الجزء الأول

في الإسلام أحكام وتشريعات تفصيلية في بعض المجالات تذهب في التفاصيل الدقيقة إلى ما لا يختلف فيه وعليه أهل الاجتهاد. وفي الإسلام قيم ومبادئ عامة في مجالات أخرى، تحتاج من أهل الاجتهاد إلى تطوير الممارسات والتجارب والمؤسسات في المجتمع الإسلامي، وابتغاء الخبرة البشرية حيث وجدت لتطويعها وتكييفها لأغراض المجتمع ومقاصد الإسلام.

ولا يتردد بعض الدعاة -الذين لا نشك في صدقهم، وحبهم، وغيرتهم- في إطلاق تعبيرات تعبر عن هذا الحب وهذه الغيرة بطريقة تحتاج إلى مراجعة، فهم قد يسيؤون من حيث يظنون أنهم يحسنون، وذلك حين يقولون مثلاً بأن الأنظمة السائدة اليوم في مجتمعاتنا الإسلامية هي أنظمة باطلة، أو أنظمة كافرة، يجب تقويضها بكاملها، وإعادة بناء أنظمة إسلامية على أنقاضها.

إن المراجعة التي نحتاج إليها لبناء نظام إسلامي معاصر للحكم، أو التعليم، أو الاقتصاد، إلخ، قد توصلنا إلى القول بإن الإصلاح الإسلامي المنشود لا يعني بالضرورة هدم التشريعات والأنظمة والهياكل التنظيمية والإدارية المعروفة في الواقع المعاصر، شريطة عدم التفريط بالقيم والمبادئ الأساسية للإسلام، ومقاصده.

نعم إن الإسلام هدم بعض قيم الجاهلية، وأحل مكانها قيماً بديلة، ومع ذلك فإنه حتى في مجال القيم لم يهدم كل القيم التي كانت سائدة في الجاهلية، فالنبيّ صلّى الله عليه وسلم أكد أنه جاء ليتمم مكارم الأخلاق، -لا ليبدأها، ونوّه بحلف الفضول الذي عقدته بعض قبائل العرب قبل الإسلام لإنصاف المظلوم من الظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولما أسر المسلمون سفّانه بن حاتم الطائي، كلَّمت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقالت: “يا محمّد، إن رأيتَ أن تَمُنَّ علَيّ ولا تفضَحَني في قومي؛ فإنّي بنت سيّدهم، إنّ أبي كان يُطعم الطعام، ويَحفَظ الجوار، ويرعى الذِّمار، ويفكّ العاني، ويُشبع الجائع ويكسو العريان، ولم يَردَّ طالبَ حاجةٍ قطّ، أنا ابنة حاتِم الطائي. فقال لها: “هذه مكارم الأخلاق حقّاً، لو كان أبوكِ مسلماً لترحّمتُ عليه، خَلُّوا عنها؛ فإنّ أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق، وإنّ الله يحبّ مكارم الأخلاق.” ثم إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لم يكتف بإطلاق سراحها، بل أمر بتأمين متطلبات سفرها إلى الشام من ركوبة، ومؤونة، وثياب، وصحبة آمنة. فلما قدمت على أخيها عدي بن حاتم الذي فر إلى الشام حتى لا يواجه المسلمين، وأخبرته بما كان من أمرها، جاء إلى النبي مسلماً، وأسلمت سفَّانة، وحسن إسلامه وإسلامها.

هذا في مجال القيم، أما في مجال التشريعات والهياكل الإدارية، فمعلوم أن المجتمع الإسلامي الأول نشأ في جزيرة العرب التي لم يكن فيها من تلك الهياكل ما كان معروفاً في المجتمعات الأخرى المعاصرة لها، في بلاد الفرس والروم والقبط، لذلك عندما بدأ المجتمع الإسلامي يتسع واحتاج إلى بناء هياكله الإدارية بدءاً بتدوين دواوين الجند والمال، أخذها المسلمون من البلاد الأخرى، بل إن الدواوين قد دونت بلغاتها، فكان لغة الدواوين هي الفارسية في العراق، والرومية في الشام، والقبطية في مصر. ولم تعرَّب الدواوين إلا في أيام عبد الملك بن مروان. وفي عهده كذلك تم لأول مرة صك الدينار الإسلامي، وأنشئت مؤسسات لصك العملة العربية الإسلامية في الشام والعراق وغيرها، ومنع التعامل بالعملات الأجنبية التي كان المسلمون يتعاملون بها، ولا سيما الدينار البيزنطي.

