرف مع إبعاد المواطن عن القرارات السيادية التي يُفترض أنه صاحبها، مثلما اتضح بشكل جليّ وصريح خلال هذه الحرب المفتوحة حول الغاز الصخري.

صرخة مواطن ورقلة تلخّص شيئًا جوهريًا ومفصليًا: انهيار آخر بصيصثقة في الساسة ووعودهم، واستنفاد بحر من حسن الظن والطيبة استغلها تجار الأوهام حتى تجلّت نتيجة هذا الاستخفاف بهم الذي لم يجنوامنه سوى البؤس والحرمان من أبسط ضروريات الحياة، وهم يشهدون عاجزين بأم أعينهم خيرات باطن الأرض التي يعيشون على ظهرها تُنهب وتُسرق ليستغلّها غيرهم، وعندما رفعوا أصواتهم بعد صبر أيوب، ليقولوا كفى ظلمًا واحتقارًا، انهالت عليهم التُهم الجاهزة من قبيل “العمالة” للقوى الأجنبية، وتهديد وحدة الوطن!

نعود الآن لنتساءل ماذا وراء إصرار السلطة في المضيّ قُدُمًا نحو الاستثمار في الغاز الصخري في تحدّ فجّ لموجة الرفض التي تزيد اتساعًا كلّ يوم والمنذرة بمخاطر جمّة؟

قبل محاولة الجواب على ذلك، هناك سيل من الأكاذيب التي روّج لها مسوّقو الغاز الصخري في محاولة يائسة منهم لكسر موجة الرفض الشعبي غير المسبوق، نذكر منها:

– لم يقتصر حفر الآبار التي سُمّيت بالاستكشافية على منطقة عين صالح بل بدأت في أماكن أخرى وقبل 2014 دون أن يعرف أحد العدد الحقيقي للآبار، وجاءت زيارة الكاتب الأمريكي للطاقة إلى الجزائر العاصمة وكذا مسؤولين في الشركات الضخمة مثل هاليبرتن وأنادركو، لتكشف أن هذه الشخصيات ما كانت لتتنقل إلى الجزائر فقط لأغراض استكشافية مثلما تدّعيه السلطة والطمأنة على سلامتها بل جاءت للدفاع عن حصتها من الغاز الصخري وبكميات كبيرة ودون تأخير.

– أما عن التحكّم في تكنولوجية البيئية وحماية الموارد المائية، فلا أحد يصدّق ذلك، فإذا كانت الدول التي تحترم شعوبها وتعمل أقصى ما في جهدها لمراعاة مصالحها لم تستطع ضمان ذلك، فكيف لنظام فاقد للشرعية وللمسؤولية لم يراع يومًا مصالح المواطن وغير مؤتمن على رعاية مصالحه، كيف له أن يضمن إجراء تحاليل دورية لمياه الآبار والتأكّد من خلوّها من المواد المسرطنة والمشعّة، مثلما بشّرنا به الخبير الأمريكي الذي جاءت به سونطراك لطمأنة المواطن عن سلامة أراضيهم ومياهها الجوفية من كلّ مخاطر محدقة!

– فيما يخص “الخبراء” سواء المحليين أو الدوليين، فقد حان الوقت لنصارح أنفسنا، لم يعد مقبولا التغاضي عن أراجيفهم “العلمية” وهم يروّجون في إطار المهام الموكلة إليهم الأباطيل لتسويق بضاعة السلطة (منها الغاز الصخري)، قرّرت فرضها وجنّدت لها جوقة من خبراء أدعياء، وهم يصرّحون بالشيء ونقيضه دون حياء، وفي الوقت ذاته، يسفّهون ويخوّنون كلّ من يخالفهم الرأي، حتى جعل البعض يصف عملهم بالدعارة الرسمية يأخذ أصحابها مقابل رذيلتهم. مثال على ذلك وزير الطاقة الحالي الذي وصف من يعارض استخراج الغاز الصخري بـ “من هبّ ودبّ”، وغاب عنه أنّ “من هبّ ودبّ” هم كلّ من يفتقر إلى الحجج العلمية، فيستبدلها بالقرارات الفوقية وفرضها على الجميع في غياب أيّ نقاش أو حوار أو شرعية.

– كما تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الفئة “الوظيفية” لا تقتصر على “الخبراء”، بل تضم أيضًا الوزراء ومدراء المصالح وأطر في المؤسسات والمنظمات وإعلاميين وكلّ من بَدَلَ تحمّل مسؤولياته الجسام ومصارحة المواطنين بموجب الوظيفة والأمانة الملقاة على عاتقهم، فضّل بيع ضميره مقابل دراهم معدودات، والتصريح بما هو مطلوب منه بدافع راتبه المنتفخ.

– والمفارقة العجيبة أنّ هذه الجوقة تبرّر مساندتها للاستثمار في الغاز الصخري بدعوى أنّ التحوّل نحو الغاز الصخري ضرورة استراتيجية ضمن سياسة طاقوية انتقالية، في حين كلّ الأدلة تُثبت أنّ التحوّل الطاقوي الناجع والسليم يقتضي عكس ذلك تماما، أي الانتقال من طاقة ملوّثة بيئيًا ترهن مصير أجيال، إلى بدائل طاقوية نظيفة ومتجدّدة يمكن التحكّم فيها وتحسين استخدامها.

ماذا سيقول هؤلاء بعد انتهاء مهامّهم؟ كنّا العبد المأمور؟ لم نكن نستطع فعل شيء، لم نكن نعلم، هل يكفي ذلك لتجنّب تبعات كذبهم وتضليلهم؟ أليسوا مسؤولين بشكل مباشر عن كلّ ضرر لحق بالبلاد والعباد؟ بل فيهم حتى من يجرؤ دون حياء ليقول عكس ما كان يفعل ثم يريد منّا أن نشكره ونبجّله وننصب له التماثيل على شجاعته خارج الزمن.