هذا هو حال التفاعل والتثاقف بين المجتمعات والحضارات، وهذا كذلك حال الإصلاح والتطوير اللازم في شؤون السياسة، والتعليم، والاقتصاد، وغيرها. وأيُّ إصلاح إسلامي في تقديرنا، لا بد أن يأخذ بما اصطلحنا على تسميته بمبدأ التكامل المعرفي، فتكون نقطة الانطلاق هي مقاصد الإسلام كما نجدها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والاستئناس بتطبيقات هذه النصوص عبرالتجربة التاريخية الإسلامية، وعدم الوقوف عند ذلك الحد، بل استيعاب الخبرة البشرية للأمم الأخرى قديماً وحديثاً، والوعي الكامل بمتطلبات الواقع المعاصر، وما يتضمنه هذا الواقع من فرص وإمانات وتحديات، ثم توظيف ذلك كله في إبداع رؤية إسلامية إصلاحية معاصرة، وفي بناء المشروع الحضاري المنشود. وعندها سيكون هذا المشروع ليس خيراً للمسلمين وحسب، وإنما إسهاماً، وإغناءً، وترشيداً، للحضارة الإنسانية المعاصرة.

الجزء الثاني

بعض الدعاة الذين لا ينقصهم الإخلاص، يتحدثون عن ضرورة هدم مجتمع الباطل، لإقامة مجتمع الحق على أنقاضه. ولو وافَقْتَهم وخَطَوْتَ معهم خطوةً في الاتجاه الذين يفكرون فيه، لوجدت قصوراً شديداً في تصورهم عن برامج الإصلاح في أي شأن من شؤون المجتمع. وغاية ما يمكن أن يعتذروا به هو أنَّ المجتمع الإسلامي حين يقوم، سوف يجد الحلول لمشكلاته التي تنشأ فيه، أمّا مشكلات المجتمعات القائمة حالياً فإن الإسلام ليس مسؤولاً عن حلّها!

عند الحديث عن ميادين الإصلاح تتبدى أزمة هذا اللون من التفكير بصورة واضحة. فإذا كان الحديث عن النظام السياسي قالوا: إنَّ النظم السياسية المعاصرة كلَّها باطلة، ويجب تقويض هذه النظم، وإعادة بناء نظام الحكم الإسلامي كما مارسه النبي صلى الله عليه وسلم، وكما طبقه الخلفاء الراشدون، وكما عهدناه في قرون الخير الثلاثة، أو في عهد السلف الصالح. فإذا جئنا إلى تفاصيل نظام الحكم الإسلامي هذا وحاولنا تطبيقه في الواقع المعاصر، فإننا سنجد مجموعة من القيم والمبادئ العامة التي قد لا تختلف كثيراً عن القيم والمبادئ التي قادت إليها التجربة البشرية المعاصرة، لكنّنا لا نجد التشريعات التفصيلية لكيفية تنزيل هذه القيم والمبادئ. ذلك لأن هذه التشريعات التفصيلية اللازمة لضمان وحدة الأمة، وتحكيم الشورى، وإقامة العدل، واستقلال السلطات، إلخ، كلها خبرات بشرية تتطور وفق مستجدات الزمان والمكان والظروف المحْتَفَّة. ولن نجد في الهياكل التنظيمية، والنظم الإدارية، التي عهدناها في عصر الخلفاء الراشدين والقرون الثلاثة الأولى ما يُعدُّ ضمانة للالتزام بالقيم والمبادئ العامة للنظام السياسي في الإسلام.

سوف تكون هناك حاجة ماسة إلى اختيار بعض ما كشفت الخبرة والتجربة المعاصرة عن صلاحيته في نظم الإدارة المركزية والإدارة المحلية، وفي طريقة انتخاب أهل الشورى، وتعيين المسؤولين، وحماية الأمن، وتنفيذ الحدود والعقوبات، وتنظيم العلاقات الدولية، وغير ذلك من مسائل إدارة الحكم والسياسة. وسوف تكون هذه الإجراءات في الغالب أقرب إلى الممارسات المعاصرة منها إلى الموروثات التاريخية، الفارق الإساسي هو أن هذه الممارسات تحتكم إلى القيم الإسلامية التي تضمن تحقيق مقاصد الإسلام.