لقد ولّى زمن الدجل والكذب والتضليل ثم الإفلات من المسؤولية، لا بدّ من تسجيل وتوثيق جميع تصريحات وحجج ومواقف وأفعال المسؤولين، خاصة بالنسبة للقرارات السيادية التي رهنت مصير البلاد والعباد، والتي تمّ فيها إقصاء المواطنين وتجريمهم ومتابعتهم قضائيًا وقمعهم، لا لشيء إلا لأنهم حاولوا التعبير سلميًا عن رأيهم. لا مناص من تحميل هؤلاء المسؤولية حتى ولو بعد حين، وتذكيرهم بصنيعتهم الموثّقة، لأنهم كانوا أطرافًا فاعلة منفّذة في مراكز حساسة وتقاضوا عنها أجورًا يسيل لها اللعاب دون أن تُفرض عنهم عنوة، وبذلك تبطل حججهم، ولا بدّ لذاكرة الشعب أن تظل يقظة لكيلا يفلت شداد الآفاق في الأخير من تبعات جرائمهم.

وبعد هذا التذكير نسأل ما سبب إصرار السلطة على تنفيذ مخطّطها في استخراج الغاز الصخري رغم تفاقم موجة الرافضين لهذه السياسة وتكشف مخاطرها على المواطنين ومحيطهم؟

يبدو واضحًا أنّ السلطة تورّطت في إعطاء وعود لشركاء أجانب لا يردّ لهم طلب (في إطار صفقة العهدة الرابعة مقبل الغاز الصخري) ولا تستطيع فكّ عرى هذه الوعود مهما كلّف ذلك الشعب الجزائري من ويلات، منها سقوط ضحايا التصادم مع أجهزة السلطة أو تبعات تلوّث المياه الجوفية بفعل المواد المسرطنة أو المشعّة، بحيث يصدق فيهم قوله عز وجل: “وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ” (النمل، 14).

نشير في هذا الصدد إلى سوابق مفزعة كثيرة لا يعلم مداها إلا الله، نذكر منها مقايضة العهدة الثالثة والعبث بالدستور سنة 2008 وفتح العهدات مقابل تعويضات بملايير الدولارات ظفر بها الشريك الأمريكي في مؤسسة (B.R.C) الجزائرية الأمريكية. ومن هذا المنطلق قد تجني الشركات الفرنسية والأمريكية العاملة في الغاز الصخري بالصحراء تعويضات بملايير الدولارات في حالة إلغاء العقود من طرف الحكومة الجزائرية.

أمام تخبّط النظام في معالجة الموضوع، بات واضحًا أنه لم يكن يتصوّر حجم وإصرار الرافضين وتحمّلهم شتّى أصناف الإرهاب والتشنيع والتخوين الذي مارسته السلطة ضدّهم لثنيهم عن مواصلة الحراك المجتمعي الرافض لسياسات السلطة، إلى درجة أربك هذا الرفض العارم والمستميت السلطة وأخلط أوراقها، فحاولت شتى الحِيَل لإجهاض هذه النقلة النوعية في حراك المواطنين، دون أن تنسى بطبيعة الحال وسائل القمع المختلفة والتهديد بها في كلّ مناسبة دون أن تُفلح في مراميها.

كلّ المؤشرات تبيّن أنّ معركة الغاز الصخري ستكون الصخرة التي سينكسر على ظهرها استبداد هذا النظام وعجرفته، خاصة بعد أن أيقن المواطن، بعد عقود مريرة من الإذلال، أنّ استمرار هذه النظام معناه استمرار سياسته الكاذبة المضللة، واستمرار معاناة المواطنين، وأنّ ذهاب هذه العصابة ضرورة حياتية كفيلة وحدها ببعث الأمل في غد أفضل، كما أنّ هذه التجربة النوعية جعلت المواطن يدرك مدى القوة الكامنة التي يملكها إن هو أحسن توظيفها ووحّد صفوفه ورتّب أولوياته وتجاوز كل ما من شأنه أن يجرّه نحو معارك هامشية.

الدرس الأساسي المستخلص من هذه التجارب هو أنّ أهل الجنوب في عين صالح وقبل ذلك في ورقلة والأغواط وغرداية، قد استوعبوا لبّ المعضلة وتجاوزوا النظرة المتجزئة، فعبّدوا بتضحياتهم وجسارتهم الطريق لتحقيق أمل ممكن تحقيقه، وكشفوا بصمودهم حِيَل سحرة فرعون وملئه أمام عصى موسى عليه السلام، ورسموا بتضحياتهم ووعيهم مسار التغيير الذي أطلّ في الأفق واشرأبّت له أعناق جميع التوّاقين إلى غدٍ مشرق، غد الأمل والحرية، غدٍ لا مكان فيه ولا سطوة لفرعون وسحرته.

ومثلما بدأنا بصرخة المواطن المكلوم التي لخّصت جوهر المعضلة، نختم بصرخة مواطن آخر يردّ فيها التهم العفنة التي دبّجها عبيد فرعون ضدّ الأحرار بزعم محاولة الانفصال عن الوطن، فجاء ردٌّ مفحِمٌ من أهل الديار: “فليرحلوا عنّا، نحن لا نريد الانفصال عن الجزائر وطننا الذي ليس لنا وطنا سواه، كلّ ما نريده هو الانفصال عن هذه السلطة الفاسدة الماكرة”.

رشيد زياني-شريف
26 مارس 2015

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version