وإذا كان الحديث عن النظام التربوي في الإسلامي فإننا قد نجد من يقول قولاً مماثلاً، قد يصل إلى القول بأنه نظام كفر، أو نظام غربي، علماني، ليبرالي… يخالف الإسلامي جملة وتفصيلاً، ولا بد من هدمه من أساسه وبناء نظام تربوي إسلامي على أنقاضه. وإذا جئنا إلى تفاصيل النظام المنشود فإننا سنجد مرة أخرى مجموعة من القيم والمبادئ العامة التي قد لا تختلف كثيراً عن القيم والمبادئ التي قادت إليها التجربة البشرية في الواقع المعاصر. أما البحث عن التفاصيل التي لا بد من التخطيط لها عند بناء النظام التربوي الإسلامي المعاصر، فإننا في الغالب لن ننطلق من الخبرة التاريخية، بل من متطلبات التشريعات والأنظمة والهياكل المعاصرة للبحث عما يعتَوِرُها من خَلَل في الرؤية الحضارية الإسلامية، لإجراء ما يلزم من تعديل أو تبديل. سيكون هناك قرارات تختص بفلسفة التعليم وسياساته، وخططه وبرامجه، ومراحله ومناهجه، إلخ. وسيكون هناك اختيارات تختص بالتعليم العام والتعليم الخاص، وسيكون هناك تحديد لسن البدء بالتعليم وإلزاميته، وسنواته اللاحقة، وسائر ما يجري في النظم التعليمية المعاصرة.

وعند التفكير في النظام الاقتصادي، سيكون هناك مؤسسات وأدوات وأشكال من التعامل الاقتصادي، وسيكون هناك أسواق وبضائع وأسعار ونقد، كما كان في المجتمع الإسلامي الأول، لكن ذلك المجتمع لم يبدأ من الصفر، بل استأنف ما كان موجوداً، ونظَّمه، وأحاطه بالقيم الإسلامية، لكن بعض الأدوات لم تتغير إلا فيما بعد، فمثلاً لم يشعر المسلمون في بداية الأمر بمشكلة في استعمال الفلوس البرونزية، والدراهم الوَرِقِيَّة (الفضية) والدنانير الذهبية، البيزنطية والساسانية. صحيح أن بعض الروايات تشير إلى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أمر بضرب الدراهم على نقش الكسروية وشكلها، والفلوس البرونزية على الطراز البيزنطي، وأن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ضرب الدراهم والفلوس وعليها اسمه وصورته، لكن التوثيق التاريخي لمسألة تعريب النقود بصورة كاملة، كانت في عهد عبد الملك بن مروان الذي أتم هذا العمل سنة 77 للهجرة، وذلك إثر الخلاف الذي جرى بين المسلمين والبيزنطيين على شروط تصدير الفضة وورق البردي من مصر إلى بيزنطة. فقد كانت أوراق البردي المصدرة تدمغ بدمغة عقيدة الإيمان المسيحية، فطلب عبد الملك إبطال ذلك ودمغها بشهادة التوحيد، فلما وصلت إلى الامبراطور البيزنطي جوستنيان غضب، وأعلن الحرب، وهدد المسلمين بضرب العملة بما يسئ إلى النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، فما كان من الخليفة إلا أن اتخذ قراره باستقلال العملة الإسلامية والاستغناء على العملة البيزنطية التي كانت تعد إلى ذلك العهد عملة عالمية معترفاً بها.

إنَّ الخبرة الإسلامية المعاصرة في مسائل الاقتصاد مَثَلٌ على إمكانية اعتماد بعض الهياكل والأدوات وتكييفها الإسلامي. فعلى الرغم مما قد يؤخذ على خبرة البنوك الإسلامية الحديثة النشأة، فإنها ستكون تجربة صالحة للتطوير فيما لو تبنّى المجتمع نظاماً اقتصادياً إسلامياً كاملاً، في فلسفته ومؤسساته وأدواته. فالبنوك الإسلامية المعاصرة تقوم بما تقوم بها سائر البنوك الأخرى من خدمات مصرفية وائتمانية واستثمارية، وقد أخذت في تنظيمها وإدارتها أشكال البنوك الربوية العادية، مع تطوير بعض الممارسات التي تتجنب المعاملات الربوية المحرمة.

لن يبدأ الإصلاح الإسلامي المعاصر من الصفر، ولن يعود إلى لحظة معينة من التاريخ الإسلامي، ليستأنف منها ما كان سائداً ويواصل البناء عليه. إنما يبدأ من اللحظة الحاضرة، ويعيد الحضور للقيم والمبادئ الإسلامية، ليبني عليها، ومنها، ما يلزم من تعديل أو تبديل في التشريعات والهياكل والنظم.

والله أعلم.

فتحي حسن ملكاوي
فبراير-مارس 2015

المصدر: https://www.facebook.com/fathihmalkawi?fref=nf

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version